ترجمات أدبية

ألسادير غراي: وضع خاص

صالح الرزوقبقلم: ألسادير غراي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كان القس الدكتور فيليم  ماكلاود رجلا عازبا له مظهر صبياني ومعافى، وكان له ابن عم بعيد في كندا. ومع أنه يعرف اللاتينية والعبرية والإغريقية كانت قراءاته تركز أساسا منذ تقاعده على القصص البوليسية، وكان قادرا على إلحاق الخسارة بي في لعبة الشطرنج التي نلعبها على الأقل مرة كل أسبوعين. وأنا أروي لكم ذلك لأعطيكم فكرة عن طبيعته المتزنة قبل الحادث الذي وقع له في العام السابق. فقد ارتطمت شاحنة متهورة محملة بالزجاج بسور مجاور لبوابة حديقته وهو يغادر منها، وبتر الزجاج المتناثر قطعة من جمجمته ومن ضمنها أذنه اليمنى. وكنت أنا أقرب صديق له، وأخبروني  في المصحة الملكية  أن زيارته ممنوعة في الوقت الراهن، وسوف يتصلون بي لو تحسن.

بعد أسبوع تلقيت الاتصال. قال لي جراح الدماغ المسؤول عنه:"استعاد الدكتور ماكلاود وعيه. ونحن نوفر له الهدوء، والعزلة، وحمية متوازنة. ويستحيل بسبب وضعه الخاص تقديم ما هو أكثر من ذلك".

سألت:"وهل هو يتماثل للشفاء؟".

رد:”أعتقد ذلك. يمكنك أن تحكم بنفسك. ولكن رجاء لا تكلمه عن مظهره كي لا تزعجه".

في جناح صغير ومنعزل قابلت الدكتور ماكلاود جالسا في سرير ويقرأ إحدى الروايات البوليسية المشوقة. رحب بي بهدوء معتاد وبابتسامة تدل على الثقة بالنفس. فسألته كيف يشعر. قال: “جيد جدا. أرى أنك مهتم بإصابتي. كيف يبدو الجرح؟. لم يكلمني أي من العاملين هنا عنه".

شاهدت في الأفلام الحربية  العديد من الأبنية دون جدران خارجية وكان جانب رأس صديقي يشبه ذلك. من خلال فتحة كبيرة شاهدت غرفا صغيرة ذات أبواب، وفيها مصابيح إنارة ومقابس كهرباء، وكانت كلها تخلو من الأثاث وتدل على إخلاء وهروب سريع. وأيضا كانت هناك سقالات وأكوام من مواد البناء مما يدعو المرء للاعتقاد أنها تحت الصيانة. قلت له بتردد:” يبدو أنك ترمم نفسك بشكل جيد".

ابتسم الدكتور ماكلاود برزانة ونوه أنه سيبلغ السادسة والسبعين في يوم عيد ميلاده القادم. سألته هل يشعر بأي ألم. قال:” لا يوجد ألم وإنما شيء من عدم الراحة. ولا أستطيع تحريك رأسي وأحيانا أستيقظ ليلا بسبب صوت مطارق تضرب في داخله. وأفضل ساعات نومي في النهار".

بعد الدردشة معه حول الطقس وعن صداقتنا عدت أدراجي إلى غرفة الجراح. وأخبرته أن صديقي يبدو بصحة لائقة ومدهشة لو وضعت بعين الاعتبار حالته، وسألته من الذي اعتنى به كي يتحسن.

قال الجراح ببطء:"أولئك الذين يسكنون في النصف المعافى من جسمه، وهم يظهرون فقط لمعونته حينما لا يكون أحد موجودا - أقصد لا أحد على شاكلتنا. وأنا حريص على إبعاد الطلاب والأطباء الشباب عن هذه الحالة. فقد يدفعهم الفضول لقتل صديقك ليجدوا ولو معلومة واحدة عن ما يحصل له".

قلت له:” لا بد من وجود  أشياء في السماء والأرض لا تخطر لك في أحلامك...".

قاطعني الجراح بارتباك ليقول إن كل طبيب معالج يعرف ذلك أكثر من شكسبير، ولا يمر عام دون أن تقابلهم حالة ليس لها تفسير. وقد عالج مستشفى، لم يذكر لي اسمه، امرأة طبيعية كانت تعاني من نوبات رعب تعتقد خلالها أن صدمة مباغتة ستحطمها إلى مليون قطعة. وفشلت كل أنواع العلاج بشفائها غير أن محللا نفسيا توقع أنه لن ينفعها غير إجراء عملي. فتعمد أن يدفعها حتى تتعثر وتسقط على سطح طري لا يمكنه أن يلحق أي جرح ولو بطفل، ولكنها انشطرت إلى مليون قطعة فعلا، وأضاف الجراح:” غير أن لحالة صديقك نهاية سعيدة".

وتأكد لي ذلك. بعد شهر التأم الجرح. وغطاه الجلد. وتشكلت أذن جديدة. وكذلك كلل قبة رأس مكلاود الأصلع البراقة عدة خصل من شعر أشيب. وعاد إلى بيته والتقينا مجددا لنتابع لعبة الشطرنج بانتظام. وكان من الواضح أن شخصيته تبدلت بعد الحادث. وأحيانا كنت أفكر أن أخبره أنه شفي من الداخل على يد أقزام. وكنت دائما أمتنع عن ذلك حتى لا أفسد مهارته باللعب. ولكن قد لا يكون لكلامي أي أثر عليه. فهو يؤمن مثل معظم المسيحيين أن الجسم المعافى، مهما كان، هو منة من الله. وكان يفكر مثل العديد من الناس أنه حالة خاصة. 

***

............................

*من مجموعته "غالبا قصص غير متوقعة"

 ألسادير غراي Alasdair Gray

(1934-2019) فنان وكاتب أسكتلندي. صدرت أولى رواياته عام 1981 بعنوان "لانارك". يتبع في قصصه ورواياته أسلوب الواقعية والفانتازيا والخيال العلمي. وتتضمن أعماله لوحات بريشته. درس الفن في جامعة غلاسجو. تزوج مرتين، وله ابن واحد. من أهم رواياته "مخلوقات مسكينة" 1992، "صانع التاريخ" 1994، "مسنون وعشاق" 2007. من مجموعاته القصصية: "كل قصة قصيرة" 2012، "عشر حكايات طويلة وواقعية" 1993 وغيرها....

 

ترجمة صالح الرزوق

في نصوص اليوم