ترجمات أدبية

بورا شونغ: الأرنب الملعون

3971 بوا شانغبقلم: بورا شونغ

ترجمة: صالح الرزوق

***

اعتاد جدي أن يقول: "حينما نصنع فيتيشاتنا الملعونة علينا أن نحرص أن يكون مرآها جميلا".

والمصباح،الذي له هيئة أرنوب والذي تراه معلقا تحت شجرة، كان عذب المرأى فعلا. كانت الشجرة تبدو مزيفة، ولكن من المؤكد أن الأرنب مصنوع بمحبة وشغف. وكان طرف أذني الأرنب و نهاية ذيله مصبوغة بلون أسود، مثل عينيه، أما جسمه فهو أبيض بياض الثلج. وكان قوامه صلبا، مع ذلك تترك شفتاه الورديتان وبقية جسمه الانطباع بليونة الملمس. وكلما أشعلنا المصباح وانعكست أشعة الضوء، يظهر الأرنب كأنه على وشك تحريك أذنيه أو تجعيد أنفه. كل شيء له  حكاية. وهذا الشيء ليس استثناء. ولا سيما أنه فيتيش مسحور. كان جدي يجلس في كرسي مجاور لمصباح الأرنب، ويروي لي نفس الحكاية التي كررها على مسامعي عدة مرات. ومفادها: أن المصباح صنع لأجل صديق من أصدقائه. وصناعة فيتيش ملعون لاستعمال شخصي يعد من المحرمات. وتبعا لتقاليد العائلة، من غير المقبول أن تلعن أي شيء مصنوع باليد. وتوارثنا في العائلة هذه القوانين غير المكتوبة على امتداد أجيال، والتزمنا بها مهنيا: ولم نصنع فيتيشات ملعونة. غير أن هذا الأرنوب هو الاستثناء الوحيد.

قال جدي:"كانت عائلة صديقي من فناني المشاريب الروحية". وكان يضيف دائما:"هل تعرف معنى فناني المشاريب الروحية؟".

كنت أعلم بالطبع. فقد استمعت لهذه القصة عشرات المرات، ولم يكن جدي يسمح لي بالاعتراض وإخباره بذلك. فيتابع قائلا:"يمكن أن تقول عن عمل هذه العائلة بلغة اليوم إنه تقطير الكحول. حينذاك كانت ورشتهم أكبر ورشة تقطير في المنطقة. ولا يمكن ان تجد عائلة تنتج مثل هذه المادة في تلك الأيام، وما أن امتلكت عائلة صديقي مصنعا كبيرا جدا وظفت معظم سكان المنطقة. في تلك الأرجاء، كان كل أفراد محلتنا يتطلعون لإقامة علاقة مع عائلة منتجي الكحول".

ولا يتذكر جدي كيف تطورت صداقة بين ابن عائلة محترمة وشخص يضم بيته فيتيشات ملعونة. وسبق له أن قال لي عدة مرات:"فعليا لا أذكر".

كانت عائلة جدي، عائلتي بتعبير آخر، "تعمل بالحدادة" رسميا. وكنا في الحقيقة نعتني بأدوات الزراعة و كل أنواع و أشكال الحديد، والجميع في محلتنا، حتى أصغر طفل بينهم، يعلمون تفوقنا في صناعتنا. كل مهنة كانت يومذاك تحمل اسم "ساحر" - مشعوذ، قارئ حظ، ومكلم أرواح -  تصنف بين الترهات. و مثل هذا التمييز ليس عادلا، ولكنه الجو السائد في تلك الفترة. وكانت عائلة جدي، أو ربما يجب أن أقول عائلتي، تحظى بالقليل من علامات التكريم، ولكن لم يكن لدى الناس فكرة نهائية عنا. لم نكن سحرة، ولم نعمل بطرد الأرواح الشريرة مقابل عائد نقدي، ولم نقرأ حظ الآخرين، وكنا غير مهتمين بتجارة تحضير الأموات للدفن. ولكن كانت لنا علاقة بالطقوس، ومع ذلك لم يجرؤ أحد على الإعلان عن ذلك عيانا جهارا، وكانت تجارتنا في صناعة الحديد تزدهر وتطفو على السطح.  وعلاوة على كل شيء انتشرت إشاعة مفادها أننا نطارد كل من يمر بنا بلعنة تصاحبه طيلة حياته. ولكن لا يمكن لعائلتي أن تلعن أحدا تعرفه. ولم يكن لدى جيراننا علم بطبائعنا. ولو كان لديهم أي فكرة عنا لما أزعجونا.  في كل الأحوال كانت تدور حولنا تكهنات كثيرة.

قال جدي بإلحاح مرارا وتكرارا:"لكن صديقي لم يهتم بكل ذلك". لم يحفل هذا الصديق بالإشاعات التي غمرت البلدة، ولا بهمسات الآخرين، ولا بنظرات جيراننا الفضوليين المرعوبين. بالنسبة لابن تاجر الكحول، كان كل أبناء المحلة أصدقاءه حكما، ولم يجد سببا يمنعه من اللهو مع أحد. فمهنة الآخرين لم تقلقه. ولأنه ابن أغنياء، ولأن عائلة منتجي الكحول اعتبرت الجد صديقا، فقد تقبل أبناء الآخرين جدي أيضا.

وأكد لي جدي:"كان أبواه طيبين وحكيمين. ولم يستعملا أموالهما أو سلطتهما لمعاملة الاخرين بغطرسة - وكانا ينحنيان مثل الجميع أثناء إلقاء تحية على جيرانهما، وكانا أول من يساعد في حفلات الزفاف أو الجنازات وما شابه ذلك".

وتصادف أن هذه العائلة، بمفاهيم الوقت الحالي، من التجار النشيطين. بدأوا بداية متواضعة، بتقطير المشروبات الروحية من أجل الجيران، ثم تحولوا الى تحديث وتوسيع إنتاجهم، وزادوا من مبيعاتهم لتغطي كل البلاد. ثم انفجرت الحرب الكورية. فهربوا إلى الجنوب مثل الآخرين و عادوا بعد الحرب ليجدوا المعمل والمحلة في حالة خراب. ولم يفطر ذلك قلب العائلة. و صمموا أكثر من أي وقت مضى، لاستغلال هذه الفرصة، والبداية من جديد بمصنع أفضل و أحدث.

وأدرك صديق والدي طموحات أبويه ومنحهم كل وقته.

قال: "اعتقدنا أنه سيدرس التجارة في الجامعة لأنه سيرث المصنع، ولكنه تخصص بالهندسة. قال إنه اكتشف إنتاج نكهة النبيذ المقطر باليد من الأرز الصلب المبخر. وصرح هذا الصبي البالغ من العمر تسعة عشر عاما والمتخرج حديثا من المدرسة، أنه سيستعمر العالم بمشاريبه الروحية التي ستقدمها عائلته. ثم باشر العمل". ولكن عانت خطته من السياسة الوطنية الجديدة في إنتاج الغذاء. كانت الحكومة تصر أن كوريا ستتحكم بمنتوجها من الأرز، واستعمال الأرز في تخمير الكحول سيكون محرما. وتبدلت الطريقة القديمة - صب الماء على مزبج من الأرز المبخر والمخمر حتى يتحول لخمرة - لاستعمال الإيثانول، وهو كحول صناعي غمر السوق. وليكون هذا المحلول الناتج مقبولا، مزجت شركات المشروبات غير الكحولية الإيثانول مع الماء والنكهات الصناعية. وتمزق قلب صديق جدي. لكنه لم ييأس. كان هو الأخير في سلسلة من المقطرين الناجحين، مسلحا بمعرفة متخصصة بهذا الموضوع. وتقبل تعليمات الحكومة ورأيها أن الأرز محصول ثمين، وأكله أهم من شربه. وبحث عن طريقة إنتاج يمكنها استعادة الطعم القديم باتباع الطرق اليدوية القديمة - نسبة المكونات، مستوى الكحول، درجة حرارة التخمير، وأساليب التقطير - وبذل جهده للالتزام بالسياسة الوطنية.

كان جدي يصمت دائما بشكل دراماتيكي حينما يصل لهذه النقطة من قصته. ويقول:"وماذا تعتقد أنه جرى بعد ذلك؟. هل يمكن أن تخمن إن كان قد نجح أم فشل؟".

مجددا، سمعت القصة مرارا. وكنت أعرف الإجابة. ولكن كعهدي دائما، ابتسمت ونفضت رأسي.

ابتسم جدي بحزن وقال:"لقد حالفه الحظ. كان ولدا نبيها وسريع البديهة. لكنه في النهاية فقد كل شيء". كان صديق جدي يهتم بتقطير المشروبات الروحية الصحية واللذيذة فقط. ولم تكن لديه فكرة أن العلاقات الشخصية، في حقبة ما بعد الحرب الجديدة،  مع الجهات العليا في الحكومة وشبكاتها وحياة لهوها، والرشاوي أحيانا والطرق السرية، أكثر أهمية من جودة العمل والتكنولوجيا.

