ترجمات أدبية

كريستينا بيراشيو: طاولاتان جانبيتان

3024 كريستينا بيراشيوبقلم: كريستينا بيراشيو

ترجمة: صالح الرزوق

معظم مقتنياته، الآن، محزومة بعلب، ومكومة في غرفة المعيشة مثل قلعة، ولم يتبق بحاجة للتوضيب غير زوايا قليلة من الشقة. ولم تكن تتوقع أن الطاولتين الجانبيتين في غرف النوم ستكونان مشكلة. قالت منهكة وبنفور لأنه رفع صوته:”ولكنهما مجموعة متكاملة”. وأشارت بيدها لواحدة ثم للأخرى، ثم عقدت يديها فوق رأسها مع تنهيدة عميقة. وأطبقت شفتيها. قال وإحدى يديه على خصره والثانية تلهو بخصلة من شعر رأسه:”لماذا لا يمكنني الحصول على طاولتي؟. أنا متمسك بها.”.  كان صوته مرتفعا لكنه هادئ ومستقر كأنه يخاطب طفلا أوشك على الانهيار. وقاطعته بصوتها المتقشف:”لا يوجد أي حكمة بتقسيم الطاولتين”. ولدغته بعينيها. وكما لو أنه خرج صفر اليدين قال:”أريد أي شيء. أي شيء من هنا أحمله معي”.تصورته في غرفته الضيقة الجديدة مع صديقة بالسرير، ونظرت للطاولة الطحلبية اللون. ربما ستلقي تلك الصديقة جزدانها على هذه الطاولة، وتسترق النظر من الأدراج حينما يكون في الحمام، ثم تسجل له رقم هاتفها في المفكرة التي يتركها دائما في آخر درج، وتكتب له:”شكرا على الليلة الطيبة”. ثم توقع باسمها تيفاني أو كانديس أو أمبير، دون أي كنية.

قالت:”يا ليسوع المسيح. أنت تتصرف كأنك لن تلتقي بي مرة أخرى. سنعيش في نفس المحلة، وسنشترك بنفس الأصدقاء”. وتحاشت النظر إليه وانحنت لالتقاط بعض حبيبات الغبار المتجمعة على أطراف الفراش. كان الحوار من النوع الذي ستندم على نصف ما خرج من فمها. حينما كانت تعمل في مكتب المحاماة، كان عليها طباعة اتفاقيات توزيع الممتلكات المنزلية. كانت تبدو لها غريبة وخاصة جدا. الزوجة تحصل على كراسي غرفة الطعام، وأثاث الاستجمام (باستثناء الأرجوحة)، وخزانة الخزف ولكن ليس الخزف. أما الزوج فيحصل على الكنبة الطويلة، وقاعة الاستجمام (باستثناء التلفزيون)، وثلاجة القبو بما تحتويه. أما بخصوص العتاد، الكراسي المطوية للضيوف، ومجموعة الشراب أو أواني الحلويات، وكراسي الجلد المتدحرجة، وكؤوس شاي الجدات، وزينة عيد الميلاد وطاولات السباحة ومكانس الهواء.

قال كأنه كان يفكر بذلك:”أليست هذه مسألة سهلة؟.نحن لدينا اثنتان منها؟”. ربما لقنه أحد الأصدقاء هذه الفكرة. ورغبت لو تلطمه. والتقطت نفسا عميقا وكان يبدو كأنها تريد أن تعلمه كيف يعقد رباط حذائه أو يجهز قطعة خبز مع الزبدة، كذبت تقول:”إن قسمناها بيننا، سيكون لون الطلاء متنافرا”. ورفعت حاجبيها للأعلى، وهمدت، وضمت فمها بشكل مستدير. وطرفت أمامه وهزت رأسها لأنه لم يكن يفهمها. وأضافت:”إذا سأحصل على قطعة أثاث خضراء محمرة مع مجموعة إكيا حتى لو لم يكن لذلك معنى على الإطلاق”.

وترك صوتها يحوم في الفراغ الفاصل بينهما مثل سحابة ضباب. وحك جسر أنفه بقفا يده ليخفي بداية ابتسامة محيرة.

