تجديد وتنوير

منهجان في فهم الحرية

أي حديث عن الحرية في مثل مجتمعنا يستدعي التذكير بأنَّها حق أصلي لكل إنسان بما هو إنسان؛ أي قبل أن يكون عضواً في جماعة، أو مؤمناً بدين، أو خاضعاً لقانون. لا بد من التذكير أيضاً بأننا لا نتحدث في فراغ؛ بل عن الحرية في مجتمع يحترم نفسه ويحكمه القانون. مقصودنا إذن هو الحرية التي يضمنها القانون، وليس الحرية المضادة للقانون.

ما الحاجة للتذكير بهذا، مع أنه من قبيل البديهيات؟

واقع الأمر أن «الحرية» ليست من الأمور البديهية في المجتمعات المسلمة، بل في عامة المجتمعات التقليدية. من المفهوم طبعاً أن الحرية قيمة عُليا، وهي من المسلّمات التي لا يجادل العقلاء في ضرورتها وحاجة الإنسان والجماعة إليها، وفي كونها من أسباب التقدم والقوة. هذا كله أمر مفهوم؛ لكنني -مع ذلك- أدّعي دون حرج، أن مجتمعاتنا لا تعتبر الحرية قيمة عليا، ولا تصنفها بين المسلّمات. وهي تقول ذلك صراحة، أو تقوله مداورة، حين تدّعي أنه لا يوجد معنى دقيق للحرية، أو حين تشدّد على الربط بين الحرية والانفلات السلوكي أو انتشار الفساد الأخلاقي.

هذا يظهر غالباً حين يعيق المجتمع رغبة الأفراد في التعبير عن أنفسهم بطريقة غير مألوفة، الأمر الذي يكشف عن ارتباط عضوي بين الحرية والتمرد على حدود المجتمع وتقاليده.

التصادم بين الرغبة في الاستمرار التي يعبر عنها العرف الاجتماعي، وإرادة التغيير التي تعبر عنها محاولات الأفراد للتحرر من ذلك العرف، يكشف عن منهجين مختلفين للتفكير في الحرية:

المنهج المحافظ: وينطلق من فرضية أن النظام الاجتماعي هو الأصل، وأن سعادة الإنسان رهن بالمحافظة عليه. وينصرف هذا إلى معنى احترام الأعراف والهوية المشتركة والتعريف الاجتماعي للمصلحة العامة. وفقاً لهذه الرؤية فإن للفرد حقوقاً يستمدها من عضويته في الجماعة، ولذا فإن تمتعه بها، ومن بينها ممارسته لحريته، يجب ألا يُعارِض -بأي شكل- العرفَ الاجتماعي أو إرادة المجتمع.

أما المنهج الليبرالي: فينطلق من فرضية معاكسة، فحواها أن الحرية حق أصلي للإنسان، وهي من لوازم إنسانيته وعقلانيته. في الوضع الأصلي كانت حرية الإنسان مطلقة، لكن حاجة الفرد للعيش في المجتمع أوجبت تحديدها؛ كي يستطيع كافة أعضاء المجتمع ممارسة حريتهم، من دون تزاحم. هذا التحديد استثناء من القاعدة أو خروج عن الأصل، فيجب تقييده بقدر الضرورة؛ كي لا يتحول إلى قاعدة بذاته.

فكرة التزاحم، لا سيما تبريرها لتقييد الحرية الفردية، بدت في أول الأمر بسيطة ومعقولة؛ لكن تطبيقاتها العديدة كشفت عن تعقيد غير متوقع. كان جون ستيوارت ميل بين أوائل الفلاسفة الذين تنبهوا للحاجة إلى معيار للفصل في تنازع الإرادات بين الأفراد، أو بينها وبين أعراف المجتمع ومصالحه، فوضع قاعدة اشتهرت فيما بعد باسم «مبدأ ميل» أو «مبدأ الضرر».

صنف ستيوارت ميل الأفعال إلى نوعين: فعل يتعلَّق أثره بالفاعل دون غيره، مثل التدين أو الإلحاد، والعمل أو ترك العمل، فهذه وأمثالها أفعال لا ترضي بعض الناس؛ لكنها لا تضر أحداً غير الفاعل. أما النوع الثاني فهو الأفعال التي تترك ضرراً جسيماً على الآخرين، كالدعوة لكراهية الملونين أو أتباع الأديان الأخرى. رأى ميل أن الحالة الأولى لا تبرر للمجتمع ردع الفاعل، حتى لو كان فعله مناقضاً لأعراف الجماعة أو إرادتها، بخلاف الحالة الثانية التي يعتبر فعل الفرد فيها (التحريض على الكراهية) نوعاً من العدوان، فلا يمكن تبريره بحرية التعبير.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم