ترجمات أدبية

فلاديمير فوينوفيتش: الرواية.. مأساة

3771 فلاديمير فوينوفيتش

بقلم: فلاديمير فوينوفيتش

ترجمة: صالح الرزوق

***

كتبت رواية تراجيدية منذ فترة قريبة وكانت عن حياة المهاجرين. سميت الرواية.. في الحقيقة لا يمكنني أن أتذكر ماذا سميتها. سأنظر إلى المخطوط و أنقل العنوان في وقت لاحق. ومع أنني استغرقت عامين ونصف العام في كتابة الرواية، لا يمكن أن أدعي أنني كنت أكد و أشقى خلالها. كان العمل يتدفق ببساطة. كل ما توجب علي أن أفعل هو كتابة سطر واحد، وسوف يكتب فورا سطر آخر نفسه في خيالي، وبعد ذلك سطر ثالث. ولم أمر بمصاعب في وصف الطبيعة أو حال الشخصيات، بينما الحبكة لا تزال غير معروفة وبجوها الخاص. عموما القصة كانت بسيطة جدا. كاتب روسي مهاجر يكتشف أن زوجته تخونه مع فنان هو من أقرب أصدقائه. وكشف الخدعة ولم يبق أمامها إلا أن تتركه و تلتحق بالفنان.

ما أن غادرت، حتى أدرك أنه لا يستطيع ان يعيش دونها ولو لفترة خاطفة. اتصل بها، وعادت فورا، لأنها أيضا لا تستطيع أن تحيا دونه. ولكن حالما عادت، فهمت أنها لن تتمكن من الصمود بلا وجود الفنان. وتعقد الموقف لأن الفنان والكاتب لم يمكنهما تناسي حبهما. وتبادل الثلاثة الشتائم واللعنات، وفي النهاية اعترفوا بغرامهم المشترك. وحاولوا اتباع طرق مختلفة لحل المشكلة. إما ان يطرد الكاتب المرأة من بيته، أو أن يطردها الفنان. وهي بدورها تهجر واحدا منهما لتتفرغ للآخر طواعية. وأحيانا تهجر كليهما. وفي بعض الأوقات كان الكاتب يقرف من كليهما، ويمضي في طريقه بعيدا. ولكنه لم يكن يصبر ويعود. في أوقات غيرها، كان الفنان يهرب ويختبئ. وفي خاتمة المطاف قرروا ان يعيشوا معا. ثلاثتهم - وعاشوا يتألمون من الغيرة و الحقد. ثم قرروا أنه يقتضي عليهم أن ينفصلوا. وانتهى بهم الأمر لإقامة سهرة رسمية في ورشة الفنان. استمعوا الى معزوفة لشوبيرت وشربوا الشمبانيا تحت ضوء الشموع. وطبعا كانت الشمبانيا مسمومة.

هذه هي فكرة الرواية. و قد طبعت آخر حرف منها قبل شهر، ومباشرة حملت المسودة إلى ناشري.

وأمس دعاني الناشر. جلسنا في كنبتين ناعمتين من الجلد في مكتبه، وعلى جدرانه لوحات تمثل أهم كتابه (بينها دون شك لوحتي). وفصلت بيننا طاولة قهوة، وعليها كان كتابي مسجى. وصفحة العنوان على الطاولة من الأسفل.

قبل بدء الكلام، سألني الناشر أن أختار شيئا أشربه: قهوة، كونياك، ويسكي، بيرة..  طلبت القهوة، التفت برأسه إلى الباب وألقى أوامره. أتت سكرتيرته بالقهوة، ثم انصرفت. حركت القهوة، نظر الناشر لي بحرص وقال: "اسمعني يا فلاديمير. أنت كتبت رواية رائعة".

قلت بتواضع:"نعم. أعتقد ذلك".

"بكيت حينما كنت أقرأها".

اعترفت له قائلا:"وأنا مثلك".

"وآخر مشهد، حينما شربوا الشمبانيا المسمومة بضوء الشموع وهم يستمعون لشوبيرت. شيء مثالي. لم أطلع على مثل ذلك في عالمنا الأدبي".

وافقته بقولي:"نعم، تبادر لذهني هذه الفكرة".

" والآن يا فلاديمير. اسمعني جيدا. المشكلة أننا طبعنا هذه الرواية قبل سنتين ونصف السنة".

شعرت بالدهشة. قلت له:"طبعتها حتى قبل أن أكتبها؟".

