ترجمات أدبية

بورا شونغ: الرأس

بقلم: بورا شونغ

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت على وشك أن تغسل دورة المياه. سمعتها تقول:”أمي؟”. نظرت للخلف. شاهدت رأسا بارزا من دورة المياه يناديها: “أمي؟”. نظرت المرأة نظرة عابرة ثم غسلت الحوض. اختفى الرأس في تيار الماء المسرع. غادرت الحمام. وبعد عدة أيام قابلت الرأس مجددا في الحمام. ناداها: “أماه”. مدت المرأة يدها لتغسل الحوض مجددا لكن الرأس تلعثم يقول:”كلا. انتظري دقيقة...”. جمدت يد المرأة ونظرت إلى الأسفل نحو الرأس الموجود في الحوض. ربما الأدق أن تقول “إنه شيء يبدو بشكل مبهم مثل رأس” غير أنه ليس رأسا حقيقيا. كان بحجم ثلثي رأس بالغ ويشبه كتلة غضار رمادي معجون بلون أصفر كيفما اتفق مع خصل قليلة من شعر رطب. ولا توجد أذنان ولا حاجبان. وهناك ثقبان ضيقان مكان العينين ولا يمكنها أن تؤكد إن كانت العينان مفتوحتين أم مغلقتين. والقبضة المسحوقة من اللحم البشري كانت هي الأنف. أما الفم فهو شق بلا شفتين. وهذا الشق يفتح ويغلق بشكل عبثي كلما تكلم معها، وكلامه المبحوح ممتزج بغرغرة إنسان يغرق، الأمر الذي يصعب عليك فهمه. قالت المرأة:”أي لعنة هي أنت؟”. رد الرأس:” أسمي نفسي رأسا”. قالت المرأة:”هذا واضح وممكن. لكن لماذا أنت في حوض دورة مياهي؟. ولماذا تناديني يا أمي؟”. ضغط الرأس على نفسه وهو ينطق كلمات لم يتدرب عليها بفمه المحروم من الشفتين فقال:”جسمي تشكل من أشياء تخلصت منها أنت في دورة المياه، مثل شعرك المتساقط وورق الحمام الذي تستعملينه لتنظيف مؤخرتك”. قالت المرأة بحنق:”أنا لا أسمح لشيء من نوعك بالحياة في دورة مياهي. ولم أصنعك على الإطلاق. توقف عن مناداتي يا أمي. وانصرف قبل أن أنادي المنظف”. أضاف الرأس بتسرع:”لم أطلب إلا القليل. كل ما أطلبه أن تتابعي رمي نفايات جسمك في حوض دورة المياه كي أتمكن من الانتهاء من تشكيل بقية جسمي. ثم سأنصرف من هنا وأعيش بطريقتي. من فضلك تابعي استعمال دورة المياه كالعادة دائما”. قالت المرأة ببرود:”هذا مرحاضي. ولذلك سأستعمله كما أفعل دائما. ولكن لا يمكنني تحمل التفكير بمخلوق مثلك يعيش فيه. وأن تستكمل جسمك لا يهمني. ولست معنية بأفعالك، وسأكون ممتنة لو اختفيت وامتنعت عن الظهور”.

توارى الرأس في المرحاض. ولكنه عاد للظهور. وبعد كل تيار ماء متدفق كان يمد رأسه من فوق كرسي دورة المياه ويراقب المرأة وهي تغسل يديها. وكلما شعرت المرأة أنها تحت الملاحظة، كانت عيناها تنظران لدورة المياه وتحدق بعينين يصعب أن تقرر أنهما شقان مفتوحان. وكان الوجه المهشم يبدو كأنه يحاول تشكيل انطباع، مع ذلك يستحيل أن تعرف مضمونه. ثم اختفى الرأس بسرعة في دورة المياه حالما اقتربت منه.

