ترجمات أدبية

دافيد كونستانتين: الخسارة

2981 دافيد كونستانتينبقلم: دافيد كونستانتين

ترجمة:  صالح الرزوق


 لم يلاحظ أحد. من الواضح أنهم لا ينتبهون لذلك. وإن فعلوا، فهم يخطئون بالتقدير. وربما هي واحدة من تلك الوقفات الفجائية - صمت أو فجوة - حينما يقول أحدهم: الملائكة مرت. ولكن لا يوجد رصيد واقعي لهذا المنطق. الروح هي التي غادرت، مندفعة باتجاه مكانها المحدد في الدائرة التاسعة.

رفع السيد سيلفير مان بصره للأعلى، ونظر حوله. كل الرجال موجودون هناك، الرجال وامرأة أو امرأتان حازتا على نصيب من التوفيق والنجاح، الجميع موجود. تابع كلامه. وربما لم يرجف. وواصل، حتى بلغ النهاية. ثم فتح باب الأسئلة، وطلب بعضهم طلب إجابات أطول من خطابه. ثم انتهى كل شيء، ولاحظ أنه استكمل مهمته. كانوا يبتسمون، وأرادوا ما يريد. جاؤوا الواحد بعد الآخر وصافحوه، خاطبوه بلا كلفة باسمه الأول، وتقدموا له بالتهاني، وتمنوا له رحلة عودة موفقة. ولاحظ ترددهم - لأنه لم يبق غير أقل من نصفهم - فانتاب السيد سيلفير مان الرعب، ولدرجة ما، الفضول. ألم يلاحظ هذا أحد؟. خشي أنهم انتبهوا، والآن كل العالم سوف يقابله بالنفاق والتظاهر. أو ربما لم ينتبهوا، ولذلك عليه أن يقترب من الحقيقة ويخوض في غمارها، على هذا الأساس، أساس غفلتهم عنه، وهنا قبض على كم رجل ضخم وجره إلى النافذة بحركة معروفة ملؤها الثقة. واقترب منه الرجل العملاق - واسمه راينغولد، ويحب أن تناديه باسم إي دي - وأصغى له، وهو يهز رأسه بين حين وآخر، وكل خصلة فيه تدل على المودة، وكل نقطة من جسمه - يديه ووجهه الأليف العريض، تدل على الصداقة. لكن السيد سيلفر مان، الذي تكلم بهدوء، كان يعلم أن وراءه آخرين ينتظرون تقديم آيات الاحترام، وهو يتابع طريقه - ثم شعر السيد سيلفر مان أن الغرفة حارة جدا والهواء في الخارج بارد جدا مع أن الطقس في مانهاتن كان مشرقا ولوح الزجاج الذي يعزل المنطقة الحارة عن البرد غير نفوذ على الإطلاق بكل تأكيد. شيء غامض، خسارة، وانفصال. هل يمكن لشخص متلون أن يلاحظ خسارته، مثل شكل باهت لطير يسبح وراء الزجاج في الفراغ؟. لا بد أن جزيئات الزجاج تسمح بمرور الروح المصرة على التوجه إلى الجحيم. كانوا في مكان شاهق، في مكان ما يقدر بالمئات. والأبراج الفولاذية والزجاجية المحيطة بهم تبدو كأنها تتأرجح أو تنتفض مثل القماش، ولكن هذا فقط بفعل الضوء والظل والغيوم وانعكاسات الريح المتجمدة. مع ذلك كانت الأبراج مستقرة وراسخة كعهدها دائما. قال السيد سيلفير مان: نعم. كل شيء تم على ما يرام برأيي. ولمس كم إي دي راينغولد.