وكانت هناك شركة عملاقة تهتم بسوق المشروبات الجديد، شركة لديها علاقات سياسية قوية وتتقن التجارة المذكورة - وما يترتب عليها من أعمال تسلية وإمتاع. كان لهذه الشركة القدرة على الإعلان عن مزيج كحولي مع نكهة صناعية واختارت له أسماء جذابة "مشروب الشعب" و"مذاق الماضي". وتكفلوا بإعلانات مسموح بها في الصحف والتلفزيون ونظموا حملة واسعة موازية، نشروا بها أكذوبة مفادها أن شركة صديق جدي تمزج "الكحول الصناعي" مع العصائر. وزعموا أن كل من يشربه سيصيبه العمى، أو العرج، أو التسمم وسيموت. وانخفضت مبيعات شركة صديق جدي. وتوقف معمله عن الإنتاج. ومهما نفت شركته أكاذيب منافسهم الأقوى، كان المستهلكون يرفضون تصديقهم. ورغب صديق جدي أن يشرب من منتوجات شركته أمام الكاميرات ليثبت أنها مأمونة، ولكن لم تقبل أي إذاعة استقباله. ولم تكن خدمة الإنترنت متوفرة في تلك الفترة، ولم يجد مكانا يلجأ إليه بعد أن امتنعت عنه الصحف ومحطات التلفزيون. ولم يكن لديه مجال آخر لأنه لا يجوز تسجيل المكالمات الهاتفية أو اللقطات المرئية في تلك الأيام - وكان من المستحيل أن يحدد كيف انتشرت الإشاعات. وقضت المحكمة أنه لا يوجد تحامل أو اتهام كاذب، ووجد صديق جدي في النهاية نفسه مدفونا بديونه المستحقة على عمله ولشركة المحاماة. وكتب رسالة اعتذر فيها من عائلته، ثم شنق نفسه، وهو لا يزال في الثلاثينات من عمره. أما زوجته، التي وجدت الجثة، فقد أغمي عليها عدة مرات خلال الجنازة وسريعا ما انضمت لزوجها في ذلك المكان الذي لا عودة منه. أما أيتامهما فقد رعاهم الأقارب مشكورين، وكانوا في الخارج. ولذلك لم يسمع منهم أحد لاحقا أي نبأ.

اشترت نفس الشركة التي نشرت الكذبة عن "الكحول الصناعي" منافسها المنهار بسعر يقل عن قيمة السوق. وأصبح الإنتاج، الذي وهب صديق جدي حياته له لتطويره، بين يدي منافسه، مدفونا في قاع غرفة معتمة.

سألت بسذاجة حينما سمعت القصة أول مرة:"لماذا دفنوه في غرفة مغلقة؟".

رد جدي:"كانت غاية تلك الشركة الشيطانية بيع الكثير من المشروبات الروحية الرخيصة وجني أكوام من النقود دون إنتاج ما هو أفضل. وإن كانوا غير مؤهلين لتحسين الإنتاج كان عليهم منع الآخرين من ذلك ليستمروا في المنافسة".

ولهذا السبب صنع جدي الأرنب المسحور.

قال:"ليست خطيئة أن تصنع و تبيع المشروبات الجيدة، ولكن عدم الارتباط بصداقات قوية، أصبحت جريمة، وكذلك عدم امتلاك المبلغ الكافي لشراء تلك الصداقات، وكل ذلك أودى بعائلة كاملة للدمار وأصبحت مشرذمة وتجرفها الرياح".

هز جدي رأسه وقال:"كان صديقي طيبا للغاية، دمثا جدا، ومخلصا لشركته، ووفيا لزوجته..، كان صديقا نادرا..". ومع أنه أخبرني بالقصة عشرات المرات ارتعش صوته في هذا السياق كعهده دائما، واحمرت عيناه وتابع:"مات الجميع، تحطمت كل العائلة.. كيف يمكن أن نسمح بحدوث أشياء من هذا النوع.؟". ولكن لم يعترض أحد على مثل هذه النهايات، ومن يسمح بذلك موجودون في كل مكان. ولهذا السبب أمكن جدي وأبي وأنا أن نقتات من صناعة الفيتيشات الملعونة. لم أعلق على كلام جدي. وكالعادة كنت أصغي ببساطة لقصته، وأنا أعرف تفاصيلها بسبب التكرار والإعادة. وكانت اللعنة تقتضي أن تلمس الشيء الملعون باليد. وهذا هو الجانب الهام في أي فيتيش مسحور. وهي اللحظة الحاسمة التي لا يمكن أن تعمل اللعنة دونها.