أغلقت المرأة الغطاء بضربة مدوية، وسكبت تيار الماء، ونظرت للكرسي لبعض الوقت، ثم انصرفت. وفي أحد الأيام، استعملت المرأة دورة المياه كعادتها، وأطلقت تيار الماء في الحوض، ثم بدأت بغسل يديها. وظهر الرأس مجددا وراءها في دورة المياه بالشكل المعتاد. نظرت له المرأة عدة لحظات على صفحة المرآة. فعاود الرأس النظر. كان الوجه المعجون والمهشم تحت خصلة الشعر غير المسرحة أصفر ورماديا بطبعه، ولكنه الآن كان أحمر على نحو غريب. وتذكرت المرأة أنها تمر حاليا بدورتها الشهرية. قالت للرأس:”لونك مختلف. هل لك علاقة بحالة جسمي؟”. رد الرأس:”أماه لحالة جسمك علاقة مباشرة بمظهري. هذا لأن وجودي كله يتوقف عليك”.

تخلصت المرأة من ثيابها الداخلية والحفاضة الطبية. وضعت الحفاضة الملوثة بدم حيضها على وجه الرأس ودفعته في دورة المياه نحو الأسفل. سكبت تيار الماء. ودارت الحفاضة مع الرأس في الحوض واختفى كلاهما في الحفرة السوداء. ثم غسلت يديها. وبعد ذلك تقيأت في المغسلة. وطالت فترة التقيؤ، ولاحقا غسلت المغسلة وغادرت الحمام. ولكن فاضت دورة المياه بسبب الانسداد. أخرج عامل الصيانة الحفاضة الطبية وقدمها لها كأنها جائزة وألقى عليها محاضرة طويلة يحذرها من إلقاء الأشياء المماثلة في دورة المياه.

وبدأت تحتفظ بغطاء دورة المياه مغلقا. واعتادت، كلما قامت بواجبها، أن تنظر للحوض مرارا. أصاب المرأة مغص. وفي أحد الأيام وهي على وشك إغلاق الغطاء، لمحت رأسا يخرج من الحفرة. ضربت الغطاء وأغلقته وأطلقت تيار الماء عدة مرات. وحينما شارفت على مغادرة الحمام، واربت الغطاء بحذر. والتقت عيناها بعيني الرأس. وكانتا تنظران إليها من تحت الماء. وشعره يطفو حول وجهه. أغلقت الغطاء مجددا. وحاولت أن تصب الماء ولكن المياه لم تنطلق. وأخبرت المرأة عائلتها بالأمر. قالت العائلة:”ليس الأمر مثل هبوط بيضة أو شيء من هذا القبيل. لم لا تتركيه وشأنه؟”.وهذا كل ما تكرموا به عليها. وتحاشت المرأة التوجه إلى الحمام في البيت. وفي يوم لاحق، شاهدته في حمام مكان عملها. كانت قد سكبت الماء في دورة المياه وهي تغسل يديها ولمحته في المرآة، وكان الرأس ينظر من دورة المياه المخصصة. وتخلت عن عملها في اليوم التالي. وساءت أحوال المغص الذي تعاني منه. والتهبت مثانتها. وأخبرها الطبيب أنها بحاجة لزيارة دورة المياه بفترات منتظمة. ولكن فكرة أن شيئا ما يتململ تحتها وهي تقوم بواجبها، بانتظار التهام فضلات بطنها، جعل الذهاب إلى أي حمام شيئا لا يطاق. وأصبحت عرضة لأوجاع الالتهاب والمغص الدائمين. والآن بعد أن تخلت عن مهنتها، اقترحت عائلتها أن تبحث لنفسها عن زوج. وعقدت موعدا بواسطة خطابة رشحتها لها والدتها. كان الرجل موظفا عاديا في شركة تجارية. وأخبرها أن حلمه يتلخص بالزواج من امرأة رائعة، وأن ينجب الأطفال، ويعيش بعد ذلك برفقتها بسعادة. وكان يبدو بلا هدف واتكاليا وبلا خيال. وحينما كانت جالسة أمام هذا الرجل الغريب، لم تتمكن من نسيان وضع الحمام المثير للأعصاب. وأساء الرجل فهم شرودها وضيقها. قال:”المرأة المثالية بنظري خجولة ومتحفظة. من الصعب أن نجد آنسة مثلك تخجل من الجلوس أمام رجل في هذه الأيام”.

