ترجمات أدبية

ألاسدير غراي: صورة واحدة للألبوم

صالح الرزوقبقلم: ألاسدير غراي

ترجمة: صالح الرزوق

***

جون إنسانة ذكية وصادقة ووحيدة جدا. وهي أيضا حسنة المظهر على نحو بالغ، وهو ما لم ينفعها، مع أنها كانت تحب المديح ولكن مديح معظم الرجال يتحول إلى نفور حينما ترفض أن تصل معهم إلى النتيحة الجنسية المرجوة. وهي تعتقد أن مهلة المرأة الواضحة في الحياة لا تطول . فقد كانت متزوجة من قبل وانتهى ذلك لأسباب مفهومة ومتوقعة. لم يكن زوجها يسامحها لأنها تجني النقود أكثر منه. وبنفس الوقت لم يكن يريد أن تتوقف عن العمل وتنجب مولودا. وغلبها الأسف من موقفه. والآن هي مرتاحة لقراره. تقول لنفسها: تضع كثير من النساء آمالهن في أطفالهن. وراتب وظيفتها في الوقت الحالي كبير بما يكفي ولن تخاطر بالتخلي عنه، ولكن هذا العمل لا يرضيها ولا تحب أن تتمسك به. وغالبا ما تحلم بالحصول على استراحة طويلة وخلالها ستبحث عن عمل يسعدها، (وتصارح نفسها قائلة) ربما لا وجود لعمل من هذا النوع. والناس الذين يعرفون ماذا يريدون من حياتهم يتحكم بهم الهوس. وهوس جون الوحيد شائع ومشترك - فهي تحب أناقة الملبس. وحينما تشتري ملابس تناسب وسامتها النادرة تشعر أن حياتها، في النهاية، قد تتحول إلى تجربة مثيرة. ولديها خزانة كبيرة مزدحمة بالثياب تذكرها بذلك الشعور الرائع وقصير الأجل. ولكنها بالعادة لا تعفيها من الإحساس أنها مثل سيارة مرسيدس بينز مضطرة لتعمل بصفة سيارة أجرة.

ولعملها ميزة إضافية إلى جانب الأجر المجزي. وهي الدوام الإضافي والاستمتاع بيوم الجمعة دون قيود وإمكانية التجوال للاطلاع على الأزياء في نوافذ المتاجر ومراقبة أجسام المارة. وكانت تفضل تفصيلة الثلاثينات والأربعينات والتي تزيد من أناقة وراحة شكل الجسم البشري. وفي مساء هذا اليوم الصيفي المشرق كان كل شيء تراه يسبب لها القلق على نحو ما، وكانت الأزياء السائدة في تلك الأوقات من النوع الخشن. وكان الشباب يرتدون ثيابا فضفاضة ويتركون لحية خفيفة على ذقونهم. مع طبقات عجيبة من السترات والمعاطف القصيرة والصوف والقمصان كما لو أنهم ارتدوها بتعجل تلبية لأمر طارئ. والنوع الأكثر انتشارا كان القطن، أما التفصيلة فقد كانت سترات دون شكل معين وذات جيوب واسعة كما لو أنهم يعيشون في مخيم أشغال شاقة. وكان هذا النوع معروفا لعدة سنوات ومنحه الصناعيون عمرا إضافيا بعد صباغته ليبدو مثل ملابس شقية مرت بظروف عمل مهلكة. حتى أن الجينز والتنورات كانت تصنع من هذا القطن. وبعض الشباب (وجون لم تعد شابة) يرتدون الجينز الممزق عمدا. لماذا؟. كانت التفصيلة الأنيقة الوحيدة التي لمحتها مصنوعة من أخشن أنواع الأقمشة. مر بجانبها شخص نحيل وأنيق يرتدي بذة براقة من جلد أسود يتخللها سحابات فضية. ولكن جون لم تتأنق بالجلد مطلقا. وبعض المتاجر لا تبيع غير الجلود. وانتابتها لهفة خفيفة ومألوفة: لا بد أن تصطاد شيئا جديدا وملفتا للنظر لترتديه. رحب بها متجر الجلود وفاح منه عبير ارتاحت له رغم أنه غريب على ذوقها - كانت قد نسيت كيف تكون رائحة الجلود الطبيعية. ومع ذلك لم يعجبها أي جاكيت أو تنورة حتى أنها تخطت السراويل ولم تبذل عليها أي نظرة - لم تكن هذه السراويل تخدم ذوقها.

