تجديد وتنوير

مراد غريبي: بين عبد الجبار الرفاعي وماجد الغرباوي.. من تجاوز الأدلجة إلى تأصيل الأنسنة في الدين

ماهية الدين وعلاقته بالمعنى الوجودي للإنسان، لا تزال أشكل الإشكالات في تفاصيل حركة الحياة الإنسانية، هذا المبحث الشائك والمتشابك والعميق عمق تاريخ الدين في مسيرة البشرية يعد صنو إشكال ماهية المعنى الإنساني في حياة البشر، وفي حقل الأبحاث الفلسفية المعاصرة في الجغرافيا العربية والإسلامية هناك مشروع نقدي جدي وتجديدي مثير للنباهة ومحرك للوعي الحضاري لدى الإنسان العربي والمسلم بدوره ورسالته الوجودية كإنسان وعلى ضوء القيم الدينية السابحة في غمار حياته التاريخية وخياراته الثقافية، هذا المشروع الذي يعود لأربعة عقود من الزمن الثقافي العربي والإسلامي التنويري، لا يكاد يتوقف عن رفد العقل العربي والمسلم بمصابيح الوعي وأدوات التجديد، لأنه مشروع خارج إطار الأنا الضيقة، بل هي تجارب نقدية متعددة ومتنوعة تلتقي في بعض المسارات وتختلف في أخرى لكنها تعكس ثقافة وعي راسخة تقرأ الدين من خلال قراءة معنى إنسانية الإنسان دون الاستغراق في التراث وأدلجته وبعيدا عن الإغتراب في التعبير والتطبيق للعقلانية والمعنوية على ضوء فلسفة الدين المعاصرة، إنها نخبة نالت قسطا وفيرا من التجارب الفكرية والنقدية والمقاربات الثقافية التطبيقية عبر سنين من التساؤلات الجوهرية النابعة من المسؤولية الإنسانية تجاه فهم الدين ومقاصده على وجه الخصوص، كما أنها استطاعت أن تبعث خطابا ثقافيا ميزته الأساسية أنه فوق الطائفية وبلغة علمية رصينة، يجعل القارئ يستشعر جدوائية الخطاب الإنساني في ترسيخ الوعي القيمي والكرامة الإنسانية وتفعيل الحرية الفكرية..

2626 عبد الجبار الرفاعي وماجد الغرباوي

نسلط الضوء بعجالة في هذه السطور على قامتين من قامات الفكر التجديدي المعاصر ضمن الحقل الثقافي النقدي الإسلامي المسؤول، الأستاذ المفكر الأستاذ ماجد الغرباوي والأستاذ المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وكلاهما من العراق بلاد الرافدين والثقافة العربية والإسلامية الأصيلة عبر جميع محطات الزمن الإسلامي، حيث المطلع على نتاج كلا المفكرين يلحظ عدة ملاحظات منها:

1- تأسيس الفعل النقدي على أدوات ومناهج دقيقة ومنتجة للوعي الجمعي بعيدا عن المجاملات والمواربات..

2- ضبط المفاهيم من خلال إثارة الإشكالات من أجل رفع الغموض عن المشكلات الحقيقية لواقع الإنسان والأمة وليس اشتغال فكري نظري يزيد الواقع تيها واغترابا عن الرسالة الحقيقة للإنسان والأمة..

3- تأكيد النقاش العلمي والفعل النقدي بعيدا عن نظرية المؤامرة وترسيخ قيم الإنسانية في تفكيك الأزمات الثقافية والحضارية التاريخية بعيدا عن لغة التسقيط والتسفيه وما هنالك مما يتنافى ومقاصد التطلع الإنساني للحضارة والسلام والرقي ناهيك عن الأدب الإسلامي في المجادلة العلمية ..

4-  الإنفتاح الفكري على الثقافة الإنسانية من خلال القراءات العميقة والمعرفة الدقيقة لخلفيات الأفكار والنظريات وتاريخ العلوم ومناشئ الفلسفات وتبلور المدارس الفكرية في الغرب والشرق..

5- التحرر من تأثيرات الأيديولوجية بشجاعة وثقة عبر التأكيد على النزعة الإنسانية في مقاربات القضايا والإشكالات والمشكلات والأزمات والتطلعات..

6- رسم معالم إنسانية مقاصد الدين الإسلامي من خلال مقاربة آفاق الآيات القرآنية والارتكاز عليها في تأصيل دور العقل في استعادة الوعي بضرورات التجديد في فهم العلاقة بين الإنسان والدين من خلال تفكيك جدليات الواقع والتاريخ..

7- رسوخ القيم في تناول المسائل والمشاكل وتخليص حقيقة الدين والمقدس من متاهات النفس والتاريخ وسمسارة الأيديولوجية والمصالح..

8- تطابق الحس الأخلاقي مع الفعل الثقافي فلا يمكنك أن تقرأ عن الأخلاق والقيم لدى كليهما دون أن تلمس ذلك المعنى في تفاصيل حياتهما، التسامح أو التواضع والصدق والنزاهة والعفو والإخلاص كلها حاضرة في سيرة المفكرين لكل من عرفهما عز المعرفة، فالتسامح والتواضع عند الأستاذ ماجد ليس لقلقة لسان أو تنظير في فضاء الفكر وإنما حقيقة حية تعكس دقة الرؤية وصدق التحليل وعمق المعرفة، ونفس الحال عند الأستاذ عبد الجبار، كل منهما يأسرك بأخلاقه العملية الإنسانية الرائعة في تعاملهما مع الأفكار والأشخاص والأحداث..

9- استطاعا بكل اقتدار أن ينتقلا بمفاهيم ذات علاقة بالدين من خطاب المؤسسات الدينية إلى لغة التداول الأكاديمي عبر عمليات النقد والتفكيك، مما جعل الموضوع الفلسفي الديني الإسلامي عموما في أعمالهما يتجاوز المعوقات التاريخية والخلل المنهجي والأحكام المسبقة..

10- تجربة كل من الأستاذين الغرباوي والرفاعي تعكس صور وتمثلات المثقف المسؤول وترسم نهج تجاوز أدلجة الدين للعبور نحو إنسانية الدين للنهوض بوعي التجديد والمسؤولية لدى الفرد والأمة 

كانت هذه بعض الملاحظات العابرة من خلال قراءاتي المستمرة منذ عقود لنتاج المفكرين الرفاعي والغرباوي ، ولعلها تنطبق على مفكرين آخرين عبر العالم العربي والإسلامي، بينما الأكيد أن آخر نتاجاتهما كانت ذات أثر بليغ واستشراف عميق لما يجب أن تكون عليه العملية النقدية في المدى القريب والمتوسط خصوصا في سلسلة متاهات الحقيقة بالنسبة للأستاذ ماجد الغرباوي وثنائيات الدين الخاصة بالأستاذ عبد الجبار الرفاعي، وأهم ما يمكن الإشارة إليه في هذا الخصوص أن للأخلاق والقيم حضور قوي وبين في جل أعمال المفكرين ليس كسمة أنطولوجية وإنما كقاعدة أساسية للأجيال على أن قراءة الدين بعيدا عن المعنى الأخلاقي ضمن إنسانية الإنسان هي قراءة ناقصة وقد تكون ذات آثار وخيمة، وهذا ما عبر عنه كلاهما في علاقة الدين بالأخلاق في آخر حلقات الحوار المفتوح مع الأستاذ الغرباوي المستمر ضمن سلسلة متاهات الحقيقة وفي جديد إصدارات الدكتور الرفاعي الذي سيرى النور قريبا حول الدين والكرامة الإنسانية..

ما يمكن استخلاصه من هذه الإطلالة الخاطفة على سمات فكرين يتقاطعان أكثر مما يفترقان أنهما يشتغلان بحب وصدق وإخلاص من أجل صناعة الوعي السليم وتفعيل الحركة التجديدية في إعادة قراءة وفهم الدين ونصوصه دون التغافل أو إهمال إنسانية الإنسان وضمانا لحريته وكرامته ونهوضا بمسؤوليته الحضارية فردا وأمة..

كل الشكر للأستاذين المفكرين رائدي التجديد المعاصر على الفكر الحر والرؤية الثاقبة والتطلع المسؤول والمنهج الرصين في النقد والتحليل والهندسة لآفاق التجديد والتمكين للنهوض الحضاري في عالمنا العربي والإسلامي، ونأمل أن يزداد الاشتغال الأكاديمي النقدي والتحليلي لأعمالهما لدى الباحثين الأكاديميين من طنجة إلى جاكرتا لأن معنى الحقيقة وحقيقة المعنى لدى كلاهما بحاجة لإستثمار معرفي أولا ومنهجي عملي ثانيا ضمن ما يمكن تسميته أنسنة الوعي الديني حتى يلبس الدين لبس الفرو مقلوبا.. ويبقى معامل الوعي الإنساني أساس التغيير والإصلاح والتجديد والنهضة..

 

مراد غريبي - كاتب وباحث في الفكر

 

في المثقف اليوم