وأغرم الرجل بها وتحمس لشريكته وارتبطا رسميا بعد ثلاثة شهور واقترنا بعد ثلاثة أخرى. وأصيبت بالقلق من فكرة شهر العسل. ولحسن الحظ لم يظهر الرأس خلال الرحلة. وأول شيء تأكدت منه بعد الانتقال لبيتها الجديد برفقة زوجها كان المرحاض. ولم تجد شيئا في داخله. وشفيت في بيتها الجديد من التهاب المثانة والمغص. ولم تختلف أيامها، وكانت بشكل دائم عادية، ليست جيدة ولا سيئة، واطمأنت على نحو من الأنحاء.

خلال عاصفة التأقلم مع حياتها الجديدة، وجدت نفسها تنسى الرأس، وسريعا ما أنجبت ابنة. وغاب الرأس من ذاكرتها تماما. وبعد قليل من ولادة طفلتها ظهر الرأس مجددا في حياتها. كانت تنظف الصغيرة في حوض الصغار.

وسمعت كلمة “أمي”. وتقريبا أغرقت الطفلة خلال الحادث. كان رأس الرأس قد تطور الآن لحجم رأس بالغ. لكن شكل كتلة الغضار الأصفر والرمادي لم تتغير. وكانت العينان أكبر قليلا وأصبح بمقدورها أن تلاحظ أنهما تطرفان، وانتبهت لشيء يشبه الشفاه قد التحق بالفم. وظهرت مكان الأذنين قبضة لحمية كما لو أنهما ألصقتا بلا عناية على طرفي الوجه. وتحت الذقن الملحوظة بصعوبة وجدت شيئا لحميا بدا لها كأنه مقدمة لعنق. قال الرأس:“أمي هل الطفلة ابنتك؟”. ردت المرأة:”كيف تمكنت من العودة؟ من أخبرك أين نحن؟”. رد الرأس:”هروبك جزء مني، لذلك سأعلم دائما أين أنت”. ولم تسعد كلمات الرأس المرأة.

قالت بصوت كالفحيح:”أخبرتك أن تغيب عن ناظري. كيف تجرأت على العودة ومناداتي بكلمة يا أمي. وليس من شأنك هذه الطفلة. لكن حسنا، إنها ابنتي.

وهي الوحيدة في العالم المسموح لها بمناداتي يا أمي. والآن. انصرف. قلت لك انصرف”.

وبدأت الطفلة بالعويل. قال الرأس:”ربما ولدت أنا بطريقة مختلفة عن ولادة تلك الابنة، لكن أنا أيضا يا أمي ابنك”.

“ألم أخبرك أنني لم ألد شيئا مثلك؟. أخبرتك أن تنصرف. إن رفضت سأبذل جهدي لأجدك وأدمرك”. وأغلقت غطاء دورة المياه وسكبت تيار الماء. ثم خففت من بكاء الابنة ومسحت بقايا الصابون. وبمجرد عودة الرأس إلى حياتها، تابع ظهوره مثل مرض جلدي خبيث. وكانت تشعر بنظراته المصوبة عليها من الخلف بعد أن تسكب الماء وحين تغسل يديها. وكان بمقدورها رؤية شيء أصفر ورمادي بزاوية عينها، ولكن إذا استدارت بسرعة لتنظر، يكون قد اختفى، ولا يترك وراءه غير قليل من الشعر الذي يطفو في حوض دورة المياه. وعاد لها المغص والتهاب المثانة. وكانت قلقة على ابنتها أكثر من أي شيء آخر.

هل كان الرأس يغار من ابنتها؟. وهل سيعتدي على الطفلة؟. وأقلقتها فكرة أن تلمح ابنتها الرأس. وكانت تضطرب كلما أرادت الصغيرة أن تذهب إلى الحمام. فتضم قبضتيها وتقرر أن تحطم هذا الرأس. ذهبت المرأة إلى الحمام لتقوم بواجبها العادي، ثم سكبت تيار الماء. وانتظرت ظهور الرأس وهي تغسل يديها. وحينما نهض لون أصفر ورمادي من حوض دورة المياه قالت المرأة بصوت منخفض:”لدي شيء أخبرك به”. وأنهت غسل يديها وجلست القرفصاء أمام دورة المياه لتضع عينها في عين الرأس.