*

سيذهب بعطلة نهاية الأسبوع، وينتقل إلى بيته الجديد.  وحينما تعود، لن يكون موجودا، وستكون رائحة الشقة مخضبة بعبير معجون الحلاقة وبالرطوبة، كما لو أنه يستحم. وستكون الأطباق في المغسلة وسينتابها الجوع وستأمل بوجود بقايا طعام. في إحدى المرات غادر البيت بعد عراك بسبب شخص لا تعرف كنيته. وحزم حقيبة أودع فيها بعض القمصان، وكتابا أو اثنين، وفرشاة أسنانه، وماكينة الألعاب “البلاي ستايشن”، وقد ضحكت بسببها رغم ما يجري. والآن رف الكتب فارغ تماما، وقد ترك ذلك شعورا بالحنين المرضي. لم تفكر أنها ستصل لهذه الدرجة. كان الرف ملكها، ولكن معظم الكتب له: نابوكوف وغوغول ودستويفسكي. كتب أثقلت الرف وضغطت على مقتنياتها الرقيقة وجعلتها تبدو تافهة. استقلت في النهاية برف صغير في الزاوية، وقد أضافه من أجلها دون أن تطلب منه ذلك.  وأعجبها اهتمامه بها وهو يرتب كتبها وفق النوع، ثم حسب الأحرف الهجائية. مررت أصابعها على أطراف الكتب التي تركها وراءه والمجللة بالغبار. فقد توقفا عن تنظيف الشقة منذ أسبوعين بعد الاتفاق على الانفصال. والآن قد غادر ومعه نصف مقتنياته، مخلفا وراءه فراغا قاتلا لم يبق حكمة في التنظيف؟. ودفعها ذلك للإحساس باليأس لكن بطريقة إيجابية. لم تبدل من شكل أثاث والدتها القديم بتزيينات مضافة، وكانت بقع النبيذ الأحمر تتجمع بشكل يشبه ميكي ماوس. وسمحت لبعض الطحالب الزهرية بالنمو في الحمام، وبالزحف حول المصرف وعلى الستائر. وكانت تلتصق شعرات شاربيه في المغسلة فوق معجون تنظيف الأسنان. ألقت عليها بعض الماء الحار ورشته بيدها وهي تنظف أسنانها. وكان هو يترك وراءه خطا أسود على أرض المطبخ. وحاولت أن تركع على ركبتيها ويديها ولكنها أقلعت عن ذلك وأهملته لينتشر في كل الأرجاء ويلتصق بالأرض. وأنّ رف الكتب وهي تحاول تحريكه بعيدا عن الجدار لتحمل بعض العناوين المهملة التي سقطت وراء الرف. كان عليها أن تتصرف بالنهاية. ومشطت الأدراج، وفي أعماق السقيفة، وتحت مقاعد قرب النوافذ كأنها تبحث عن القمل في رأس طفل. وبعد ذلك كان هو يدس نفسه في خزانتها، وينثر الأشياء حوله من صندوق الزينة، وأخيرا انتشر الضباب على مرآة الحمام وغطاها. وأهمل كلاهما مجموعة التسجيلات لنفس السبب. لم يكن يبدو من المناسب تحديد من يجب أن يحصل على روبيرت جونسون أو إلفيس صان. لا أحد يذكر من اشترى هذا أو ذاك. ولا من قدم هذا هدية لذاك. وما هي المقتنيات المشتركة للبيت. وتمنت لو تقرر التسجيلات مصيرها تلقائيا، وتخيلت “التعاطف مع الشيطان” و“قفي مع رجلك” تخرج من آلة التسجيل وتدخل في حقيبتها مثل ديدان زاحفة. وفي ليلة من الليالي، بعد ابتلاع عدة كؤوس نبيذ، وكيس من البوشار، وقرصين من بورغير “القلعة البيضاء” تناولتهما وهي قرب المغسلة، جلست على طرف سريرها، تتأمل طاولته الجانبية. شاهدت في الرف السفلي المفتوح كومة من الجوارب غير النظيفة، ومجلة ممزقة، ودفتر ملاحظات له لولب معدني وحواف بالية، ومصباحا يدويا مكسورا، وكيس رقائق بطاطا مفتوحا. ثم الدرج. أخذت رشفة ثانية. وحكت بقفا يدها شفتها المطلية. لوثت قشرة من الجلد المصبوغ بالأحمر القاني عقد أصابعها. لمست لسانها بطرف اصبعها وكشطت قليلا منه وألقته على الأرض. رشفة إضافية. ثم فتحت الدرج. كانت قد بحثت فيه من قبل. سواء بوجوده في الغرفة أو بغيابه. ولكن الآن كأنها تبحث في أشياء شخص غريب. اعتادت التلصص على أدراج طاولات والديها