قال إي دي راينغولد: ماذا تقول؟ ماذا كان على ما يرام.  ثم أضاف وهو ينظر للأسفل: بمقدورك أن تفعل ذلك يا بوب. تعجب السيد سيلفر مان، وشعر بدهشة بالغة، وتخلله شيء من الامتعاض. ألم يلاحظ ذلك أحد حقا؟. هل فعلا إن امتلاك روح أو عدم امتلاكها شيء لا يهم؟. في الموت، كما هو معروف، يصبح الجسم أخف بنسبة معينة: حوالي واحد وعشرين غراما، في كل الحالات. نقول: آه، لا بد أن هذا هو وزن الروح البشرية المفقودة. ولكن تختلف الجثامين على نحو واسع. شاهدت مراهقة في ذلك اليوم يبلغ وزنها عشرين حجرة*(6.35* كغ). وكان في مجمع التسوق الجديد المقام في المرفأ القديم رقم 17. ويقدم الطعام هناك في الطابق العلوي، وكانت هي تقف في أسفل السلم المتحرك، وتحاول أن تزمع رأيها هل تصعد أم لا. وكانت تزين شعرها بأدوات زينة تشبه الهوائيات، مثل أي قزم أو جنية تراها في الصور الفكتورية. من جهة أخرى أي طفل حديث الولادة، من إثيوبيا مثلا، لا يبلغ وزنه أكثر من رطل أو اثنين. ولكن ما يخسره عند الموت، كما هو واضح، يكون بنفس المقدار.

استيقظ السيد سيلفر مان في اليوم التالي ولم يشعر أنه أخف. بالعكس شعر أنه أثقل وزنا. تخيل كرة من الرصاص زرعت في داخلك خلال الليل. أو أن نفس العضو، بحجم الكلية تقريبا، تحول إلى رصاص خلال نومك. هذا ما حصل. من الصعب أن تحدد أين بالضبط: خلف رأسك، في منطقة القلب، في حفرة البطن؟. عموما يبدو أنه متنقل. أينما ضغطت يدك، لا تستطيع أن تجده. وربما يمكنه أن يذوب ويحتل كل المساحة مثل إنفلونزا ثقيلة. وشعر بالنعاس وانتابه حلم.  ثم استيقظ مجددا بسبب نداء صباحي مبكر - كان عليه أن يسافر بالطائرة إلى سنغافورة - وجلس السيد سيلفر مان على السرير وحاول أن يبكي. هز رأسه، توتر، بكى، لكن الدموع التي انحدرت لم تكن تزيد على أثر رطوبة عدة بلورات ثلجية لطخت وجنتيه. وهذا ليس خلاصا. حصل على دوش، وتجول بلا ثياب في الغرفة الحارة. ثم مرارا وتكرارا، صدمته موجات كهربائية بسيطة، وهو يلمس قبضات الأبواب، وأزرار الإنارة، والإطارات المعدنية - صدمات كهرباء بجرعات ضئيلة. وأرعبته وهي تسري فيه بدفقات صغيرة من خلال أنامله في طريقها إلى قلبه. وكلما شعر بذلك كان يطلق صرخة طفيفة. حتى خيم الموت على الغرفة. ثم نظر من النافذة. كان في الأعالي، في الطابق 90 أو أعلى، وكانت الشمس تشع على الأطراف الشاهقة من الأبراج. وفي الأسفل - نظر السيد سيلفر مان للأسفل - وكان الصمت يتغلغل في الظل. وما هو الأسوأ؟. تحديد المسافة البعيدة بنفسه دون أي مساعدة؟. أم إثباتها وهو يتمسك بالمدعو إي دي راينغولد؟. ولمست مشاعر جليدية قارسة البرودة السيد سيلفر مان وهو يفكر بالتفاوت بين أساليب عمل الرعب. فهو شيء نسبي. وكان يختلف من مكان لآخر. سيارة. مطار. طائرة. سنغافورة. المرور - بخطوات حذرة، وثابتة، ومتداخلة - باتجاه صالة الحقائب. وهناك شاهد السيد سيلفير مان شيئا غريبا. رأى بساطا، وكأسا، العديد من الكؤوس، وكانت تسقط من كل الجهات مثل بول حار يتبخر، وهناك أيضا موسيقا معتادة: لكن أغرب من ذلك وجود طير، عصفور عادي بمظهره، وكان يحلق نحو السقف، ربما هو سقف زائف، من الزجاح الذي انسكبت عليه أشعة الشمس، وكان العصفور يخفق بجناحيه. من الطبيعي أن يبحث العصفور على الضوء وأي هواء متوفر في الخارج. ولكن ما لا يصدق هو المكان الذي بلغه. لم يكن يقترب من هناك أي مخلوق حي، باستثناء كلاب العميان وكلاب المتفجرات التي تقود البشر، ولكن لا شيء آخر، إن نسينا الترانزيت. ولا حتى الكائنات الدقيقة دخلت إلى هناك. فقط البشر طوال القامة. أما عصفور؟. هذا غير ممكن. وبالتأكيد ليس العصفور الدوري. وها نحن نراه هنا، يرفرف ويخفق ويطرق الزجاج المشمس. تلك كانت آخر مفاجأة مدوية يراها السيد سيلفر مان خلال سنوات. عصفور يطرق السقف الزجاجي، وهو في طريقه لصالة الحقائب!. واعترف لاحقا أنها كانت آخر فرصة يمكنه أن يبكي فيها. قال: نعم، ما أن تنحيت وركعت على تلك السجادة السميكة وحضنت رأسي بين يدي، مع سابق علمي أن العصفور يرتطم بالسقف الذي كان فوقي، والله يشهد على ما أقول، أمكنني أن أبكي، وانفجرت الدموع من عيني وسالت من بين أصابعي، فرفعت قبضتي عاليا مثل طبق، مليء بالعطايا الدامعة. الحياة الأخرى غامضة، وتتسكع في الأرجاء قليلا بين نيويورك وسنغافورة، بين مدرج المطار وصالة الحقائب، وهي الحياة الأخرى التي يمكنك أن تبكي فيها. ولكن استقبل السيد سيلفر مان لدى وصوله سائق مبتسم يحمل لوحة عليها اسمه: السيد بوب سيلفر مان، فيديلتي إنفيسمسنت* (*شركة الإخلاص للاستثمار). وفورا بدأ روتينه والناس تبتسم من حوله. وبعد يومين من الاجتماعات والمقترحات، تحقق له النجاح. وضغط على الشركة كي تقبل بما يريد. كان ذهنه مشرقا، وعرض الحقائق والأرقام بوضوح، وقدم مداخلات جازمة، وكانت النتائج لا يمكن أن ترد. ولا غرابة أنه حقق النجاح!. كان مقنعا منذ لحظة الولادة، والإقناع شيء من طبعه مثل لعب الغولف أو الكمان عند غيره من بسطاء البشر. وطوال الوقت لزم الصمت. وقف جانبا، يصغي لصوته الداخلي، وأمكنه أن يلاحظ صوته، صوته السري، وهو يقف جانبا، وبذهن مشحوذ.