ترددت ثم قالت:”أنت...”. وانتظر الرأس بقية كلامها. جرت الرأس، واقتلعته بسهولة من دورة المياه. و لفته في كيس بلاستيك. ثم تخلصت من الكيس في علبة النفايات بالخارج. ثم بقلب خفيف عادت لتعيش حياتها الطبيعية. ولكن الخلاص لم يستمر طويلا. كانت في الحمام مع الطفلة حينما جرى ذلك. كانت الطفلة كبيرة وتستعمل دورة المياه دون معونة. وكان بمقدور ابنتها التعامل مع حاجتها إذا لقنتها أمها كل خطوة، ابتداء من خفض السروال الداخلي، والجلوس على دورة المياه والقيام بحاجتها. ثم تجفيف مؤخرتها، وارتداء ثيابها، وسكب تيار الماء، وغسل يديها. لكن لم تكن ابنتها طويلة بما يكفي لتصل للمغسلة. لذلك كان على المرأة أن ترفعها نحو المغسلة لتستعمل الصابون. وفي أحد الأيام وحينما كانت المرأة تفعل ذلك، ظهر الشيء الأصفر والرمادي المألوف. قال: “أماه”.

“ما معنى هذا؟. كيف رجعت؟”.

وتقريبا نطق فم الرأس كلمات تشبه الشخير غير المفهوم. قال: “توسلت للحارس الذي شاهدني أن يضعني في دورة المياه”. لم ترد المرأة وهي تغسل المرحاض. ودار الرأس مع الماء المتدفق واختفى في الحفرة الداكنة. وفي خارج الحمام كان لدى الابنة أسئلة كثيرة. قالت لها:”ذلك هو ما نقول عنه الرأس. لو وقعت عينك عليه اغسليه فقط”.

كان لدى الرأس نية بالظهور أمامها وأمام الطفلة ومناداتها “أمي”. فقررت أن تتخلص منه دون رحمة. كان اقتلاع الرأس من دورة المياه مجددا أمرا سهلا. ولكن حالما أزمعت أن تلفه في الكيس البلاستيكي لتلقيه مع النفايات ترددت. يمكن للرأس أن يتكلم. لو تخلصت منه بهذه الطريقة، يمكن أن يطلب من عابر سبيل أن يلقيه في دورة المياه مثل المرة الماضية. وتوجب عليها أن تضمن أن لا يتكلم. وضعت المرأة الرأس في علبة صغيرة وتركتها في مكان مشمس على الشرفة. وتوقعت أنه بلا ماء وبلا مزيد من الإفرازات يمكن للرأس أن يصبح أبكم. ولم تفكر بطريقة أخرى، ولم تكلف نفسها ببذل جهود إضافية بهذا الاتجاه. وحذرت زوجها وابنتها من لمس العلبة. ولم يكلف زوجها نفسه للخروج إلى الشرفة، ولكن عذب الفضول الابنة. وغلبتها الرغبة للمس ورؤية وتبادل الكلام معه. وأنبت الأم ابنتها بخشونة وأخفت العلبة والرأس. وحصل الأب على عطلة مؤقتة، وسافروا معا لعدة أيام. ولدى العودة ذهبت المرأة إلى الحمام. وحينما كانت تغسل يديها ظهر شيء وراءها. التفتت إلى الخلف. وأغلقت غطاء كرسي دورة المياه وسكبت تيار الماء. ووبخت الأم ابنتها. قالت:”أنت من فعلت ذلك. صحيح؟. أخبرتك مرارا وتكرارا أن لا تلمسيه”. وانخرطت الطفلة بالبكاء. وجاء الزوج. قال:” ذلك الشيء الموجود في العلبة. طلب مني أن أعيده إلى دورة المياه ففعلت. لماذا. وهل أخطأت بتصرفي؟”.

تنهدت وأخبرته بالقصة. ولم يتأثر زوجها. قال:”إه. هذا شيء سخيف. اتركيه وحده. فهو لا يزحف من الحمام في الليل ويضع بيوضه في أرجاء المنزل”.