وعلى أدراج طاولة زينة أمها في فترات مبكرة من حياتها حينما كانت صغيرة، واعتقدت أنها لم تشب عن الطوق، و لا تزال هذه العادة ملازمة لها. وفي الأعلى وجدت رسالتين بخط يدها كما لو أن أحدا قرأهما للتو، وكانتا مطويتين طيات صغيرة، وهما رسالة اعتذار ورسالة مطالبة بالاعتذار. وتحتهما بطاقات عمل بالية. بعضها تعرفت عليها وبعضها لم تعرفها. وبعضها تحمل ملاحظات مكتوبة على قفاها، وغالبا هي عناوين صفحات انترنت أو كتابات سريعة، بخط  يده الرقيقة والطويلة. وبعضها بخط  لم تتعرف عليه. حينما كانا معا كانت تختلس النظر، بطريقة غريبة، وتأمل أن تشاهد رقم هاتف وبجانبه إشارات تدل على الحب والشوق. كانت الوالدة تفضل اختلاس النظر، حتى لو كشف لها ذلك شيئا. وكانت تقول: هذه هي أفضل طريقة لحماية ذاتك، ثم تنفخ الدخان وحاجباها مرفوعان مع ابتسامة مرسومة على شفتين مطبقتين. دليل على أنها امرأة صلبة وعنيدة. وبينما كانت تبحث بين فواتير الشواء وزجاجات البيرة، وبطاقات مشتريات لوازم رياضية وألعاب، لم تجد شيئا يجرمه. كان هناك كوب شخصي صغير اعتقدت أنها فقدته، ونصف سيجارة حشيش وبعض الولاعات الصغيرة التي تحصل عليها من محطات الوقود. وهناك كذلك حفنة من الواقيات الملونة المدسوسة وراء الدرج وتحمل تاريخا يرجح أنها تعود لمركز الجامعة الطبي. ومعها زجاجة تدليك للسفر. ثم صورة عارية التقطتها لنفسها وأضافتها لأشياء عيد ميلاده في إحدى السنوات.  وفكرت أن تتلف الصورة، فقد سمعت قصصا مرعبة عن أصدقاء سابقين ينشرون الصور لتشويه السمعة في مواقع إنترنت التعري. وعوضا عن ذلك طوتها نصفين ووضعتها في المعجم تحت صفحة تبدأ بكلمة “حق” فقد فتحت المعجم هكذا واعتقدت أنها كلمة مناسبة حقا. لو أراد أن يحتفظ بطاولته اللعينة، ستكون على ما يرام لأن صورتها العارية تحت هذه الكلمة. وبعد أن مسحت الزاوية بأصابعها، تقشر بعض الطلاء الطحلبي المخضر. كانت قشرة الطلاء بحجم قرش وبشكل زهرة اللبن، ضغطت عليها براحتها مستعينة بأصبعها السبابة فتبعثرت. ثم نفخت الغبار من راحتها. في السقيفة وجدت ثلاث علب طلاء صغيرة من القصدير، النوع الذي تحصل عليه من مخازن المستلزمات الثقيلة لاختبار اللون. لم يسبق لهما أن قاما بطلاء شيء. فقد كانا يأملان بالانتقال لمكان أفضل. كان لون الطلاء كريميا وترابيا وأزرق بلون مياه الخليج. وتوجد أكثر من فرشاة قاسية وإناء طلاء، ولم تجد ورق زجاج، ولكن ربما هذا ينفعها. وضعت محتويات درجها في حقيبة ظهره وجرت الطاولة إلى الصالة. في نهاية السلالم ودت لو تركل كل شيء ركلة قوية. وتراقبها وهي تهوي على السلالم وتتحطم لأجزاء صغيرة وترضي غرورها. ولكنها رفعت الطاولة بركبتها وهي تدمدم، ودفعتها نحو الممر. اللون الترابي داكن لا يسمح بظهور اللون الأخضر من تحته، ولذلك اختارته. غمست أكبر فرشاة في العلبة، وبدأ الطلاء يقطر من شعرات الفرشاة القاسية، وذكرها بطريقة تحضير حلوى التفاح. جف بسرعة وأعادت كل شيء كما كان. ألقت جوربه القذر فوق كومة من الفواتير غير المفتوحة. وبعثرت الواقيات الذكرية في الخلف وتركت عددا منها خلف الدرج وكان هناك عدد قليل منها أساسا. وألقت كمية من الخيوط المطاطية على الطاولة، وقلما بغطاء ممضوغ، وكوب الماء. وقلبت في مفكرته حتى بلغت صورة هرم مظلل وعنوان قائمة الواجبات. ومنحها اهتمامها بهذه التفاصيل إحساسا بالاعتزاز والكمال ولكنها كانت تعلم أن ما يجري مجرد جنون.

