ترجمات أدبية

كاثي كينكايد: لم يكن لدينا كلب

2955 KincadeKathyبقلم: كاثي كينكايد

ترجمة: صالح الرزوق


كنا في حقول الأرز نصيد الحمام. من الرائع أن أشارك، ولكن لم أحب صوت البواريد، وكذلك لم يعجبني أن يطلق والدي وأخي النار على كائنات حية وهي في السماء - ثم ببساطة تموت. لم يكن معنا كلب، ولذلك كانوا يدلونني على المكان الذي تسقط به الطيور. كان ذلك في شهر تشرين الثاني، والسماء رمادية، والأرض تحت أقدامنا مقرمشة. سأل أخي وهو يلمسني ببارودته المفضلة عيار 12:”هل تريدين أن تجربي؟”. أحيانا كانت تنتابني الكوابيس ويوقظ نواحي الوالدة. وحينما تأتي لتتأكد أنني على ما يرام، أسمع صوت والدي يطلب منها أن لا تفعل، فهي ترعاني مثل طفلة حديثة الولادة. كان يقول لها:”هي بحاجة للاعتياد على المصاعب”. واليوم، لا أريد أن أكون طفلة. اليوم سأطلق النار بالبارودة. مع أنها تؤلم سأعتاد عليها. ستترك أثرا في قلبي لكن سأكتمه.

في تلك الليلة انعقدت حفلة عيد ميلاد. ولذلك شاركت بالصيد، وأنفقت النصف الثاني من اليوم جالسة على كرسي في الباحة الخلفية، وبين ساقي كيس صيد وفير من طيور ميتة. كان جندي يغني عند البيانو قائلا:”السماء الزرقاء تبتسم لي، وأنا لا أرى غير سماوات زرق”. وكانت قدماه تضربان الدواسة المرتفعة القديمة، وساقاه النحيلتان بسروال بوليستر، والفودكا في الصواني. لم يكن يقبل مصافحة رجل أسود، لكنه يقول له:”مرحبا يا دولي. مرحباااا يا دولي، يسرني أن أراك في المكان الذي تنتمي له”.

أما النساء - الوالدة، الجدة، والخالتان المتزوجتان من شقيقي والدي، كلاهما طبيب أسنان - فقد اجتمعن في المطبخ، للعناية بالشواء والبطاطا والفاصولياء الخضراء (دائما يكون الطهي جائرا أو فجا)، وغالبا تخفقن كريمة شوكولا الكعكة الألمانية لتصبح بيضاء كثيفة. وتبقى الحمامات طي النسيان. في نفس الوقت يجلس الوالد والعم جايك والعم جيم في غرفة المعيشة، يرشفون المشروبات ويناقشون مصير جيل الـ 49 والحرب والحزب الجمهوري، وكل ذلك بنفس واحد. أما أنا فأجلس في مكان ما في الوسط.

قال العم جايك:”مرحبا يا كايدو، اقترب - دعني أقدر طولك”. كانت هذه هي لعبته المفضلة. يضع يديه فوق رأسي، الأصبع أمام الأصبع، والإبهام على الإبهام مثل تاج، ثم يتابع ليخبرني معدل نموي الأخير منذ آخر مرة التقاني بها. وأنا لا أرفع عيني عن الأرض ولا أتحرك لأن كل الآخرين يراقبوننا وهم يضحكون، ولكن من أعماقي كنت أحب هذه الطقوس. فهي تجعلني أعتقد أنني إنسان له خصوصية، بنفس الطريقة التي يشعر بها نحوي كلما قام بزيارتنا. 

العم جيم هو الأكبر - ويصر أن ندعوه جيمس - ولكنه لا يحب عائلتي كثيرا. ولا يحب أحدا منا، إن شئت الحقيقة. ومع أنه ليس أكبر بكثير من بقية أبناء العم ولكنه يجلس على كرسي بمحاذاة الجدار ببلوزةلها ياقة بشكل V وسروال فضفاض، وذراعاه معقودان على صدره. وأعتقد أن لذلك علاقة بالوالدة، فهي ليست من نفس العرق والسلالة. بمعنى أنها بلا مؤهلات جامعية، ولا حلقة أصدقاء، ولا قلادة من اللؤلؤ.