دعا جدي كل معارفه، علية القوم وأسافلهم، ليتصلوا بشخص ما يعرف شخصا غيره وهو بدوره يعرف آخر سواه كان يعمل مع وسيط يخدم الشركة التي قتلت صديقه. وطلب من الأول أن يسلم باليد مصباح الأرنب لمدير الشركة المنافسة. وكان هناك زر في قفا الأرنب وهو الذي يشعل النور بعد أن تلمسه كأنك تداعب أرنبا أليفا حقيقيا. وهذا الشخص الذي يعرف آخر مرر المصباح و الثاني مرره لغيره على التسلسل حسب التعليمات. وزار مدير الشركة المنافسة وأخبره أن المصباح هدية من شركة وساطة تعهدات، وشرح له كيف يعمل زر التشغيل والإيقاف. وكان يرتدي قفازات. هز المدير رأسه، وهو مشغول بأوراق يوقعها، واستلم مكالمة من مساعدته، ثم غادر المكتب فجأة وهو يقول إنه مرتبط باجتماع مع عضو من المجلس الوطني. وهذا الشخص الثالث الذي يعرف آخر، وهو على صلة بشخص سواه، لم يجد أي خيار سوى أن يترك مصباح الأرنب وراءه في مكتب المدير. وفي طريق المغادرة، أبلغ مساعدة المدير، الجالسة في غرفة منفصلة، أن لا تسمح لأحد بلمس المصباح إلا المدير شخصيا، ولكن باعتبار أنه مجهول ويعمل في شركة تعهدات، هزت المعاونة رأسها دون اهتمام مثلما فعل رئيسها، وتابعت القراءة في مجلتها. بعد أن سمع جدي ما حصل تنهد و فطن أن أثر اللعنة سيتبدل قليلا. ولكنه كان مقتنعا أنه لن يفشل تماما باعتبار أن الأرنب الملعون موجود في مكان ما في بيت أو مكتب المدير.

استمر مصباح الأرنب على طاولة مكتب المدير ليوم كامل ثم تم نقله إلى مستودع الشركة حينما جهز الموظفون أنفسهم للانصراف.

في تلك الليلة قضم الأرنب كل ورقة طالها في المستودع - علب الكرتون، أوراق صحف مطوية تستعمل لحشو الحزم، أكوام من وثائق قديمة، دفاتر حسابات السنوات المنصرمة، وما شابه. ولم يقترب أحد من المستودع في الليل، ولذلك قضم الأرنب ما شاء دون مقاطعة. في اليوم التالي فتح حارس المستودع الأبواب،  وشاهد أرضه مغطاة بمزق الورق و براز الأرنب.  دمدم الحارس شيئا عن الجرذان وضرورة شراء سموم للقضاء عليها وهو ينظف هذه الفوضى. وبقي الأرنب مختفيا في زاوية من المستودع، وتابع قضم ورق الأرشيف طيلة الليلة التالية. كان الحارس يمر من الخارج أحيانا بينما الأرنب يمضغ في المستودع، ومر المراقب الليلي أيضا كالعادة وبيده مصباح مضيء، ولكن لم يتفحص الرجلان المستودع إلا من كوة موجودة في بابه. ولم يتخيل أحد ماذا يجري في الداخل. وما أن انتهى الأرنب من قضم كل الورق في المستودع، حتى باشر بالخشب. ولاحظ الحارس شيئا أبيض في المستودع. وكان يشبه القطن المندوف. ولكنه اختفى بمجرد اقترابه منه. و اعتقد أن تيار الهواء جرفه. في اليوم التالي أصبح الشيء الصغير الأبيض ثلاثة، ثم ستة في اليوم الذي بعده. وفطن الحارس أن الأشكال البيضاء تقفز مثل الأرانب، ولكن الأرانب البرية لا تعيش في هذا القطاع من المدينة. ولم يجهد ذهنه كثيرا - كانت لديه مهمة تحميل شاحنات تنتظر للانطلاق إلى المكاتب الفرعية. ولم ينتبه لا الحارس ولا موظف الفرع ولا سائق الشاحنة أن الأرانب البيض ذات الآذان والذيول السود قفزت إلى الشاحنة برفقة زجاجات الكحول.

وبعد وقت قصير أبلغت مستودعات المقر الرئيسي والفروع وكذلك مخازن التجزئة، عن نوع من الوباء الذي تمخض عنه مضغ الورق والخشب وظهور براز بحجم البازلاء في كل الأرجاء. ولم تتفع مصائد الفئران أو سم الجرذان، وكذلك القطط. ثم أخذت امرأة ما نظرة من النفايات وأكدت أنها كبيرة بالنسبة للجرذان وتبدو أقرب لنفايات الأرنب. و كانت المرأة التي توصلت إلى هذا الرأي الصائب تعمل موظفة ولها ابنة أخ في المدرسة الإبتدائية، وهي مغرمة بتربية الأرانب لأغراض التدريس، وقد زارتها  وقدمت لها الأعشاب الجافة. غير أن أحدا من العاملين في الفروع والمخازن لم يشاهد  أرنبا في المستودعات والموظفة لم تكن خبيرة أرانب، وهي مجرد امرأة أنفقت أيامها في اللهو وشرب القهوة حتى وصلت سن العنوسة ويئست من الزواج. ولذلك تجاهلها الجميع.