وكانت الحجرات في سنغافورة، إن أمكن القول، باردة والهواء في الخارج (القليل منه الذي لفح وجهه وهو يغادر أو يركب السيارة) حارا جدا لو جاز لنا أن نقول ذلك. لكن الحجرات كانت شاهقة، تقدر بالمئات، والأبراج تحيط بها، وترتفع متلاصقة، وكانت تبدو - بنظر السيد سيلفر مان - على وشك السقوط في أية لحظة. وجاء الرجال للأعلى لتهنئته وليتمنوا له رحلة ميمونة، ولكنهم كانوا أقصر وأصغر منه، ويرتدون ثيابا مثله، وينحنون مع نظاراتهم نحوه باحترام لا متناه. وحينما قل عددهم، أمسك مجددا بكم أحدهم، ووقف قرب النافذة، وتبادل معه الكلام بالمفردات والحركات القديمة. وشعر في داخل جسمه بشيء غامض، وعانى من الارتباك في البداية، ولكن هذا لم يكن يعني شيئا لهؤلاء السادة المتفوقين بأعمالهم، سواء وقف أو تحرك أو تواجد فقط بينهم، وروحه تخفق في جنباته أو بجمود يخلو من الروح. ثم واتته الفكرة العقيمة التي قد لا يكون لها أي مدلول، وسقط خيال مثل الرصاص غطى على ماضيه، فأصاب الذبول كل حياته قبل الخسارة التي مني بها،ورأى أن حياته تندحر للموت. وتأكد له أنها لم تكن ذات قيمة، وأنه كان بمقدوره أن ينجح، وبإمكانه أن يتقدم ويصعد للأعلى، حتى لو لم تكن هناك أي روح بين جنباته. ولم يكن مطلوبا منه أن يتمسك بروحه.