كنت أراقبها خلال الغداء، وأنا أجلس عند نهاية الطاولة البراقة الداكنة والتي صممها أحد أجدادي، بسيقان عليها نقوش محفورة بمهارة. والجميع يصيح، والوالد وجايك وجيم يتبادلون الحكايات التي لا تخلو من الكلمات البذيئة لإضحاك الجدة، في حين تكون الخالات مشغولات بتنظيف الأطباق وتحضير الكعك والمثلجات على وجه السرعة. وتقف الوالدة ساكنة بلا حراك، وسيجارة بيضاء طويلة بيدها، مع ابتسامة خفيفة، وهي تنفخ الدخان فوق رؤوس الجميع لتمرير الوقت. وفي الختام خلال لحظة صمت تنفض سيجارتها على حافة طبق وتقول:”لقد فقدتم فرصة ذهبية للتحلي بالصمت وإطباق أفواهكم”. في تلك اللحظة تبدو مثالية وذكية وحكيمة ولا يسعني التنفس من الإعجاب بها، ولا يكون بمقدور أحد أن ينكر ذلك. بعد سنوات حينما اعتادت على حقن المورفين، وبدأنا نسهر بنوبات قرب سريرها، جلست بحزم منتصبة الظهر في أحد الليالي، وقبضت على ركبتي، وقالت:”لماذا لا يعجبك شيء أبدا؟”.

*

يعيش جداي في المدينة التي نقطن بها نحن، في وسط بستان أشجار لوز من بيت إيجار، فهو ليس ملكا لهما - وهذه ناحية لم نناقشها أبدا في العلن. وهناك أشياء كثيرة لم نتطرق لها، مثل ماذا جرى للوالد حينما اشترك بالحرب، وما هو مصير النقود التي أرسلها لبيته لضرورات الحياة، وما هي نتيجة الخالة التي أحمل اسمها والمسافرة في هاواي دون أي نية بالعودة. وما هي الهمسات التي يسر بها الوالد في أذن الوالدة حين نكون في السيارة، ونتظاهر أنا وأخي بالنوم، خلال العودة للبيت بعد إحدى الزيارات. كنت أحب زيارة بيت الجدة، فهي تعلمنا لعبة البوكر وصناعة السكاكر، وتنظيف البندورة من الدودة الخضراء، وتتكلم بالهاتف بصوت مرتفع حقا، دون أن يزعجني ذلك لأن بيتها هادئ جدا ويجلله الغبار. فجدي على ما يبدو يرقد مريضا في سريره كل الوقت. وحينما نذهب للنوم أستلقي بعينين مفتوحتين وأصيخ السمع له وهو يسعل في غرفته في نهاية الصالة كما لو أنه على وشك أن يفقد رئته. وطوال الوقت تكون الساعة تقضم الوقت بصوت مسموع. 

في ليلة من ليالي الصيف آلمتني أذني كثيرا، ولم أتمكن من النوم، ولم أسمح لأحد أن يلمسني، وأخيرا قادتني الجدة للطبيب. كان يشبه بيري مايسون، وارتعبت منه، ولكن كانت أخته المدعوة "وميلتي" في الصف الثالث، ولذلك تمالكت نفسي. عدا أن صوته عميق ويديه ناعمتان كان دائما يقدم لنا المصاصات. وجه لجدتي بعض الأسئلة، ثم وضع الضوء على جبينه، ومال حتى اقترب مني، وقال:”احذري. هذا سيؤلمك”. ثم دس المعدن البارد في أذني. قبضت الجدة على يدي وضغطتها - بقسوة - فأغلقت عيني وحاولت أن لا أكون طفلة، ولم يؤلمني شيء في كل حياتي مثل هذا، واعتقدت أنني موشكة على التقيؤ. لكنه قال بهدوء:”انتهينا”. وربت على كتفي وأخبرني أنني كنت بغاية الشجاعة. ولدى المغادرة اخترت من السلة المصاصة الحمراء، وعندما انشغل الآخرون عني، تناولت مصاصة ثانية وأودعتها بسرعة في جيبي. 