وشن المركز وكل الفروع حملة لمطاردة الجرذان في المستودعات. وتم القبض فعلا على العديد منها، وبعد أن أجهدت الحملة الموظفين، أصبحت المستودعات أنظف. ولكن لم يكونوا بحاجة إلا لليلة إضافية ليروا على أرض المستودع أوراقا ممزقة وبراز مخلوقات ذات حجم أكبر من نفايات الجرذ.

وتواصل إلحاق الضرر بالورق، وقررت الشركة نقل أهم وثائقها، مثل دفاتر الحسابات القديمة، ومطبوعات المصنع الرسمية، إلى المكتب. وبعد أن نفذوا تلك الخطوة، لم يلاحظ أحد أن الأرانب البيض ذات الآذان والذيول السود، والتي لا يفضح ضوء الشمس وجودها، قد انتقلت إلى المكتب. وانتشرت إشاعة أن معمل التقطير قد احتلته الفئران. ومهما بذل العمال في الشركة من جهود - في المكتب الرئيسي والفروع والمستودعات والمعمل - لم يكن من الممكن منع انتشار الخبر في المنطقة.

طرد أحد الفروع عاملا على سبيل التحذير وكم الأفواه، وجمع قسم آخر  عماله في غرفة واحدة وتوسل إليهم كي يحذروا من نشر الشائعات. وتصادف أن العامل المطرود كان يعتني بأم عجوز طريحة الفراش، وثلاثة أطفال وخمس أخوة أصغر منه، ولاحقا ألقى القبض عليه الحارس الليلي حينما اقتحم المستودع حاملا علبة بنزين ليحرق بها المكان.

في نفس الوقت وفي منطقة تجميع العمال للتنبيه من نشر الإشاعات، احتلت صفحة الرأي في الصحيفة المحلية مقالة عن مخاطر الجرذان على صحة الأطعمة. وانتشرت أخبار مشكلة "القوارض" مثل النار الهائجة في كل المنطقة، وقررت الشركة إقامة حفلة مسائية بعد أن تأكدت أن تهديد العمال لم يعد ينفع. وكان السيل قد بلغ الزبى. وخططوا لاستضافة العمال وعائلاتهم، والسكان المجاورين للمقرات، والأهم أعمدة المجتمع المحلي وبعض الشخصيات الاعتبارية. وقدموا لهم المشروبات الروحية من المستودعات وأثبتوا لهم أنهم لا يواجهون في منتجاتهم مشكلة صحية ولا مشكلة جودة. وأبدوا كرما منقطع النظير في دعم الشركة للمجتمع المحلي. وانعقدت الحفلة في حدائق المقر الرئيسي، وحضرها المدير شخصيا، وكذلك ابنه وهو نائبه، وكان لديه طفل في المدرسة الابتدائية. هرب حفيد المدير، الذي ضجر من الخطابات الطويلة، والموسيقا العالية، والمشاريب التي يتناولها  البالغون. وتجول في أرجاء الشركة. ووجدته زوجة ابن المدير يجلس القرفصاء على الأرض أمام باب المستودع. قال لها:"كنت ألعب مع الأرنب". سألته وأين هي. جرها الصبي من يدها إلى المستودع. وأشار إلى مصباح الأرنب المنتصب على خزانة ملفات حديدية يعلوها الغبار. وتوسل إليها أن تسمح له بحمله إلى البيت.

أخبرته أمه أنه عليهم الاستئذان من الجد، لأن الشيء ملك الشركة، ونسيت الموضوع فورا، وجرت ابنها عائدة به إلى الاحتفال.  ولكن الصبي لم ينس. وعندما سمع جده المخمور أقوال الصبي عن رغبته بالشيء العجيب الموجود في المستودع، سمح له، ثم استدار ليتابع الشرب مع الكبار المهمين. كانت الحفلة ناجحة. تأخر الجميع بالسهر، وهم يشربون الكحول المجاني، حتى أوقات متأخرة من الليل. أما زوجة ابن المدير فقد تحملت بقدر ما تستطيع، ثم غادرت مع الصبي الذي بدأ يبكي من الضجر. وكان يتشبث في السيارة التي حملته إلى البيت بالمصباح الأرنب بقوة .