وحينما جاء كانت في السرير، جلست وتظاهرت أنها تقرأ. تخلت عن نظارتها وقالت بصوت مبحوح:”أنا هنا”. تعثر وهو يتخلص من حذائه، واعتقدت أنه مخمور. استلقى على الكنبة وسمعت صوته يبحث عن جهاز التحكم. نادت تقول:”هو بين الكنبة والأريكة”. قال شكرا. كانت قد سنت قاعدة: أن لا يوجه أحدهما أسئلة للآخر - من، ماذا، أين - ولذلك كان البدء بحوار مهمة صعبة من غير مقدمات. وهذا هو الحال في معظم الأمسيات الآن، فهما معا لكن كل منهما بغرفة مستقلة ينظر للسقف بمفرده ويثرثر مثل طفل في مخيم. وراهنا على العبارات الفجائية التي يمكن أن تتكرر على الأسماع. قال من غرفة المعيشة:”اليوم كانت الظروف أفضل. أحتاج للمزيد لأحصل على النقود”. وتابع الكلام:”لو هذا القدر، فهو القدر”. وأضاف:”حصل أن التقينا في وقت مبكر”. وبدأ يتململ بحثا عن الاسترخاء على الكنبة. ثم قال:”هذه ليلتي الأخيرة. ويمكنني الانتقال للبيت الجديد غدا”. ولم يكن من المفروض أن يصدمها كلامه لكنها شعرت به. غادرت السرير وتوجهت إلى الباب. قالت:”يمكنك أن تنام معي إن أردت. حتى لو أنها آخر ليلة لك”. نظر إليها كأنه يسأل لماذا؟. قالت:”فقط للنوم. هذا قصدي. احصل على كفايتك من النوم قبل أن تحمل أشياءك غدا”. وأرادت أن توضح ولكن انطبقت شفتاها بإحكام. انتظر دقيقة ثم تبعها إلى غرفة النوم. واحتل طرفه المعروف، وتخلى عن سروال الجينز، واستلقى بجانبها. كان حذرا، مثل تلك الإعلانات التي يظهر فيها كوب من النبيذ على الفراش. وبعد أن استقر، لف الملاءات حوله بإحكام. وابتعد عنها ولزم الهدوء وهو يحدق بالطاولة الجانبية. كان الطلاء قد جف وأصبح بلون برتقالي محمر عميق ومحروق. لون يمكن أن تجده في بيت صحراوي أو على بعض الأحجار المتكسرة بسبب اللبلاب في توسكاني.

سألها بصوت حاد:”ماذا فعلت؟”. وذكرها بصوت والدها حينما اكتشف أنها صبغت شعرها بلون قرمزي واستعملت عصير “كول إيد”.

قالت:“قمت بطلائها”. ولم يرد واكتفى بالنظر لها، كأنه يقول للم أسأل عن ذلك. تابعت:”والآن، هما غير متشابهتين ويمكن أن تحملها لبيتك الثاني. هذا لا يهمني. يمكن أن تحصل عليها”. ولم يرد. فأضافت:”لا توجد مشكلة بذلك”.

مرر يده على وجه الطاولة كأنه يريد أن يتأكد أنها هي ذاتها. وقال:”شكرا”. بصوت ناعم وبطريقة طفل يشكرك بذهول بعد تلقيه الأوامر. وتابعا الاستلقاء كل منهما بجانب الآخر. دون كلام، وأحيانا كانت تلمسه بقدمها في سمانته من تحت الغطاء. وشعرت بثقله ودفئه في السرير بجانبها واستولى عليها ذلك الشعور بالحنين مجددا.

قال والعتمة الهادئة تخيم على غرفة النوم:”أحب اللون الأخضر”.

***

 

........................

كريستينا بيراشيو Cristina Perachio: كاتبة أمريكية معاصرة شابة. حصلت على درجة الماجستير من جامعة ساذيرن مينز. تعيش مع زوجها وابنتهما في ساوث فيلادلفيا.

 

 

في نصوص اليوم