ترجمات أدبية

فرديا لينون: رجل أمام باب داري

3333 lennon ferdiaبقلم: فرديا لينون

ترجمة: صالح الرزوق


 منذ عدة سنوات جاء رجل إلى أمام باب البيت وادعى أنه والدي. كان شعره أبيض، ويرتدي معطفا رقيقا مثقوبا بعدة مواضع على كتفيه، وله أنفاس تفوح منها رائحة النعناع. وعند قدميه كلب لا يزيد حجمه على هرة. سمحت له بالدخول. كان بيتي كبيرا والبساط ناعما وسميكا. ولاحظت الوحل على بوطه الذي غاص في البساط، وانتبهت كيف نظر لي بتعبير متألم. وعندما ذهبت إلى المطبخ تبعني مع كلبه.

سألته:”هل تشرب الشاي؟”.

“من فضلك. وممتن كثيرا”.

وضعت الغلاية بالكهرباء وحملت كوبين من الرف. وأصدرت الكثير من الضوضاء وأنا أقوم بذلك، وتسببت بسقوط كوب آخر وأكثر من مقلاة. وشعرت بنبض الدم في صدغي، وفي حلقي، وعندما نظرت إليه لاحظت أنه يرتعش، وكان الموقد يلمع بضوء برتقالي في الزاوية، وأصبحت الغرفة حارة. قدمت له الشاي. قال:”شكرا. كان يوما تعيسا”. ثم أشار للنافذة وأضاف لكوبه أربع ملاعق ممتلئة بالسكر. وفي الخارج تثنت الأغصان المستطيلة في الريح، وسالت مياه بنية من السور الذي يحيط بحوض الزهور. وبغضون ساعة أو أكثر توقعت أن تغرق الحديقة كلها.

قلت له:“فعلا”.

أجاب:“معتاد على ذلك، لكن الكابتن المسكين الآن مريض”.

وربت على الكلب، وبدوره لعق الكلب راحتيه وأصدر أنينا متقطعا. ولعدة دقائق ران السكون. وتبادلنا النظر. وأعتقد أن كلا منا كان يبحث عن إشارة تدل على ذاته. كانت عيناه تقريبا بلا لون، مثل نقطة حبر في كأس من الماء. وكذلك عيناي. وكان أنفه مستقيما وشفتاه رقيقتين وكذلك أنفي وشفتاي.

ولكن كان خداه غائرين وأحمرين، وبرزت عظام يديه وهو يقبض على الكوب.

سألته:”هل تريد شيئا للطعام؟”.

هز رأسه وقال:”لا. لا. شكرا. أتيت ... أتيت لأنني...”.

قاطعته:”سأحضر لك شيئا”. ونهضت وتوجهت لصفيحة التسخين. وجدت قطعة خبز مع بسكويت بالجنجر والبندق ونصف قطعة كعك. قطعت شريحة سميكة من الكعكة وأحضرتها إليه على طبق مع ملعقة. التقط الملعقة ثم ألقاها من يده على الطاولة. قلت له:”تناول الكعك وإلا ستفسد”.

قال:”آه” وأكل قليلا. أولا ببطء، ولكن مع كل لقمة كان يحصل لوجهه شيء ما، وتضيق عيناه، أو العينان تضيعان، وعند اللقمة الخامسة ظهرت ابتسامة الرضا والطمأنينة. كان سعيدا بطريقة طفولية، وتمنيت لو بإمكاني أن أضمه بذراعي، كأنه ابني وأنا الأب، وأخبره أنه عزيز جدا على قلبي، وأنه مهم بالنسبة لي وليس مجرد عجوز مخمور تسعده الشوكولا.

وبعد أن انتهى جرع جرعة كبيرة من الشاي، وأطبق شفتيه بامتنان، ولكن بقيت بقعة بنية صغيرة على زاوية فمه. قال:”شكرا. لذيذ. شكرا”. وحك أذنه وأوشكت أن أقلده ثم منعت نفسي. ومد الكلب قائمتيه الأماميتين إلى ركبتيه. قال له:”اهبط يا كابتن”. وربت على الكلب تحت العنق وعلى الصدر واستمر الكلب بالاقتراب منه بقائمتيه.