اقتربت منها عاملة في صالة المعروضات وسألتها عما تبحث.

قالت جون وهي تنظر بلا اهتمام إلى أحد الرفوف:" لا شيء تحديدا. أريد شيئا أكثر .. شيئا أقل...".

وأوشكت أن تقول "منضبطا" لكن احمر وجهها. لم تكن تعلم بالضبط ماذا تريد.

قالت العاملة بصوت جاف:"ربما تفضلين تفصيل ثيابك حسب الرغبة".

"أين؟".

"متجر هايد آوت قريب جدا من هنا - في رقم 3798".

تجولت جون بهدوء في ضوء الشمس ولكن كان هدوءا سطحيا. وأضاف لجولتها البحث عن الهايد آوت، وهو مكان ليس له صورة سابقة في الذهن، بعض التوابل التي تميز حياة الغرب الصعبة.

كان المكان أبعد مما أنبأتها به العاملة. وراء تقاطع طرق انتبهت جون أنها غادرت المنطقة المخملية. وظهرت جماعة من الفقراء كانت تسير على طول رصيف متشقق ولكن كان مظهرهم يدل على السعادة والمرح وهم يستمتعون بأشعة الشمس. لم تكن جون متكبرة، ولكن كل ما أقلقها غياب أي مكان يحمل اسم هايد آوت أو له رقم 3798. وبين رقم 2988 (مكتب قروض) ورقم 4040 (متجر رهانات) صف طويل من واجهات مشغولة. ذرعت بخطواتها المكان ذهابا وإيابا، وشعرت بالقلق البارد الذي يميز خيبات الأمل حتى لاحظت سيارة عند الرصيف: ستروين رخيصة وصغيرة بخطين زرقاوين متموجين على الجانب. وعلى السقف القماشي وبأناقة واضحة برزت إشارة بشكل سهم. وكان حزام جلدي مشبوكا بإشارة السهم ويلتف حول كلمة تعلن عن هايد آوت للملبوسات الجلدية. وكان السهم يشير إلى الجهة المقابلة من الرصيف ويقود إلى مدخل ضيق مظلم تفوح منه رائحة بول القطط و هو بدوره يفضي إلى سلالم بالية لدرجة شعرت معها جون أنها غير آمنة هنا. وتبعت السلالم لتصل إلى أرض مستوية وثلاثة أبواب منخفضة، اثنان مقفلان وبوجه معدني صدئ. أحدهما ملون بلون برتقالي فاقع، مع كتابة باليد تقول: اضغط بقوة، وكانت العبارة فوق زر جرس. ضغطت جون بقوة.

كانت قد دخلت من الدهليز المعتم وصعدت سلالم كانت أمامها بروح صياد يلعب لعبة ورطته بأدغال كثيفة، ولكن ما أن فتح الباب حتى تلاشى شعورها الغامر بالضنى. وقد فتحته امرأة صغيرة ومشرقة وعادية ترتدي ثوبا يحمل رسومات مطبوعة وقالت:"آسفة. تفضلي. لا يسعني الاهتمام بك فورا لأنني أبحث عن شيء لشخص ما. يمكنك أن تنتظريني دقيقة لأتفرغ لك. ما هو الطراز الذي تبحثين عنه؟".

وسارت أمام جون في دهليز قصير يفضي إلى غرفة عارية منخفضة السقف وطويلة مزودة بست نوافذ مغبرة تغطي واجهة المخزن وترى منها الشارع. وكل أثاثها ماكينة خياطة، وصف من الخطاطيف الفارغة لتعليق الملابس، وطاولة عليها أدوات وعينات. وفي زاوية الأرض الخشبية العارية إبريق كهربائي متصل بقابس في الجدار، وكوبان، وعلبة من مسحوق القهوة، وكيس سكر، ومذياع يعزف موسيقا شعبية. وبجوار ماكينة الخياطة جلست امرأة تحدق بجون كأنها متطفلة، وكانت تشبه المرأة التي فتحت الباب. ولكنها ممتلئة ولها شعر أسود غزير مقصوص قصة مستوية فوق جبينها وكتفيها كأنه غطاء رأس أبي الهول. قالت جون بتردد:"أعتقد أنني ... أبحث عن تنورة".

قالت المرأة وهي تشير الى البوم ضخم على الطاولة:"اجلسي وفتشي بين التفصيلات. سأكون معك بعد خمس دقائق".

وجلست وراء الماكينة وتابعت العمل بشيء  بينما كانت المرأة الأخرى تكلمها بصوت ثاقب منخفض يشبه حوارا يتخلله الشكايات.

كان في الالبوم قصاصات من مجلات أزياء والقصاصات محملة على صفحات كبيرة يغطيها ورق شفاف. قلبت جون الصفحات بإنهاك وضجر متزايد. كانت أمامها كل أنواع الملابس الجلدية، بعضها محافظة، وبعضها فاضحة،  ولكن ليس بينها ما تقبل جون أن ترتديه في الشارع. وهي كبيرة بالعمر ولا تستمتع بالنظر لنفسها في المرآة. لماذا جاءت؟. ووجدت أنها تجهد نفسها لتختلس السمع من عبارات تنفذ من خلال هدير ماكينة الخياطة، وضجيج الموسيقا الشعبية.

مثل: "وضعت عينها علي ولكن كانت عيني عليها..".

و"...قلت لا تشتري ما لا تحبين...".

و"السراويل المغرية ليس اسم كنيتها بالولادة فقط ولكنه أول وآخر اسم لها".

هزت جون رأسها بنفاد صبر، وقلبت الصفحات بتعجل حتى وصلت إلى صفحات فارغة في النهاية. وأوشكت أن تترك الألبوم وتغادر حينما شاهدت طرف صورة غير مثبتة تظهر من بين هذه الصفحات. جرتها ولاحظت أنها تحمل صورتين بالأبيض والأسود. واستأثرت الأولى بكل انتباهها لفترة من الوقت. وهي لتنورة من الجلد الأسود، تصل لسمانة ساقها مع أزرار خلفية فضية من الخصر للأسفل. وترتديها امرأة التقطوا صورتها من الخلف. وكانت ضيقة جدا لأن معظم الأزرار غير مزررة باستثناء القليل منها من الأعلى لإخفاء المؤخرة التي تبدو جميلة ولا سيما أن الحذاء بكعب عال.  وكانت التنورة والحذاء هو كل ما ترتديه وهي تستند على قضبان جدار في صالة رياضية، مع رفع أحد ذراعيها إلى الأعلى لتقبض على قضيب فوق أطراف أناملها. ثم لاحظت جون أن معصمها مربوط بالقضيب. وكانت يدها الحرة تقبض على قضيب بارتفاع كتفها. أما ساقاها كانتا متباعدتين بقدر الإمكان لتتحمل ما يمكنها من أوزان معدنية ملفوفة حول معصمها. وكانت تميل برأسها إلى الخلف. وكل ما ظهر منها خط أبيض من جبينها والكثير من الشعر الأسود الغزير المسترسل المقصوص قصة مستقيمة حتى كتفيها وبأسلوب ذكر جون بمن كانت قربها، ولكنهت لم تكن قادرة على إنهاء اعجابها وافتتانها بالصورة. ولو أن المرأة الثرثارة الجالسة عند ماكينة الخياطة التي تدمدم (.."وقلت لها، وقلت، وقلت...") هي المرأة الموجودة بالصورة فهي بالصورة أجمل وأكثر جاذبية. ثم لاحظت جون أنها وحدها في تلك الغرفة. وكانت الأصوات تزمجر قرب الباب الأمامي وهو ينغلق. ثم سمعت صوت أقدام تقترب وصوتا يسأل بمرح:"حسنا؟. هل عثرت على طلبك؟".

قالت جون بعد تمهل:"ليس بالضبط". ولم تتمكن من صرف عينيها عن الصورة، أو أن تفلتها من يدها، وبدأت تتكلم كأن التنورة، التنورة وحدها وليس سواها هو ما تتأمله، وهي كل ما يهمها.

قالت:"أزرار أمامية ، أعتقد، و...".

سألتها المرأة:"وجيوب؟".

"حسنا، نعم".

"كبيرة؟".

"ربما".

"مثلها؟".

تناولت المرأة الصورة وكشفت الصورة الثانية التي كانت تحتها. وكانت تصور امرأة طويلة ورقيقة في بواكير الثلاثينات، ورأسها حليق وصلعتها ظاهرة، وتقف باستعراض ملفت للنظر. وكانت ترتدي أفرولا فضفاضا من الشاموا ولكن الركبتين مكشوفتان. وجيوب واسعة على الفخذين، ومنفوخة مثل سروال ضيق ولكن ابتسامتها ملحوظة وتدل على سعادة جشعة، وبين أصابعها عصا رقيقة.

قالت المرأة بلهجة تشجيع:"تلك الآنسة كاين معلمة المدرسة. اسمها الحقيقي هاري - وهي فنانة. وتحمل أشياء كثيرة في جيوبها".

تأملتها جون، ثم هزت رأسها، واحمر وجهها.

صاحت المرأة بحماس:"أعلم بالضبط ما هو طلبك".

ألقت الصورتين على الطاولة، وسحبت ورقة ورسمت عليها وهي تقول:" مثل هذا؟... وعروة للحزام هنا... و لماذا لا نضيف أزرارا أمامية وخلفية؟".

وجدت جون نفسها توافق على تنورة ليس لديها أية نية بارتدائها.

ثم أعادت المرأة الصورتين إلى الألبوم وقالت بصوت خافت:"تقريبا فهمتك حينما رأيتك تمسكين الصورتين".

"لماذا؟".

"يجب أن لا تكونا في الألبوم، هما من ألبوم تستعمله الشريرات".

قالت جون كأنها لا تفهم:"شريرات؟".

"ليس الشر المطلق. لكنهن يستمتعن بألعاب لا تسر الجميع،  لذلك يجب التحلي بالحذر. أنا لا ألومهن. أنا شريرة قليلا بنفسي. ولذلك هن تثقن بي. و الآن حان وقت تحديد مقاسك".

وركعت المرأة وحالما وضعت أناملها الخفيفة الشريط المتدرج حول خصر جون ووركيها وحوضها... إلخ، نظرت جون بذهن غائب حولها في أرجاء الغرفة. ولم تشاهد أثرا لألبوم آخر.

قالت المرأة:"إنه في أمان نسبي تحت الطاولة". وسجلت ملاحظات في ورقتها. أضافت:"أنت تعلمين أن هذه الصور لا تعرض فقط التفصيلات المتوفرة، ولكنها تعرض .. الأشخاص، ولذلك هي مغرية جدا. هل تودين إلقاء نظرة؟".

وابتسمت لجون التي كانت مضطرة جدا وأجهدت ذهنها لتقول كلمة، ثم هزت رأسها لأن المرأة أغلقت المفكرة بعزم وقالت:"قد أسمح لك بنظرة حينما تعودين لقياس البروفة. ما هو الوقت الذي يناسبك؟".

"الجمعة؟".

"بالتأكيد، أي يوم جمعة قادم اقتراح معقول. ما هو رقم هاتفك لأبلغك بأي طارئ أو إن اضطررت للتأخير قليلا. مع أنه لا يجب أن يواحهني أي تأخير".

قدمت لها رقم هاتفها فقط، وسألت عن تكلفة التنورة (كان معقولا)، وأبدت الجاهزية لدفع سلفة مقدما.

قالت المرأة مبتسمة:" لا ضرورة. أعلم انك ستعودين إلينا".

قالت مديرة جون في المكتب في الثلاثاء التالي:"يبدو أنك بعيدة عنا، وهذه ليست عادتك".

اعترفت جون بقولها:"أشعر بالغربة قليلا".

"أنت مرتبكة و يصبغك لون أحمر. تحتاجين ليوم إجازة".

قالت جون:"ربما". ولكنها كانت تعرف مرضها. كانت مهووسة بأحلام اليقظة، وترى فيها كتابا مصورا يعرض بطريقة مغرية ضحايا وطغاة كثيرين. كان قلبها يسرع بدقاته كلما تذكرت ذلك. وكانت تشعر - مع أن هذا غير منطقي- أنها أقرب إلى السعادة والحرية بطريقة لم تألفها منذ بلغت عامها الحادي عشر. حينما أصبح الجنس سرا مشوقا تتشاركه مع عدد محدود من الصديقات. و ليس بشكل حوارات صاخبة مع بالغين خشنين. ولكن مر على ذلك وقت طويل. وأن تتهرب من عملها  وتزور هايد آوت قبل يوم الجمعة لتسأل عن الألبوم الشرير سيكون استجابة لنداء الغريزة الجنسية. ولم تكن جون تلبي نداء الغريزة بحضور البالغين. ولذلك قررت الانتظار حتى يوم الجمعة لتعود الى الهايد أوت. وأجبرت نفسها أن تنتظر حتى منتصف اليوم كي لا تصل في لحظة فتح المخزن مثل بنت صغيرة متهورة.

وقفت على الرصيف المتشقق بين مكتب القروض وحانوت الرهانات وحدقت بمنطقة من فتات القرميد الأحمر  وخلفه جسر سكة قطار. لبعض الوقت لم تقتنع أن كل المبنى اختفى. كافحت اليأس الغامر الذي شعرت به وهي تتفحص صفوف الأبنية المنتصبة على كل طرف من أطراف المكان، وتوجهت إلى حانة على الرصيف المواجه، مع أنها من النوع الذي يلجأ له النساء الوحيدات. طلبت كأس جن مع التونك وسألت الساقي:"ماذا جرى لمشغل الخياطة الذي كان على الرصيف الآخر؟".

قال:"تلك المتاجر هدمت منذ أسابيع".

"آه، لا، كانت موجودة في يوم الجمعة الماضي".

"بعضها ربما، لكنها مهجورة منذ سنوات".

"ولكن كان هناك ... مشغل خياطة ملابس جلدية في الطابق العلوي من إحداها. اسمه هايد آوت. وتديره امرأة صغيرة. واللافتة كانت فوق سيارة واقفة".

"غير ممكن، السيارات ممنوعة من الوقوف هناك".

انتهت جون من مشروبها ثم توجهت إلى متجر الأزياء الجلدية الذي حصلت منه على العنوان. وكل المعلومات التي توفرت عند العاملة هي بطاقة عمل تركتها غريبة وعليها اسم هايد آوت مع العنوان.

قالت:"هذه الشركات الصغيرة تظهر وتختفي بسرعة فائقة. هل تريدين عنوانا آخر؟".

عادت جون إلى شقتها المكونة من غرفة ومطبخ، واشترت بطريقها زجاجة شيري. حصلت على حمام حار، وغسلت شعرها، ثم جلست بالمئزر المنزلي على سجادة الموقد، ترشف الشيري وتستمع لمعزوفة مسجلة. ولكنها لم تبتهج. وشعرت أنها فارغة وعجوز، ولا تنتظر شيئا من حياتها. وتناولت كأسا إضافية عتمت على بصيرتها وزادت من ارتباكها. ثم رن الهاتف. تناولت السماعة.

قال صوت ناعم غير معروف  ومضطرب:"أنا دونالدا إنجليز. تنورتك جاهزة".

"من أنت؟".

"دونالدا. التقينا في هايد آوت في الأسبوع الماضي. وتنورتك جاهزة".

"كنت هناك اليوم و...".

"نعم. وقد رأيت ما فعلوا بنا. اسمعي. هل تريدين أن أحضرها إليك؟".

"إلى هنا؟".

"نعم. أنت غير مشغولة. أليس كذلك؟. أعني أنك غير مرتبطة؟".

"لا.. لكن...".

"اذكري لي عنوانك وسآتي حالا. وأنا متأكدة أنها ستعجبك".

تسلل من السماعة نبرة توسل غريبة رافقت الصوت الناعم. بعد صمت وجيز ذكرت جون عنوانها، فقال الصوت:"سأكون معك بغضون عشرين دقيقة".

توجهت جون وهي تفكر إلى خزانتها. كانت موشكة أن تختار ثوبا ولكنها بدلت رأيها وارتدت سروالا، وحمالة أثداء وبلوزة من القطن الأبيض. بالإضافة إلى رداء خارجي. وكانت عازمة على ارتداء التنورة لإرضاء الخياطة، وليس لغرض آخر. وشعرت بفورة الشباب والصبا بعد هذا القرار. رن الانترفون، وضغطت جون على زر القبول وتحركت إلى الباب، صعدت السلالم امرأة ترتدي معطفا طويلا ضد المطر وتحمل معها حقيبة يد. وبلغت عتبة باب جون ووقفت أمامها وقالت:"مرحبا، هل تتذكرينني؟".

كانت المرأة الصغيرة الممتلئة ذات الشعر الأسود الشبيه بغطاء رأس أبي الهول.

ردت:"نعم. لكن لم أكن أتوقعك. تنبأت أن...".

"آه، لم تحضر سينغا، فهي مشغولة جدا بسبب تبديل المكان كما ترين، واعتقدت أن الأفضل لك أن تتفاهمي معي".

قالت جون:"لماذا؟". وسمحت للمرأة بالدخول وإغلاق الباب.

قالت:"لسينغا ذهن يشرد. وأنا لا أجادلها. هذه غرفة ممتازة، هل تمانعين لو تخلصت من معطفي؟". سألت كأنها تتوقع الرفض. في هايد آوت كانت تبدو متماسكة ومباشرة. ولكنها الآن مزيج غريب من الجرأة  والخجل، كأنها جاءت رغما عن إرادتها، وحينما قالت جون "طبعا لك هذا" ترددت قبل فك الأزرار بسرعة وإلقائه على الكنبة قرب الحقيبة. ثم وقفت تحدق بجون بطريقة يائسة ومتوسلة. كانت ترتدي البلوزة الحريرية البيضاء وحذاء الكعب العالي والتنورة الجلدية التي رأتها في الصورة بالضبط، ولم تترك مجالا للشك حين رفعت يديها لمستوى كتفيها واستدارت حتى واجهت جون مجددا، بعد أن عرضت الأزرار الخلفية ونصفها غير مزرر، وكانت جون تعلم أنها وقعت فريسة الإغراء وأنها جزئيا ترغب بها. ودق قلبها بقوة وسرعة ولكنها تمكنت من أن تبتسم بثقة عالية للمرأة الناعمة والممتلئة والعصبية وذات المظهر الجذاب. ومع أن جون لم تقع فريسة إغراء امرأة من قبل، كان هذا الموقف مفهوما.

سألت:"ماذا عن تنورتي؟".

هزت دونالدا رأسها، فتحت الحقيبة، وأخرجت التنورة. تخلت جون عن ردائها الخارجي ووقفت بيدين معقودتين أمام مرآة الخزانة. ركعت دونالدا ولفت التنورة حولها. وعقدت الحزام، ومهدت وربتت على الجلد عند الخصر، والبطن، والمؤخرة وأعلى الفخذين، وهي تدمدم قائلة:"انظري أليست رائعة. ألست جميلة بها؟".

نظرت جون للأسفل، مع إحساس بالوحدة، والتعالي المهين وهو شعور ينتابها دائما أمام الناس الذين يرغبون بها، ونظرت للمرآة ولاحظت بقلق أن تنورتها تترك الايحاء بمزيد من العهر الاستفزازي لو قارنتها بتنورة دونالدا.

كانت تشاهد، وتشعر أيضا، بذراعي دونالدا وهما تحيطان بخصرها، وكذلك وجه دونالدا وهو يضغط على زاوية لقاء رقبتها بكتفها، وبشفتي دونالدا تلمس أذنها وتهمس:"هناك هدية لك في الجيب الأيمن".

وضعت جون يدها في الجيب وسحبت الصورتين اللتين فتنتاها في هايد آوت. وحدقت بهما بينما كانت دونالدا تقودها إلى السجادة الناعمة أمام الموقد، وتابعت التحديق وهي تستمع للدمدمات واللمسات  التي تصدر عن دونالدا كي تستلقي وتستسلم لها. وكذلك واصلت التحديق بذهن غائب، ويدها الحرة والطليقة تشاطر دونالدا العناق. وبدأت دونالدا تنوح قائلة:"يا لك من عفريتة. عفريتة جميلة. أنت لا تهتمين بي مطلقا، أليس كذلك؟. أنت تريدين سينغا".

دمدمت جون قائلة:"غير متأكدة". ونقلت عينيها من صورة الضحية المغوية إلى الطاغية المتجبرة. من كانت تفضل؟. أيهما تفضل أن تحل محلها؟ لم تكن تعلم الجواب حقا.

بعد فترة طويلة استلقت جون بعينين مغمضتين، نصف مكتفية ونصف مضطربة كحالها دائما بعد ممارسة الحب. كانت تشعر بجسم دونالدا الملتصق بظهرها، ويد دونالدا مستقرة على فخذها، وصوت دونالدا الناعم يشرح لها أو يشتكي من شيء ما. وتقول: "لم تسألي نفسك من أكون، أو كيف أشعر، أو ماذا أتمنى من حياتي - أعتقد أنك لا تهتمين بأحد سوى نفسك، ولكن يجب أن أخبرك ولو القليل عني. أنا من عائلة كبيرة، ولي ثلاثة أخوة أكبر مني، وثلاث أخوات أصغر، وتوجب علي أن أعين والدتي لرعاية الجميع. كنت أعشق أمي، وهي أم حنون وليست أنانية، وكبرت بالعمر بسرعة وقبل الأوان لأنها تكدح منذ الفجر وحتى هبوط الظلام من أجل كل أولئك الشباب والأوانس مع أنهم لم يبادلوها نفس العطف والرعاية. وعندما بلغت الخامسة عشرة لم أتمكن من تحمل المزيد - كنت مرهقة من التضحية بنفسي ولذلك هربت من البيت، وأعتقد أنني تصرفت بطريقة شريرة. كلنا لدينا أحلام أنانية، أليس كذلك؟. وإن لم نحقق ولو القليل من أحد أحلامنا الشريرة سنعيش مثل زومبي - الميت الحي - ونكدح كالعبيد بطريقة أمي، هل هذا صحيح؟. صحيح؟. أجيبيني من فضلك؟".

قالت جون"صحيح". وانتابها الإحساس بالخوف من عدم الموافقة، أو من التفكير بأي شيء آخر، وبدأت ترى أن دونالدا انجليز امرأة مضجرة.

تابعت تقول:"أريد أن أسألك سؤالا آخر. هل لديك أي برنامج لعطلة هذا الأسبوع؟. هل لديك خطة للقاء أحد أو هل تتوقعين زيارة من أحدهم؟".

قالت جون:"ليس لدي ترتيبات". ولتمنع دونالدا من التقدم بأي اقتراح أضافت:"أحب أن أكون وحدي في عطلة الأسبوع".

قالت دونالدا بعد قليل من التفكير:"على كل حال. حينما هربت من الوالدة تورطت بمشكلة كبيرة. دون تفاصيل حتى لا أضجرك - أنجبت طفلا وأشياء من هذا القبيل. وسينغا من أنجدتني. هي ليست اكبر مني كثيرا بالسن، كنا زميلتين في المدرسة. ولكنها حازمة بتصرفاتها كما كانت الوالدة. ولكن الوالدة من طبقة العبيد بينما سينغا بكل تأكيد من طبقة القادة. وحينما أخدم سينغا أكون مثل من يخدم نفسه. لا تسخري مني... سينغا إلهة خيالية يمكن أن تحقق لك أحلامك. وهي قادرة على كل شيء  وتكسب قوتها من ذلك. وأخبرتني أن أخدمك. اسمحي لي بذلك من فضلك".

وأضافت:"استديري من فضلك".

استدارت جون دون اعتراض. ولم تكن تسمع الآن غير صوت فك الأزرار وحزام التنورة. وسمحت جون لدونالدا أن تسحب يديها إلى خلف ظهرها. وتعقدها بالحزام وتربطهما بحبل. وأصبح ضغط الرباط فجأة مؤلما ووجدت جون معصميها مقيدين.

سألت بهدوء:"والآن؟". نهضت دونالدا، وذهبت إلى المطبخ، وعادت ومعها ثلاثة أكواب. وضعتها على الطاولة، وسكبت فيها من زجاجة الشيري.

سألت جون بدهشة:"ماذا تفعلين؟".

انشغلت دونالدا بالحقيبة وأخرجت منها هاتفا لاسلكيا وضمادة طويلة لاصقة. وقالت:"اثنتان تنتظران في الشارع داخل سيارة وترغبان برؤيتك. وسأدعوهما الآن. إن باشرت بالصراخ سأسد فمك بهذا الشريط اللاصق".

كانت جون بغاية الدهشة ولم يمكنها الصراخ. وحاولت أن تقف ولكنها واجهت مصاعب بذلك، بسبب ربط يديها. ثم أصبح النهوض مستحيلا بعد أن جلست دونالدا على ساقيها ولفت ذراعها حول عنقها.

قالت دونالدا بصوت غير جاف ولا فظ:"اسمعي. من فضلك صدقيني، أنا وسينغا نحقق أحلام الآخرين ولكن لم نبدأ بتقديم خدمتنا لك - أنت منغلقة جدا على نفسك ولا تعلمين ما هي أحلامك. أنت تحت تأثير لعنة ولن نسمح لك بالهرب لأنك أجمل إنسانة قابلناها. ولكن أولا، قبل أن تأتي سينغا والمعلمة.."

وضعت فمها على فم جون بقبلة كانت مثل عضة تقريبا، ولبعض الوقت استمتعت جون بالضعف اللذيذ والمجهد الذي لم تعرف شيئا مثله من قبل.

وسنعود للبقية لاحقا.

***

..................

* من مجموعته: أهل غلاسكو. لندن، 1990

* ألاسدير غراي  Alasdair Gray: روائي وفنان اسكوتلاندي. من جماعة حلقة غلاسكو. وهذه الترجمة بمناسبة انعقاد مؤتمر ألاسدير غراي الدولي الثاني في جامعة ستراثكلايد البريطانية. منسق المؤتمر الروائي والناقد روج غلاس مؤلف كتاب "ألاسدير غراي: سيرة مدير أعماله".

، 

 

في نصوص اليوم