ثم قابلته زوجته السيدة سيلفر مان في هيثرو. نظر في عينيها، ليرى إن كانت تلاحظ ذلك. وبدا أنها لم تنتبه. قبلها على شفتيها بقليل من التوتر. هل ارتعشت شفتاها بسبب البرد؟. كلا ظاهريا. أحضرت معها ابنيها. وهذا أسهل من البحث عن من يرعاهما بغيابها. وسألته هل نجحت رحلته؟. قال نعم. جدا. وشحذ بصره ليرى هل تلاحظ ذلك؟. ثم سألها عن وقتها خلال تلك الفترة. قالت: مشغولة. وذكرت المصاعب بالتفصيل. ثم حل الصمت على الزوج والزوجة، وهما يقودان السيارة في الزحام، وخيم الصمت أيضا على الطفلين الجالسين في المقعد الخلفي. وشعر أن زوجته عادت لمشاغلها الخاصة وتأكد له بما لا يدعو للشك أن ما جرى له لن يجري لها. وقد استنفذت قواها، فقد مرت عليها أيام وأسابيع وهي مغمورة بالمشاغل. ولكن وراء ودون ذلك كان هناك شيء ما يستمر في داخلها ويؤكد ضرورة وجود روح لديها. وشعر السيد سيلفر مان بالكآبة وتخيل أيامه المتبقية تحت ضغط هذه الظروف. قبل أن يدخل أي إنسان في صراع من أجل الاحتفاظ بروحه حية عليه أولا أن يقتنع أنه بحاجة لها.

وبدأ السيد سيلفر مان يلاحظ وجود رجال ونساء عانوا من الخسارة. فالملائكة التي تتجول في العالم على هيئة بشر يعرفون بعضهم بعضا. وكذلك بالنسبة للجماعة التي ينتمي لها السيد سيلفر مان. أدهشه في أحد التجمعات أنه عرف أمثاله الهائمين على وجوههم وتعرفوا عليه. كانوا من مختلف المشارب. على الأقل قابلهم في بعض مشاوير حياته الغامضة التي رافقته بها السيدة سيلفر مان. على سبيل المثال في حفلة عيد ميلاد، وفي مكان ما أمام الطريق M25 تعرف على أكاديمي ذائع الصيت. ورأى كل واحد منهما في الآخر حقيقة الموضوع. ماذا نقول؟. لا شيء.

لم تكن العلاقة بينهما دافئة. وقفا جنبا إلى جنب، واشلركة وراءهما، وهما ينظران لحديقة تغسلها أنوار مسحورة تضيء بين أغصان شجرة ميتة. قال الأكاديمي الدكتور بلينش: معظم ما نعرفه عن الدائرة التاسعة منبعه دانتي، طبعا. وكان لديه فأس ليضرب بها. غير أن الجليد كان حقيقيا، هل يمكن أن تقر بذلك؟. غير أن السيد سيلفر مان لم يطلع على دانتي، ولا يفهم أي شيء عن الجليد، ولكنه أقر فورا، بعد عدة كلمات مع الدكتور بلينش، أن تفسير دانتي للجليد صحيح بلا شك. تابع الدكتور بلينش يقول: ولكن الشيء الذي لم أستوعبه: لماذا قال إنه شيء يحصل للخونة. أعني هل أنت خائن؟. لكن لا أعتقد أنني خائن. ولربما وصل لتلك النتيجة بالخطأ، حتى لو أن الجليد حقيقة ملموسة. 