قال:”أعلم بماذا تفكر وأنا... توقف يا كابتن. آسف. فهو... أعلم بماذا تفكر. أنا.. يا كابتن”. ثم أخبرني أنه أراد أن يزروني منذ سنوات، ولكن خاف أن أرفضه. وكان يسأل عني دائما ويجمع أخباري. وتابع حياتي المهنية باعتزاز. وقال بالحرف الواحد:”باعتزاز كبير”.

وحينما تكلم شعرت أنه حاول استعمال مفردات غريبة أو أسلوبا ليس له، وربما تكهن أنه يسرني كلامه هكذا. وقال إنه حضر جنازة والدتي، غير أنه اختار أن يكون في المؤخرة وراء شجرة، وبعد أن انصرف الجميع، قرأ عدة كلمات فوق قبرها. ولسبب ما ضحكت حينما قال ذلك، وسمعني، فقطب وجهه. وذكر أن هذا ليس شيئا مهما، ثم رشف قليلا من كوبه مع أنه كان فارغا. وجلسنا بهذه الطريقة لفترة طويلة. وألقت نار المدفأة ظلا راقصا على الجدار، وراقبت رقصة الظلال أنا والكلب.

وتابع الرجل كلامه، وأخبرني أنه ليس بحالة جيدة، وأنني سأكون أفضل من دونه. وقال إنه بذل جهده ليتحسن، ولكن دون نتيجة. وهو مريض، وضعيف، وأسعده أنني تبعت آنا. لأن آنا قوية، وأنا قوي. رفعت يدي ولمست رأسه. لم أخطط لهذه الحركة، وفاجأتني مثلما فاجأته، ورأيت يدي على رأسه الأشيب. ابتسم وحضن يدي بيديه النحيلتين، وضغطها. جهزت كوب شاي آخر لكلينا. وتكلمنا عن أمي وكيف قابلها. لم تكن تحدثني عنه ولذلك سمعت الحكاية لأول مرة. وأخبرني أنهما التقيا بحفلة راقصة في كيلورغلين. وقال إنه ربحها بعد أن غنى لها عدة أغنيات، لكن مظهره لم يلفت انتباهها، بل صوته. وتبعها بعد حفلة كيلورغلين الراقصة حتى الشارع الرئيسي وأثار غضبها، وأحرجها، ثم وافقت على موعد معه.

سألته: ماذا لو كان صوته رديئا، فضحك وربت على ظهري، كأن كلامي ينم عن بديهة سريعة. وقال:”لديك موهبتي بالمرح، ولكن قصتي صادقة. ألم تخبرك بها؟. حقا؟. آه، بعد اللقاء رافقتها إلى دينغل، وركبت معها بالقارب، قارب ابن عمي، وهو قديم ومجهد قليلا، لكن غنيت لها أغنية. أغنية من تأليفي، عن أشياء كنا نراها، مثل القوارب الأخرى، وفقمة يرفع رأسه فوق الماء، والنوارس، وكيف كلها تغار مني لأنني في القارب مع أجمل بنت في دينغل. فلطمتني بلطف، لطمة تحبب وقالت ’دينغل فقط؟’. لن أنسى ذلك، قالت: في دينغل فقط. وأجبت لا. ليس فقط دينغل، بل كل إيرلندا، وسألتني هل أنا أقول الحقيقة أم أنني أمزح، نظرت إليها، بجدية بالغة، وقلت لا، كل إيرلندا، وغنيت لها مجددا، كل إيرلندا فقبلتني و...”.

وقفت وذهبت إلى النافذة. وجلس في الزاوية. وتابع كلامه، معربا عن فرحه لأننا أصبحنا صديقين. وامتزج صوته بصوت المطر وهو يطرق الزجاج وخشخشة الأغصان وهي تلامس الزجاج كذلك. ولم أهتم للأمر. كانت هذه الأمور عفوية. وجلس كلبه عند قدمي. وامتص بلسانه الوردي حذائي. ولاحظت آثار مخالبه مطبوعة على السروال. ونقلت نظري من البقع على سروالي إلى الآثار البنية الموجودة على شفتي الرجل المسن. ولكن لاحظت أنه كان مبتهجا حتى لو أنني لم أفهم معنى كلامه. وهاجمني في صدغي ألم حاد ورافقه شعور بتيار جارف من الدم يهدر في دماغي، شعور كادت أن تنفجر معه جمجمتي. وأعدت النظر بالرجل المسن، ووضعت قدمي على رأس الكلب المستلقي عند قدمي وضغطت عليه كي لا يتحرك. فأصدر صوت استغاثة وبعد ذلك سمعت صوت تهشم شيء. وبغضون لحظة انبطح الرجل المسن على أرض المطبخ، وقبل الكلب في عينيه ومن أنفه ورقبته. وحمله بين ذراعيه فأن الكلب، ودارت عيناه بالمكان. وحينما هدهده، سال دم أسود من أذنه على الأرض. وبدأ الرجل الكبير يعول:”كابتن. كابتن”. وكرر نفس الكلمات همسا: كابتن.. كابتن.. رجاء.

قلت له:”آسف”.

رفع بصره نحوي. وكانت كل ملامحه ترتعد. كما لو أن جلده ماء وتهب عليه نسمة رقيقة.

كررت:”آسف. لم أتعمد ذلك”.

وتابع هو الهمس للكلب. وتقبيله ومسح الدم بكم معطفه. وراقبت ذلك بغيرة غريبة، وتمنيت في تلك اللحظة لو أبادل الكلب بالمواضع، وأكون بمكانه. لثاني مرة في حياتي لمست رأس الرجل، لكنه ابتعد عني ورفع نبرة عويله. ولست متأكدا كم طال ركوعه هناك. ربما لفترة طويلة. ما يكفي ليبرد الكأس في يدي.

وحينما وقف لف الكلب بمعطفه ولم يبرز غير رأسه من ياقة المعطف، وكانت عيناه الدامعتان تطرفان. وحاول أن لا ينظر لي. وحاولت أن لا أبادله النظر. وبعد أن غادر انتظرت في المطبخ وتظاهرت أنني أشرب الشاي. وعندما بلغني صوت إغلاق الباب الأمامي علمت أنه انصرف. فتحركت نحو نافذة غرفة المعيشة. كانت الستائر مسدلة، ففتحتها لأشاهد القامة المحنية للرجل المسن وهو يتحرك ببطء على طول الممشى ويخرج من البوابة. وسار في الممر الذي يقود إلى الحافلة وتساءلت أي حافلة سيستقل وأين يعيش.

وبسبب المطر كان شعره الأبيض قد أصبح رماديا، وانتبهت لرأسه الرمادي وهو يختفي ويبتعد، حتى لم يتبق منه غير أثر رمادي رفيع في نهاية شارع رمادي. وبعد أن اختفى تماما راقبت الطريق. 

وليس بعد فترة طويلة من الانتقال إلى المطبخ نظفت الكوبين والطبق والملعقتين. بعناية شديدة تعاملت مع الطبق وغسلته مرتين. وبغضون دقائق لم يبق أثر من الرجل الكبير أو كلبه كأنهما لم يكونا هنا. فقط خط داكن أحمر على الرخام. فمسحته بماء حار مغلي.

***

ترجمة صالح الرزوق

..........................

فرديا لينون Ferdia Lennon كاتب إيرلندي يعيش بين دبلن وباريس. ويعتبر من الأصوات الواعدة. الترجمة عن آيريش تايمز. 2019. 

 

 

في نصوص اليوم