وحلمت المرأة أنها في غرفة رخامية لونها أبيض. وفجأة ظهر الرأس من خلفها. والتفتت نحوه بدهشة. ثم بدأ يبرز من كل مكان. وبجانبها كانت ابنتها تشير إليه بسعادة وتقول: “الرأس. الرأس”. وتوسلت المرأة لزوجها أن يقدم المساعدة. فكان يجلس بجانبها ويقرأ في جريدة. وهو يقول:”إه. هذا لا يهم. اتركيه وشأنه فقط”. وقفزت كلماته فوق الرخام وترنمت بها الجدران. دعيه وشأنه. هذا لا يهم. دعيه وشأنه. هذا لا يهم. وكانت عتلة تيار الماء قرب السقف. مدت يدها. وجرتها. وتدفق الماء حول زوجها. وابنتها، والرأس. وامتصت الحفرة السوداء المرأة مع ابنتها المسرورة الهادئة وزوجها غير المهتم وقارئ الصحيفة. أمسكت ابنتها وحاولت بكل استطاعتها أن تهرب من الدوامة. وتكلم صوت معروف في أذنها. قال:”أماه؟”. نظرت إلى ابنتها. كان الرأس يجلس على جسم ابنتها الصغيرة وعلى عنقها الدقيق. وأيقظتها الصدمة. تعثرت في الحمام. جلست أمام دورة المياه وحدقت بالحوض الأبيض الناصع الذي لا تشوبه شائبة. وكانت المياه النظيفة داخله، والحفرة الداكنة مغمورة بها. وتخيلت الشيء في الداخل وتساءلت إلى أين تقود تلك الحفرة. ولكن منذ حاولت كتم الصوت لم يظهر الرأس. ومع مرور الوقت لم تعد الكوابيس تواتيها.

وتابعت المرأة حياتها الهادئة - تطبخ لزوجها وابنتها، وتغسل الأطباق، وتنظف الملابس، وترتب البيت، وتتسوق، وعموما تغمس نفسها في أيام تتراكم بشكل سنوات لا معنى لها وخامدة. ولم يكن زوجها لطيفا ولا دافئا، ولكنه يحمل لبيته الكيكة في يوم عيد ميلادها أو ميلاد الابنة، ويغرس الشموع فيها. أما ابنتها مثل غيرها فقد انتسبت للمدرسة الابتدائية، ثم الإعدادية، وأصبحت لاحقا تلميذة في المدرسة الثانوية. كذلك إن درجات البنت لم تكن جيدة ولا سيئة. وكانت وسيمة، ولكنها ليست ملكة جمال الكون. كانت طالبة مدرسة ثانوية عادية ولديها مشكلة في الاستيقاظ باكرا، مثل كل المشاهير، وتتباهى بغمازتيها في صفحة المرآة.

“تعالي تناولي إفطارك قبل أن يفوت موعدك”.

“ولكن أولا يا أمي هل شاهدت ربطة عنقي؟”.

“علقتها على يد باب غرفة نومك. وتمهلي حتى لا يصيبك توعك المعدة”.

“حسنا. آه. بالمناسبة رأيت رأس شخص أمس في دورة المياه”.

“وماذا حصل؟”.

“غسلته فقط”.

“جيد. هل تريدين المزيد من الحساء؟”.

“هذا يكفي. ولكن ذلك الرأس، أعتقد شاهدته من قبل. هل من طريقة للتخلص منه؟. فهو شرير”.

“انسيه. اغسليه كلما ظهر. هل انتهيت؟”.

“نعم. أراك لاحقا”.

“هل حملت غداءك معك؟”.

“نعم. وداعا يا أمي”.

“أتمنى لك يوما طيبا”.

أغلق الباب. وتناست كل شيء. هذه مشكلة تافهة. وبدأت المرأة بتنظيف الطاولة.