وبدا أن إشاعة الجرذان قد وصلت إلى نهايتها وطممرها النسيان، لكن السبب الأساسي للإشاعات - مصباح الأرنب - كان قد انتقل من المستودع إلى بيت ابن المدير. غير أن الأرانب التي انتشرت في فروع الشركة ومستودعات المخازن لم تكتب لها نهاية حاسمة لأنها رافقت الوثائق إلى المكاتب. وواصلت التكاثر وقضم كل شيء يقع نظرها عليه. وكانت كل ليلة وداخل خزانات وأدراج الحديد، تمزق وتقضم كل أنواع الوثائق - استمارات الطلبات، والعقود، ومراجعة أداء السوق، ودفاتر الحسابات، والإشعارات المالية. وحتى أن أهم الوثائق، التي انتقلت إلى الغرفة الحصينة مع النقود السائلة والشيكات ومن ضمنها الإيصالات، تعرضت للقضم كذلك. وبدأت الشركة بتنظيف كل المبنى، وألقت في النفايات كل شيء ومن بينها محتويات الغرفة الحصينة. وخلال هذه العملية كان حفيد المدير يكتب واجباته المنزلية مستفيدا من ضوء المصباح الأرنب وينام في سريره والأرنوب بجانبه. وأحب الصبي المصباح الظريف الذي له شكل أرنوب يجلس تحت شجرة وزعم أمام أصدقائه أن جده اشتراه له هدية من خارج البلاد. كان الحفيد يلمس المصباح عدة مرات يوميا، ويضغط على ظهر الأرنب ليشعل الضوء ويطفئه. ولكن الأرنوب لم يقضم الورق الموجود في بيت ابن المدير. لكنه عوضا عن ذلك التهم شيئا آخر.

كان حفيد المدير في آخر عام من مدرسته الابتدائية. ومع أنه أصغر من معدل العمر، كان صبيا فارع البنية، ولا يعاني من أمراض أو أوبئة. وعلى ذمة والدته كان طفلا مهذبا يستمتع بالددراسة ويحصد نتائج عالية. ومع أنه متحمس قليلا بلعب الكرة كان يفعل ذلك على حساب الواجبات المنزلية أو الاستعداد للامتحانات. ولم يهتم أحد أول الأمر عندما شرع ينسى واجباته وفروضه. فقد كان حفيد مالك معمل التخمير وكان دائما طالبا مجدا، ولهذا السبب لم يؤنبه المعلم واكتفى بلفت نظره.  إنما سرعان ما تناسى الصبي، بالإضافة للواجبات، برنامجه، وبدرت عنه ردود فعل غير مناسبة عنف بها أستاذه، فاضطر لمكالمة المنزل. قال المعلم لأمه:"ضعي من فضلك في ذهنك أن الأطفال يدخلون باكرا في مرحلة البلوغ في هذه الأيام ويميلون للمزاجية". ووافقته الأم.

وقرابة نهاية عطلة الشتاء، أبدى الصبي هوسا بالطعام. وكان يصر أنه لم يأكل حتى إذا تناول طعامه، وكان يسرق من الثلاجة، ويخفي الشطائر في أرجاء المنزل، و يمر بنوبات صراخ إن حاولت أمه أن تستعيد منه تلك الأطعمة وتبعدها عنه. وافترضت العائلة أن الصبي في طور النمو. واعتقدوا أنه ينضج، واشتروا له المزيد من الأطعمة المتنوعة، ولكن ساء نهم الصبي وتولعه ومزاجه.

فيما بعد في أول يوم من أيام الدوام في فصل الربيع، ضاع الصبي في طريق عودته إلى البيت. كان يسير في نفس الطريق المعتاد خلال سنواته الستة المنصرمة، وهي مسافة تحتاج منه لعشر دقائق فقط، وعلى الأكثر خمس عشرة. ووجدته إحدى الجارات جالسا في قارعة الطريق، مغشيا عليه بسبب التجوال حول المدرسة لفترة طويلة. وكانت رائحة الولد مشينة. وأعادته الجارة إلى أمه، وارتبكت وهي تذكر لها أن الصبي لوث سرواله، والتفتت وانصرفت بسرعة قبل أن تستيقظ الأم من الصدمة وتشكرها.