"كلا، كلا. لم نصل لهذه الدرجة من التطور بعد. أنت كتبت هذه الرواية منذ سنتين ونصف السنة. وحققت نجاحا هاما. وحصدت مراجعات مشجعة. وربحت بها جائزة و ألقيت كلمة ممتازة في حفل استلام الجائزة".

قلت بدهشة:"هذا مستحيل. هل تعتقد أنني لا أتذكر ماذا كتبت ومتى؟".

تنهد قائلا:"أنا عاجز عن الكلام. ولكن هذه هي مخطوطتك، وهذه روايتك المنشورة".

وقلب الكتاب المسجى على الطاولة ومد به يده نحوي.

شعرت بالدوار. رأيت الرواية المنشورة، كانت مثل المخطوطة تماما، كان عنوانها… الآن لا يمكنني تذكر عنوانها. سأختلس نظرة لاحقا وأخبركم. وشعرت بالاضطراب، ألقيت الكتاب والمخطوطة في حقيبتي وعدت إلى البيت، ونسيت أن أودع الناشر. في البيت أخرجت الكتاب والمخطوط وبدأت بمقارنة الواحد بالآخر. وأثناء القراءة بكيت.

ما يثير استغرابي أنني لم أكتب الرواية مثل المخطوطة كلمة كلمة، ولم أضع لها نفس العنوان، ولم أجزئها إلى نفس الفصول والكلمات، ولكن أضفت نفس علامات التنقيط. وأصابني ذلك بدهشة مضاعفة، لأنني بالعادة أستعمل علاقات التنقيط بطريقة عشوائية تصل لدرجة المخاطرة.

بكيت طيلة الليل. وبكيت على الحظ السيء الذي تورطت به. تساءلت كيف يمكن لشيء كهذا ان يحصل؟. لم أكن مسنا جدا ليصيبني مكروه من هذا النوع. لعامين ونصف كنت أكد بكتابة هذه الرواية بعاطفة متوقدة وبنوبة من الإلهام. دخنت ألوف السجائر وجرعت غالونات من القهوة. وانتهيت إلى نتيجة حسنة واغتبطت لقدراتي على الإبداع، وأمطرت نفسي بالدموع، ولطمت قفاي، وأنا أقول بتعجب:"عليك أن تفسح لي الطريق يا بوشكين، يا بن الكلبة". وماذا كانت النتيجة؟.

حينما أوشك أن يحل الصباح تقريبا، قررت أن أزور الطبيب بعد أن أغادر السرير. ولا شك أن المرض كان بمرحلة متطورة، مع ذلك، لا بد من توفر علاج له - دواء مضاد للتصلب أو أي دواء آخر مهما كان اسمه. ولكن مع انبلاج الشمس، غلبني النوم أخيرا.

وحينما استيقظت  قررت تأجيل زيارتي للطبيب. قلت لنفسي: لا بأس. ضيعت عامين ونصف العام هدرا. إلى الجحيم بها. طبعا هذا مخجل، ولكنني لن أهدر وقتي بمراجعة الأطباء. وسأباشر برواية جديدة فورا. ولا سيما أنه عندي فكرة ممتازة كنت أعتني بها لعامين ونصف العام. والحبكة بسيطة جدا. كاتب روسي مهاجر يكتشف ان زوجته تخونه مع فنان هو من أفضل أصدقائه. يكشف الخديعة فتغادره، وتحصل بعد ذلك عدة مصادفات (لم أفكر بأي منها بعد). وتنتهي بلقاء يجمع الثلاثة في ورشة الفنان. و يستمعون إلى معزوفة لشوبيرت ويشربون شمبانيا مسمومة بضوء الشموع،

في الحقيقة رتبت كل شيء، وبغضون عامين ونصف العام ربما أنتهي من هذه الرواية.

***

...................

* ترجمها إلى الإنكليزية بيتر مورلي.

* فلاديمير فوينوفيتش  Vladimir Voinovich

(1934-2014) روائي سوفييتي معارض. من أهم أعماله: حياة ومغامرات العريف إيفان شونكين المدهشة 1971، موسكو 2042 وقد نشرها عام 1987. قبعة الفرو 1988، القضية رقم 34840، النازح 2007 وغيرها. تم طرده وتجريده من الجنسية السوفييتية عام 1980 وعاد إلى موطنه عام 1990 بموافقة غوربتشوف. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي تابع خطه الناقد للسياسة الروسية برعاية من بوتين الذي منحه وسام الدولة عام 2001.

ترجمة وإعداد صالح الرزوق

في نصوص اليوم