فكر السيد سيلفر مان العائد إلى البيت بالسيارة وهو على طريق M25 بالخيانة. هل هو خائن؟. هل هو كذاب؟. ومن استهدفه بخيانته؟. وعلى من كذب؟. نظر لزوجته. كانت تركز على الطريق في هذا البحر المضيء وتحت وابل المطر والرذاذ. وتابع تفكيره: لن يحدث ذلك لها. عندما ترتاح قليلا ستعود لحياتها المعتادة، والروح ضرورية لهؤلاء. لكنه لا يعتقد أن عدوه اللدود أو ملائكة يوم الحساب تستطيع أن تثبت خيانته لزوجته. فهو، وفي مناسبتين أو ثلاث، خلال رحلة عمل تورط مع عاهرات. في طوكيو أرسلوا له عاهرة لغرفته في الطابق رقم 141 دون أن يطلب ذلك منهم. كان التصرف على سبيل اللباقة فقط. مع ذلك أخبر السيدة سيلفر مان بعد العودة للبيت أنه لم يشعر هناك لا بالمتعة ولا السعادة. ولا يمكنه الآن أن يؤكد أنها غفرت له. ولكن عليه أن يقر أنها لم تتكلم عن التبرئة أو الخطيئة. بل أثنت عليه وتنهدت. ودارت حول الموضوع قليلا، كما لو أنه شيء غريب إنما لا بد منه. وكان يبدو أنها تفكر إن أذاها ذلك أم لا، وقررت مع تنهيدة، أن الأمر لا يستدعي الضغينة.

ولبعض الوقت تورط بعلاقة غرامية مع امرأة من فرانكفورت، تعمل سكرتيرة في عدة نشاطات اشترك بها. وأخبرته أنه رجل مؤثر. ومارسا الجنس معا لبعض الوقت في رحلات العمل. ولكنه اعترف للسيدة سيلفر مان أنه لم ينغمس معها حقا، وفكرت بالموضوع وبجوهر الأمر لبعض الوقت وانتهت لما يلي: لا شيء يستحق الذكر. ولذلك هو لا يعتبر نفسه خائنا ولا كذابا. على الأقل ليس مع زوجته، أقرب شريك له على وجه الأرض. من كان ضحية خيانته إذا؟.

وليس هناك أشياء كثيرة يمكن أن تقولها عن السنوات المتبقية - سنوات متعددة، لا تحصى، كما يبدو له أحيانا - من موته وهو على قيد الحياة. فقد كان السيد سيلفر مان أشبه بالميت الحي. وبضوء الأحداث التي لا يمكن تجنبها، والتي تصيب أشخاصا مثل السيد سيلفر مان، بالصدفة أو بفعل المنة الإلهية، اضطر أن يدخر بعض النقود، ويضيفها لحساب السيدة سيلفر مان لمنفعة أطفالها. أخبرها بذلك بهدوء ودون أي خيلاء وتكبر، وتقبلته كما فعلت حينما أخبرها عن العاهرات والسكرتيرة التي مارس معها الجنس لفترة بسيطة في فرانكفورت: وشكرته، وأومأت برأسها، كما لو أنهما غريبان وبينهما رسميات. وراقبها وهي تختفي وراء عينيها، في المكان الذي تنتمي له فعلا. فكر السيد سيلفر مان مطولا بالجليد. وربطه بعجزه عن البكاء - وكان محقا. وفي إحدى الأمسيات وهو في المصعد، يصعد بسرعة رهيبة للطابق 151 في مانهاتن أو طوكيو أو فرانكفورت أو سنغافورة، وجد لنفسه شراكة روحيه مختبئة في كائن مثله، رجل أضخم بالحجم، يرتدي بذة من قماش عالي الجودة، ويضع ربطة عنق ممتازة، وفي بنصره الأيسر خاتم مميز عريض. قال له الرجل: اسمي سام. وأخبره فورا عن نهاية سيئة (إن كانت نهاية أصلا) وعلم بها للتو. فتح الباب، ووقف السيد سيلفر مان وسام معا في الممر الصامت. وتابع سام. الرجل المعني - لا بد أنه واحد منا - رفع معول الجليد نحو وجهه بيأس مطبق، وبيد ثابتة. وكما ورد في الحكاية، كان وجهه، الحقيقة كل رأسه، مغلفا بالجليد مثل خوذة ضخمة.  يمكن أن تقول إنه رفع من وراء غلالة اليأس والوهم فأس الجليد إلى ما بين عينيه ليفتح لهما نافذة، وليسهل على الدموع أن تسيل منهما. وحسب قناعته لتنبع منهما، كانت دموع حارة تنبع بغزارة من عينيه ولا تجد فرصة لتسيل للأسفل.

*** 

...................

* من مجموعته "في بلد آخر - قصص مختارة". 2015.

* دافيد كونستانتين David Constantine قاص وشاعر إنكليزي. مولود عام 1944.

 

في نصوص اليوم