رافق والدا الصبي ابنهما إلى الطبيب، ونصحهما طبيب الأطفال المحلي بعرضه على مستشفى أكبر، ولكن لم يجد مستشفى جامعة المدينة أي علة به، وكان هذا قبل اكتشاف الرنين المغناطيسي. ولاحظ طبيب الأطفال في مستشفى الجامعة، أن عين الطفل لم تكن مركزة وهو يتأرجح للخلف و الأمام ويدمدم بلا وعي، وكان يتبول في أي مكان. ونصحهما الطبيب باستشارة محلل نفسي. وحينها مالت كرسي الأب على جانبها وهو يقفز  واقفا ويصيح ويزبد:"هل تعتقد أن ابني مجنون؟". واستحال وجه الأب قرمزيا، وهو يلقي شتائم بذيئة وجهها للطبيب، ودفع زوجته المتوسلة جانبا وجر ابنه بين ذراعيه وغادر المستشفى. أما الزوجة البريئة والباكية فقد اعتذرت للطبيب وطلبت منه المغفرة وهي تنحني عدة مرات قبل أن تتبع زوجها وتنصرف. وزاد سوء حال الولد بعد زيارة مستشفى الجامعة. ولم يتمكن الطفل من التعرف على وجهي أبويه، ولوث سرواله مرارا، وفقد القدرة على المشي المتوازن، وتابع الهمهمة لنفسه دون أن ينطق عبارة مفهومة. وأنفق معظم أيامه مستلقيا في السرير يتأمل السقف بعينين مشتتين. وهو يغرغر بين حين وآخر بكلام غامض، ولكنه ثابر على الاهتمام بالمصباح الأرنب. ونقل مصباح الأرنب من طاولته إلى طاولة بجانب سريره، وبينما كان يدمدم للسقف كان يلتفت للمصباح أحيانا، ويبدو أنه كان يشجعه، وبعد ذلك ثارت أعصابه وبدأ يصيح كلما حاول أحد أن يتحسسه.

وحينما ينام الطفل، كان أحيانا يجعد انفه، ويلدغ، أو ينصب أذنيه مثل أرنب، ولم يلاحظ الكبار ذلك. وفي أحلامه كان الطفل يجلس تحت شجرة مع أرنب أبيض له أذنان سوداوان وذيل فاحم، ويأكل دماغه بسرور. وكلما نقر دماغه كان عالمه يضيق حتى أنه لم يعد بوسعه مغادرة ما تبقى من أرض صغيرة يتقاسمها مع الأرنب تحت الشجرة. وبعد ذلك لم يعد بوسعه فهم أي شيء باستثناء متعة الحياة مع صديقه الجديد. كان حفيد المدير يحتضر ببطء وهو مسجى على سريره قرب المصباح الأرنب، وتبدلت الفصول، وكذلك الحكومة، والعالم أيضا. وفقد الناس الذين سمحوا للمدير التحكم بسوق المشروبات، بكحوله الرخيصة وقليلة الطعم، مواقعهم في الدولة. ولأول مرة واجهت الشركة منذ تأسيسها تفتيشا على الضرائب. وحينها كانت الأرانب غير المرئية قد مزقت أوراق سجلات الشركة، وبياناتها المالية، ومذكراتها اليومية. وكل سجل عن الأرباح وكل إيصال ضرائب مدفوعة لمديرية الضرائب الوطنية، كل شيء، تحول إلى مزق وأصبح غير مقبول.

وباشرت الأرانب بورق الجدران في مبنى المكتب، وتركت آثار أسنانها على الجدران والألواب. ولم يبق شيء من وثائق الشركة وتحولت إلى كومة بلا قوام، وأصبحت هيئة المبنى نفسه مزرية. وبات من الواضح للعمال أن الشركة، من الداخل والخارج، تتداعى. ولكن رفض المدير أن يقر بذلك وغض البصر عما آل إليه الحال. ولفترة طويلة، استلقى حفيد المدير في فراشه يحدق بالسقف بعيون زائغة، وهو يتتفس لكنه بلا حول ولا طول. ثم في أحد الأيام، توقف الصبي عن التنفس.

وعقدوا جنازة مهيبة للصبي و عاد أبوه إلى البيت وأغلق على نفسه في غرفة ابنه الميت، وبكى بكاء عميقا. ووضع في أحضانه مصباح الأرنب الذي أغرم به ابنه وأعول باسم ابنه العديد من المرات وهو يتلمسه ويربت عليه.

وقررت إدارة الضرائب الوطنية أنه على الشركة أن تدفع كل الضرائب التي تهربت منها في الماضي باستعمال المكر، بالإضافة إلى الضرائب التي دفعتها، مع الغرامات. وحاولت الشركة أن تثبت أنها دفعت كل شيء، ولكن لم يكن لديها وثيفة واحدة يمكن التقدم بها كدليل مقبول. وانتشرت الهمسات التي تزعم أن وضع الشركة وسجلاتها المالية قد اختفت، وأصر المدينون أنهم لا يتوجب عليهم تقديم أي شيء للشركة ورفضوا الدفع. وفي نفس الوقت ألح الدائنون على الدفع الفوري. كان المدير حريصا. ولجأ إلى خزانة سرية يحتفظ فيها بسجل لا يعلم به أحد غيره، وكان قد دون فيه كل أملاك الشركة واتفاقياتها وصكوك الدين. وحينما فتح الخزانة، لاحظ أن سجله الثمين قد تمزق وتحول إلى ذرات - أصبح كومة من الورق العاجز والصامت.