أحب المدرسة. وأود أن أتعلم كل يوم شيئا جديدا، ومن الواضح أنني مستعدة لذلك. وخطط المعلمون لترفيعي للصف الأعلى، من الرابع إلى الخامس، ولكن لم يقبل الوالد والوالدة، فهما لا يريدان ان أفتقد صديقاتي. كنت قد أنجزت واجباتي في الصف الرابع بمادة الرياضيات واللغة الإنكليزية، غير أنهما لم يسمعا بذلك. ولذلك كنت أتطوع طوال كل نصف يوم لتحضير واجبات الصف الخامس. آوي لمبنى مؤقت بمحاذاة ملعب الإسفلت المخصص للعبة “كرة اليد” وأنكب على الدراسة. وفي أحد الأيام وجدت الوالد في البيت بعد العودة من المدرسة، وكان يتكئ على الطاولة وهو بالشورت. والندوب تغطي ساقه، والثلج في كأس الشراب، والغبار يتراقص في ضوء المساء. سكب شرابه في فمه وأشار لي كي أقترب منه. قال:”أريد أن أريك شيئا”. كان عطره “أولد سبايس” يقودني على طول الممر باتجاه غرفتهما، ثم نحو خزانتها، ثم إلى أدراج بحث فيها بين الجوارب النسائية والسراويل حتى وجد ما يريد: علبة الأحذية. علبة من الورق المقوى الباهت، لم يلفت انتباهي بعد أول نظرة، لكن آه، يا للكنز المودع فيه. أزال الغطاء، وحفن بيده حفنة من الفضة والذهب واللآلئ والماس. ثم قال ووجهه متجعد ومحمر:”انظري لهذا. انظري لهذا. وضعت كل شيء هنا. وأصبح عقدة لعينة”. وفجأة أصبح كل شيء غريبا جدا - كلانا في غرفة لا أعرفها تماما، لأنني نادرا ما أدخل إليها، والستائر مغلقة كالعادة وتحجب شمس أواخر النهار، وتعتم على الجدران الإسمنتية الرمادية المخضرة - الشبيهة بزنزانة في السجن - وهو ينقب في علبة ليعرف لماذا عليه أن يهتم، لماذا قدم لها ذلك مع أنه في النهاية سيتحول لهذه النتيجة: مجرد عقدة من النوايا الطيبة.

لدينا أخت أكبر بالعمر ولكنها غالبا منطوية على ذاتها في غرفة نوم خلفية. شعرها برتقالي اللون وصدرها ضخم وتجادل الوالد كثيرا، وأحيانا ترتفع الأصوات وتسبب لي الرعاف. ولكن حينما تعزف على الغيتار ترتسم البسمة على أفواه الجميع، كانت تهمس لي بأسرارها، ولكن لا أفهم كل شيء، وهذا غير مهم فأنا الوحيدة التي تشاركني سرها. ثم في أحد الأيام ودون سابق إنذار اختفت. كان الأمر كما لو أنني كنت أستضيفها، وكما لو أن حياتي لا تزيد على أن تكون صداقات خيالية. بعد ذلك لم يبق بيننا مواعيد، ولا لقاءات عائلية. وتوالت وجبات الإفطار والغداء والعشاء كالعادة مع الاحتفاظ بمقعدها فارغا. سألت الوالدة عما جرى، وأين غابت ولماذا غادرت وهل بمقدورنا أن نزورها. لكن الوالدة اكتفت بإشعال سيجارة أخرى وأعطتني واجبا آخر وهو كي الملاءات. واستغرقت بهذه النتيجة كل الأمسية بالإضافة لكنس المرآب مجددا. ومؤخرا غمرتني أحلام الهروب. لا بد من حل أفضل، ولكن لا أعرف ماذا وأين. ربما أفلحت أختي بحياتها وكل ما علي هو أن أحدد مكانها و ألتحق به. كنت أستيقظ في كل صباح وأنا آمل أنها ستظهر وتعود إلينا لكنها لم تفعل. ولربما لو غادرت مثلها سينسون أمري. وربما يتوقفون عن رواية الحكاية المضجرة المتكررة: أنه من المفترض أن أكون صبيا واسمي مايكل.

ولعل هذا ليس في النهاية أمرا سيئا.

***

 

............... 

كاثي كينكايد Kathy Kincade: كاتبة متخصصة بالعلوم والتكنولوجيا. تحمل درجة جامعية في “الاتصال الجماهيري” من جامعة كاليفورينا، بيركلي. تعيش في ساكرامينتو.

 

في نصوص اليوم