ثم انتسبت ابنتها للجامعة. في هذا الوقت بدأت تلاحظ التجاعيد والبقع على جلدها وبعض المواضع الخشنة التي كانت ناعمة من قبل. قدمت لابنتها بعض طلاء الشفاه وأسعد ذلك البنت، ولكن الطفلة تجاوزت مرحلة البنت الصغيرة وأصبحت سيدة شابة. واستعادت المرأة اكتشاف تضاريس وجهها الفتي في وجه ابنتها المألوف - وغير المتكرر. وانتابها الشعور بالدهشة والاعتزاز والعاطفة والغيرة في وقت واحد.

وحينما سرحت الابنة شعرها وصبغته بلون أحمر،  وقفت المرأة أمام المرآة بمفردها وعبثت بخصل شعرها “الأجعد”، وشاهدت كومة تحتاج لصبغها بلون أسود.

وأنفقت المرأة المزيد من الوقت بمفردها في البيت. كان زوجها قد نال ترقية لدرجة مدير لذلك عاشت تحت جبل من الأضابير في بيتها، أما ابنتها فقد انشغلت بحياتها الخاصة، وأصبح من النادر أن تجتمع العائلة في النهار. وبين حين وآخر، كان زوجها يصل إلى البيت بموعد أبكر من المعتاد بقليل ويجتمع كلاهما في أمسية هادئة. ولكن غاب الحب الملتهب، ولم يتشاركا بذكريات كثيرة تضعهما في أجواء الماضي. فقد أنفقا معظم زواجهما بحالة عاطفية يغلب عليها التباعد. وتأخر الوقت لفتح الباب لمساحة عاطفية. وبالعادة كانا يتناولان الطعام بصمت، ويشاهدان برامج التلفزيون بصمت، وكان زوجها هو من يذهب إلى السرير أولا وبصمت.

ثم انزوت المرأة بمفردها لمشاهدة التلفزيون. في بعض الأيام كان زوجها وابنتها يعودان إلى البيت متأخرين، و بعد أن تنام كل العائلة بفترة طويلة، تتابع برامج التلفزيون حتى يظهر النشيد الوطني. وهذا جزئيا لأنه ليس لديها شيء آخر تقوم به، ولكن بشكل أساسي لأنها تعتقد أنه إذا ركزت بكل جهدها على الشاشة، ستخفف من الشعور الغريب بالمساحة الضيقة التي تحتل قلبها. كانت المساحة أحيانا فارغة، وأحيانا ممتلئة، وفي بقية الأوقات مرة أو حارقة. هذه المساحة الصغيرة الغريبة، قد تتضخم بالحجم إن لم تنتبه لها جيدا، وتقضمها كلها. ولذلك تابعت مشاهدة التلفزيون، بمحاولة لتفريغ قلبها وعقلها وهي تحدق بالمشاهد السخيفة التي تحتل الشاشة. وحفرت قوة التفكير بئرا عميقا، ومهما حاولت اقتلاعها، كانت أفكارها تتابع الفيضان حتى الحافة...

ثم في إحدى الليالي، ذهبت إلى الحمام. وكانت تتابع التلفزيون، كالعادة، وكانت وحيدة في البيت. كالعادة. قامت بواجبها وأغلقت الغطاء، وسكبت تيار الماء. وحينما غسلت يديها، أخذت نظرة من نفسها بالمرآة. جفنان متهدلان، غضون، جلد خشن وجاف. وشعر أبيض يبرز من تحت الجذور المصبوغة. عبثت بشعرها، وهي تفكر أنها تحتاج لموعد عاجل مع مصففة الشعر. وهنا لاحظت بالمرآة حركة طرأت على غطاء مقعد المرحاض. قرقعة. وارتفعت يد مبلولة من داخل دورة المياه وفتحت الغطاء. ثم برزت يد مبلولة ثانية. قبضت اليدان على طرف دورة المياه. ونظرت بذلك الاتجاه بينما رأس شخص، يكلله شعر غزير، ومستسرسل بسبب الرطوبة، يخرج من حوض المرحاض. ومدت اليدان الرقيقتان أصابعهما الرفيعة والطويلة و تجاوزتا طرف الكرسي ليظهر كتفان ضيقان متوازيان لهما عظام هشة وذراعان إسطوانيتان. وكان الشعر الغزير الأسود يغطي الظهر الناعم، وفي نهايته خط رفيع لخصر دقيق وأبيض، ومؤخرة مستديرة وفخذان متينان. ثم خرجت ركبة وبعدها قدم حطت على حافة حوض دورة المياه. كانت الساق بيضاء وطويلة ونحيلة. أما سمانتا الساقين فقد كانتا بالحجم المطلوب، أما العضلات فقد كانت مشدودة قليلا وهي ترفع القدم والكاحل الرشيق. ثم ظهرت القدم، ولمست الأصابع الفاتنة أرض الحمام. أما الجسم المبتل والعاري فقد كان يلمع بنور أصفر كامد مصدره الحمام. تابعت المرأة التحديق بالمرآة. أما الشخص الذي ظهر من دورة المياه ببطء فقد استدار حول نفسه. وشاهدت المرأة وجهها في شبابها وهو ينعكس على المرآة بجانب وجهها المتهدل. كانت هذه هي في أيام شبابها، وهي تبتسم لصورتها المتقدمة بالعمر. واستدارت نفسها العجوز ببطء لتواجه نفسها الشابة. وجمد الرأس الذي لم يعد رأسا. ونظرت ذاتها العجوز نحو الخلف لتقابل وجهها الشاب، وجه لم يكف عن الابتسام لها. قال:”أماه؟”. كانت رنة الصوت عالية النبرة قليلا، ولكن دون الصوت المخنوق، ولا ذلك الصوت الاستفزازي لإنسان يغرق.

“هل تعرفينني؟”.

“حسنا...”.

كان صوتها يطن مثل مفاصل باب صدئة.

“كيف أنت يا أمي؟”.

لم ترد المرأة.

“لقد استكملت جسمي. وكما وعدتك سأغادر وأعيش بطريقتي الخاصة. وأنا هنا لأودعك وأطلب منك طلبي الأخير”.

وجذبت كلمة واحدة انتباهها: “طلب”.

“طبعا”.

ابتسم الرأس ليطمئنها.

“لا يمكنني التجوال في العالم بهذا العري. هل تفهمينني؟. استكمال جسمي كان صعبا بسبب الإمكانيات التي كنت تقدمينها لي، ولم يكن عندي أي طريقة لصناعة ثياب أستر بها نفسي، وهذا أول وآخر طلب لي. هل يمكن أن توفري لي بعض الثياب. وبها أغطي عاري ثم أنصرف”.

فكرت المرأة بالثياب المعلقة في خزانتها واستدارت لتغادر الحمام. ولكن الرأس أمرها بالوقوف قائلا:”لا تخرجي. أريد الثياب التي تلبسينها فهي مناسبة”.

وردت المرأة:”ماذا تقول؟. تريد مني أن أخلع ثيابي من أجلك وحالا؟. على هذه الأرض الباردة؟. عليك أن تقبل بما أقدمه لك فقط - لماذا أنت متطلب جدا؟”.

نظر الوجه نحوها وشاهد القلق يغطي وجهها وقال:”اهدئي يا أماه؟. أنا لم أحصل منك على أي شيء غير ما تقدمينه لي. وهو أول وآخر طلب لي. لو أعطيتيني الثياب التي ترتدينها الآن سأحتفظ بحرارة جسمك وعطرك معي إلى الأبد حتى يوم مماتي وبامتنان”.

نظرت المرأة لنفسها الشابة. لجسمها حينما كانت أصغر بالعمر. لهذه الإنسانة التي لم تتكون في رحم ولا مشيمة ولكن بالاستنساخ والإفراز. وحدقت بما يختبئ في الحفرة المظلمة داخل بورسلان أبيض كل الوقت، كان هذا يعذبها، والآن يعلن الاستقلال عنها. لو أنه حان وقت الوداع حقا، وإن لن يتقابلا مجددا فعلا، ما أهمية ثياب مستعملة بالنسبة لها؟. وحينما كانت نفسها الشابة تتخلص من المنشفة، باشرت نفسها الكبيرة بالتعري. لم تكن ثيابها ثمينة: مجرد عباءة، وثوب بسيط، وحمالة أثداء، وسروال داخلي، وجوارب. هذا كل شيء. وحينما أصبحت عارية راقبت نفسها الشابة تتناول كل قطعة كساء وترتديها. سروال. حمالة أثداء. ثوب. عباءة. وكان يبدو أن نفسها الشابة تستمتع بكل قطعة. وفي خاتمة المطاف ارتدت الجوربين، وزررت أزرار العباءة. وانتابت نفسها العجوز لفحة من البرد بسبب عريها. قالت:”حسنا. والآن. ها قد ارتديت ثيابي، فلتنصرفي. لقد بردت. وأحتاج لشيء أرتديه”. واستدارت لتغادر الحمام. ولكن نفسها الشابة حالت بينها وبين الباب وقالت:”إلى أين أنت ذاهبة؟. مكانك ليس في الخارج”. وأشارت للمرحاض وقالت:”بل هناك”.

صاحت صورتها المسنة تقول:“ماذا تقولين يا ثرثارة؟. ألم أهبك ثيابي بناء على طلبك؟. ألم أنفذ ما اتفقنا عليه. لماذا أنت جاحدة؟. توقفي عن هذه الحماقات وانصرفي. انصرفي”.

بدل امتعاض من سحنة وجهها الشاب وقالت:”هذا صحيح. نفذت كل ما طلبته منك، وكل ما بقي هذه الكتلة من جسمك. لفترة طويلة تحملت البقاء في الأسفل هناك وأنت تستمتعين بحياتك في الخارج، ولفترة طويلة. والآن حان دورك لتهبطي في دورة المياه. وسأحتل مكانك وأستمتع بكل شيء استمتعت به”. وانتاب نفسها القديمة الغضب. فقالت:”أنت جاهلة. ماذا هناك في الخارج من أشياء للمتعة؟. حياتي تكرر حياة كل شخص آخر، وأنت، بتعذيبك لي، أفسدت ما تبقى لي من مباهج قليلة؟. تحملت كل ذلك القرف والكره وصنعت منك ما أنت عليه اليوم. لو لديك أي إحساس بما قدمته لك رغم كل المعاناة التي تسببت بها لي، استعملي جسمك النهائي لتختفي من حياتي. واختفي من أمام نظري”.

خف السخط من وجه الذات الشابة. وبعينين براقتين قالت نفسها الجديدة من بين أسنان مطبقة ولكن بنبرة واضحة وبطيئة ومنضبطة:” الامتنان. أي امتنان يتوجب أن أقدمه لك؟. هل طلبت منك أن تلديني؟ هل اعتنيت بي أو لاطفتيني بكلمة ناعمة واحدة، أنا نسلك الأخير؟. ولدتيني رغما عني، ألم تحاولي دائما تحطيمي بسبب الحقد والقرف؟. ماذا قدمت لي غير إفرازاتك ونفاياتك؟. ويجب أن أحتمل كل ألوان الذل والهوان لأحصل على ما أحتاج له وأستكمل جسمي بهيئة بشرية. لكن الآن، ها قد اكتمل. وهذا هو اليوم الذي طالما كنت بانتظاره في حفرة مظلمة طوال الوقت. وقد أصبحت أنت، وسأحتل مكانك وأعيش حياتي الجديدة”.

واقتربت الشابة من العجوز. وقبضت بيدين فتييتين وقويتين على كتفين متعبين ورقبة مسنة. ودفعت اليدان الشابتان الرأس المسن في المرحاض وبسرعة مثل لمحة البرق رفعتها من كاحليها. وبسهولة ألقت الجسم الكبير في دورة المياه، وأطبقت الذات الشابة غطاء دورة المياه وأطلقت تيار الماء.

 ***

.............................

* ترجمها عن الكورية أنتون هو

 * بورا شانغ Bora Chung كاتبة قصص خيال علمي غير واقعية. تعمل حاليا بتدريس اللغة والأدب الروسي في جامعة يونسي في سيؤول بكوريا الجنوبية. وتترجم الأدب الحديث من اللغتين الروسية والبولونية إلى اللغة الكورية.

* عن كتابها “الأرنب الملعون” المرشح لجائزة البوكر الدولية في لندن. صدر عن هانفورد 2021. ترجمة وإعداد / صالح الرزوق

  

في نصوص اليوم