تجديد وتنوير

من معاني التجديد

أنا ممَّن يدَّعي أنَّ النهوض الاجتماعي يتطلَّب تجديداً في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم أنَّ التأثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة، يستدعي على الدوام جدلاً حول التجديد في الدين، وما إذا كان في الأصل، قابلاً للتجديد أم لا، وما إذا كان التجديد يتناول الأصول أم الفروع أم الأدوات والمظاهر.

ومن هنا، فإنّي أدعو القارئ العزيز إلى تقبل نقطتين، أوجز الأولى في «أنَّ لكل جيلٍ من أجيال المسلمين حقاً ثابتاً في إعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية، وإنتاج نموذج التدين المناسب لزمنه، من دون التزام ما أنتجته الأجيال السابقة». أما النقطة الأخرى، فخلاصتها أنَّنا في حاجة إلى التمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن أنْ نسميَها دينية، وهي مجال اشتغال أحكام الشريعة، ودائرة خارج الدين، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والأخلاقية.

كلتا النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الإصلاحي. يقول التقليديون بأنَّ كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة، موجودٌ على شكل حكم مفصل أو قاعدة مجملة في التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد بأي دور أو تصرف في المنظومة الشرعية.

وأصل هذه الفكرة هو القول بأنَّ الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة، أو أنَّها قادرة على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل الجدل. ولعلَّ بعض القراء الأعزاء قد صادف كتباً تحمل عنواناً مثل «البديل الإسلامي»، «قال الإسلام قبل ذلك»، «هذا الدين للقرن الواحد والعشرين»... إلخ.

يعتقد أكثر الناس أنَّ هذه حقيقة ثابتة. فإذا قلت لهم إنَّ هذا غير صحيح، حسبوك تتَّهم الإسلام بالنقص والعيب، وجادلوك دفاعاً عن الدين، وليس نقاشاً في الفكرة.

وكنت فيما مضى أذهب المذهبَ نفسه. ثم اكتشفت أنَّ بعض العلوم لم تكن موجودة أصلاً في زمن التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاماً لشيء لا يمكن تصوره، فضلاً عن معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز، فأجابني بالجواب المعروف، وهو أنَّ ما لم يرد حكمُه في الكتاب والسنة، فإنَّ حكمه يستمدُّ من أقرب القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة، فلاحظ في لهجتي شيئاً من السخرية، فتمالك نفسه وأجاب أنَّها مباحة، فجادلته بأنَّ الإباحة ليست حكماً؛ لأنَّ القول بأنَّ الإباحة حكم، تكلف من غير داع، ولا طائل تحته، وأنَّ القول الصحيح هو أنَّ لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة، فإن وافقتني، فإنَّ القول بشمولية الشريعة لا يصحُّ.

وفي وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين، أولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بأنَّ آيات مثل «... مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ» و«... تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ»... وأمثالها تدلُّ على أنَّ كلَّ شيء في الحياة له حكم في الكتاب أو السنّة، حتى أرش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد ردَّ عليه الشيخ أحمد النراقي قائلاً، إنَّ سياق الآيات يدلُّ على أنَّ في الكتاب تبييناً لكل شيء يجب بيانُه ولا يصحُّ السكوت عنه، لا أنَّه يبين كل شيء على الإطلاق. والدليل هو ما نراه فعلاً من آلاف الموضوعات والمسائل التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها، وهي تتزايد يوماً بعد يوم. وإلى هذه الناحية أشار أبو الفتح الشهرستاني في «الملل والنحل» حين قال، إنَّ النصَّ محدودٌ والحوادثَ غيرُ محدودة، فكيف يستوعبُ المحدود ما لا حد له ولا حصر؟

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

في المثقف اليوم