تجديد وتنوير

نقد التراث الدينيَّ من شروط تجديد الإيمان وتوسعته (1)

يعدّ الدين وتمظهراته من أهم العناصر والمقومات التي بقيت حاضرة من العصور القديمة ولا زالت لابثة في هذا العصر المتدفق بالحداثة والسرعة. فكل شيء يكاد اليوم أن يكون جديدًا، إِلَّا الدين الذي بقي ممسكًا بروابط الاتصال في المجتمع ومحدداته، إذ لا زالت تأثيراته حاسمة في قلوب الناس وقناعتهم الإيمانية، ولا يطوق هذا الأمر بالتجربة الإسلاميَّة ومجتمعاتها. فكل المجتمعات لعب الدين فيها الدور الفاعل في صياغة نظم العقائد والقوانين وتبريرها. إِلَّا أنّ الإشكالية المعاصرة بدأت عندما اصطدمت الرؤية الدينيَّة- التي تشكلت بتجارب تاريخيّة- مع عناصر من الحداثة لا يمكن اجتنابها.

والتي عُبر عنها بصدمة الحداثة التي تعدّ إحدى لحظات الفكر الإنساني التأسيسي، واللحظة هنا بمعناها الفلسفي الهيغلي، أي المرحلة الفاصلة والأساسية، وليست العابرة.

وقد بلورت هذه اللحظة معالجات تراوحت بين القطيعة مع هذا الطرف أو ذاك، أو تأويلات تارة للرؤية الدينيَّة، وتارة لعناصر الحداثة.

وعلى حد تعبير " وايد هيت" الفيلسوف الإنكليزي فإن العالم الجديد قد مثل كارثة بالنسبة إلى المتدينين والعلماء، ولكنه في ذات الوقت وفر فرصة كبيرة لمزيد من التمعن في طروحات كل منهما وإعادة النظر في مقولاتهما.

نعم فهو فائدة من جهة اختبار قدرة التراث الديني في حل المشاكل وتحريك عجلة الإيمان والتنمية ودفع الوجود البشري نحو الخيار الأفضل. وكارثة من جهة أخرى وذلك عندما زحزحت الحداثة واشتغلت على اسقط عدد من المقولات الإيمانية بل ودعت لمسح الطاولة، والتحرر من أوهام المعابد. وهو ما دفع البعض- ولا سيَّما في أوروبا ونزاعها مع المسيحية وتحت نشوة الانتصارات المعرفية المتتالية ضد الرؤية الدينيَّة الكنسية- إلى الظن بأنهم قد حسموا النزاع  وان تجريد الغيبي الميتافيزيقي من أذهان البشر وعقولهم أصبح هينًا. غير ان للحداثة سلبيات ومخالب تحت كفوف من حرير وفي شتى المجالات، والتي لعبت دورها في عرقلة هذا المشروع. وهي كثيرة بعضها يتعلق بأصالة الوجود الدينيّ في أعماق الإنسان واستحالة الالتفاف عليه، وبعضها يتعلق بمعالجات تركت تداعياتها في التشكل البشري، فمثلًا المبادئ الدينية التقليدية المتعلقة بالموت والحياة ، والجنس، والنسل، والزواج، والحرية الجنسية، ومكانة المرأة في المجتمع وو، قد أصبحت مُنتهكة، أو ملغاة تمامًا من قبل التحديدات البيولوجية الجديدة (1).

ولهذا دعا المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه إلى ضرورة تنشيط مصطلح فيبر الشهير:" خيبة العالم" بمعنى أن العالم الأوربي قد أصبح خاويًا أو خائبًا بعد انحسار التقديس عنه، أي بعد انحسار المسيحية وصعود الوضعية والعلمانية. فالشخص الدينيّ الذي تربى منغمسًا في أحضان العاطفة الدينية أصبح بعد الثورة الحديثة مواطنًا مستقلًا محميًا من قبل القانون. وهذه نقلة نوعية كبرى. وأصبح بمقدوره أن يوجه أعماله باتجاه خدمة مصالحه الشخصية فقط دون التفكير بأي شيء يتعالى عليه أو يتجاوزه. بل وأصبح قادرًا على التخلي عن جميع تضامناته العائلية. ولهذا تجد الدراسات والمراكز الحديثة صعوبة في بلورة أخلاق جديدة متلائمة مع المجتمعات الحديثة وحاجاتها ومتطلباتها. نعم لم تنتهي مدة من الزمان في أوربا حتى تبين لها أن القطيعة التامة مع التراث الدينيّ ومسح كل شيء مقالة نرجسية ولا مقوم علمي لها.

ومن إفرازات الحداثة التي لا تقل سلبيتها عن القطيعة التامة، هو ما عاشته الشعوب العربية- الإسلامية وهي ظاهرة فرض الحداثة وتصديرها بعناوين وسبل إكراهية لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية وو، وقد ساهمت بشكل فج في توليد خط مضاد أصولي بدءًا من الإخوان المسلمين وانتهاء بالحركات الأكثر هيجانًا وعنفًا وتكفيرًا كالقاعدة وأخواتها، كما في باكستان ومصر والجزائر والعراق وو. والتي عبر عنها بتعسف برنارد لويس عندما وسمها بـ (عودة الإسلام). وكأن المعبر عن الإسلام- بنزعاته الروحية والإنسانية- هذه الحركات المسكونة في العنف والقتل الجوال.

أما ثمار الحداثة الفكرية وخدماتها في وجهها الآخر المحدث في حقل التراثيات الدينية وتغذية الإيمان فهي غير قليلة، إذ تسعى إلى تكشيف المناطق المستبعدة من التفكير أو "المستحيل التفكير فيه"، أو "اللا مفكر فيه" بتعبير محمد أركون. لتعمل على سد بعض الثغرات في التراث الديني والكشف عن بعض الحلقات الضائعة فيه، وغربلته وتجديده، لينعكس ذلك على تجديد الإيمان وتوسعته، من دون التنكر للرمزية الدينية التي لا تزال تعيش عليها التشكيلات البشري للمجتمعات سواء كانت هذه الرمزية جيدة أم سيئة، الأهم أن توجه الدراسات والبحوث إلى المعقولية الانثروبولوجية من الرمزية الدينية لنمسك بالجانب المتنور من التدين.

ومن هنا يأتي السؤال: هل لنا أن نلتزم بأي فهم للدين وتراثه في هذا العالم المتسارع الذي يتجه بنا إلى ما هو أحدث وأفضل من مناهج التفكير والحياة ؟ الجواب العلمي سيكون بالنفي المطلق، لأن الإنسان المعاصر لا يمكن له أن يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه الإنسان القديم ويفهمه. وإذا لم تسعفه القراءة التبجيلية الوعظية التقليدية للدين فأمامه طريقان لا ثالث لهما:

الأول : أن يتخلى عن الدين نهائيًا، وبالتالي يخسر الخصائص والمزايا الايجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (وهو المقدار المتيقن). فتخلي الإنسان عن الدين يغلبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والتوتر.

الثانية: أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد قادر على الصمود والاستجابة للمعطيات الحديثة. نعم الفهم التقليدي كانت له في حينه معطيات إيجابية وحسنة، ولكنه اليوم غير جدير بالانحياز له. لعدم توفر المصلحة والحقانية فيه (2).

ومن أبرز شروط الفهم الجديد، أو التحديث الجديد، أو الإيمان الجديد الذي يراد له أن يبقى حيًا وأن يستمر في الإشعاع هو في قدرته على نقد التراث الديني وزحزحته وتفكيكه بقوة وصرامة للخروج منه باضاءات إنسانية وروحية بعيدًا عن الأوهام والتخيلات.

والنقد- باشتراطاته العلمية الصارمة- وهاجس الإبداع هما الفضاء المناسب لولادة أفكار مدهشة وفائقة ومختلفة عن السائد. وبغير هذا الفضاء لا يمكن إجراء تعقيلات منظومية لقوانين الفهم الدينيّ وتحديثها.

أما الكتابات التبجيلية والوعظية الرائجة في المكتبات والجامعات وحلقات التدريس والمجالس الدوغمائية قد أغلقت كل ما كان مفتوحًا ومنفتحًا فخنقت هذا الفضاء وضيقته، وهو ما انعكس على سرعة التحديث الإيماني وعمقه وحضوره.

المعادلة كالآتي: نقد + هاجس الإبداع= تحديثات واستطلاعات واكتشافات تستوعب المفارقات المعاصرة. وتقدم صورة واقعية وموضوعية عن الدين وتراثه، فهي تعطي الأولوية إلى التحليل والانفصال والاتصال والنظر وإعادة النظر وو.

مع بيان أن النقد المنبثق من داخل التراث الديني بعد الخروج عليه وإعادة النظر فيه، يكون إدراكه للحقائق أكبر وأعمق من النقد المسلط من الخارج أو الدخل. فهضم التراث بتاريخه وقوانينه وآثاره وفنونه وتحسهها تأتي كخطوة أولى، والخروج على هذا التراث وفحصه وتحقيبه وتفتيح التباساته وما علق به من محددات ليست من صميمه وجوهره تعد المرحلة الثانية، وهي أهم من الأولى.

***

أ. م. د. حيدر شوكان

جامعة بابل/ كلية العلوم الإسلامية

...................

(1) ينظر: محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، 218.

(2) ينظر: مصطفى ملكيان، التدين العقلاني، مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، 34- 35.

 

في المثقف اليوم