وفي هذه اللحظة كان على  المدير أن يصاب بجلطة لا يفيق منها. لكن الأرنب الملعون لم يكن كريما معه. ولم تنزل الجلطة بالمدير بل بابنه. وكان الرجل قد أقسم أن ينام على سرير ابنه المتوفى، وحين استيقظ في اليوم التالي، ووضع قدمه على الأرض... كسر فورا كاحله الأيمن. ولما سقط على الأرض، قذف ذراعه الأيسر ليحمي به رأسه، فانكسر ذراعه بثلاث مواضع كسرا شعريا طويلا. كان ابن المدير بحوالي الأربعين، رجلا معافى وقويا. ولم يسبق له أن أصيب بجرح بليغ في كل حياته، ولم يكسر عظامه من قبل.

استلقى ابن المدير على السرير وساقه اليمنى بجبيرة ضخمة، وصفائح معدنية مثبتة بالعظام، وسرعان ما تدهورت شركته. وتوجب على المدير متابعة الدائنين، بعد المدينين، ولم يكن لديه وقت لزيارة ابنه الوحيد في المستشفى.

واستجوب الابن زوجته ليعلم منها أحوال الشركة - وقرر أنه لا يستطيع النوم والشركة تذوب وتختفي، وحاول أن يغادر الفراش. ولحظة أن وضع قدمه اليسرى السليمة على الأرض، انكسرت. وتعثر فكسر أسفل عظام مؤخرته. واحتاج لعمل جراحي استغرق تسع ساعات. وبعد ذلك أعيد إلى غرفته في المستشفى، ورقد دون حراك لفترة طويلة، ولم يكن قادرا إلا على تجعيد أنفه وقضم شفته. وهكذا تابع الأرنب عمله.

وفي خاتمة المطاف جاء المدير ليرى ابنه في المستشفى يوم أن أعلنت الشركة إفلاسها. كان ابنه كمومياء ملفوفا كله تقريبا بالضمادات ومستغرقا بالنوم بفضل المهدئات. وعندما أفاق من المخدر، دمدم شيئا عن أرنب يجلس على سريره. في البداية لم يهتم أحد بكلامه جديا. وأصر ابن المدير على وجود أرنب يحلس في سريره، ويقضم الغطاء. كذلك لم يستمع له أحد. وفي النهاية صرخ ابن المدير مدعيا أن الأرنب يأكل الآن قدمه. وحاول أن يهرب من السرير. طلبت زوجته المحتارة المعونة، وجاءت ممرضات بسرعة البرق وحاولن كبح جماحه. قاومهن الأرنب، وهو يصيح بكلام غير مفهوم عن الأرانب. قبضت ممرضتان على ذراعيه، واحتضنت زوجته جذعه. وهكذا انكسرت يمينه واثنان من أضلاعه.

في وقت لاحق كلما فتح ابن المدير عينيه كان يثرثر عن الأرانب بصوت مرتفع، وكانت عظامه تتكسر كلما شدوا وثاقه. كانت تتكسر كلما ثبتوه على سريره، وكانت تنكسر كلما خبط بيده على دعامة السرير إو اذا تعارك مع الجبيرة. وكانت الوسيلة الوحيدة ليشفى أن يبقى مخدرا باستمرار. نظر المدير إلى وجه ابنه الجامد الملفوف بالجبيرة، والذي كان بحالة إغماء يائس.  كان حفيده الغالي قد توفي، ووريثه الوحيد، وهو الحلقة الثالثة في جيل من أسرة لا تنجب غير ابن واحد، قد انتهى إلى هذه الحال غير النافعة، مجرد كتلة لحم وعظم مكسور. ثم إن الشركة تدهورت، وكل ما تبقى له الديون - الضرائب والغرامات المستحقة، والفروض، وتكاليف علاج ابنه في المستشفى. ولم يتمكن من إخراج ابنه من المستشفى لأن عظامه كانت تنكسر لدى أقل لمسة. وبقي أن يودع السجن بسبب التخلف في دفع الضرائب لتنتهي الحكاية كلها.

توقف الجد عن سرد قصته ونظر إلى المصباح. كان الأرنب تحت الشجرة، بدينا بفرو أبيض ما عدا ذروة أذنيه وذيله فهي بلون أسود. وكان من مادة صلبة، ولكن كان الأرنب البراق المجاور لجدي مغلفا بفرو ناعم، وأذناه على وشك الانثناء وفمه على وشك أن يقضم.

سألته:"وماذا جرى بعد ذلك؟". وكنت بالطبع أعلم النتيجة. كنت أسأل كلما توقفت الحكاية في نقطة متوقعة وهي ليست أسئلة بريئة، ولكنها لتحرضه على الاسترسال، باتجاه اتفقنا عليه شفويا حتى لو بفروق صغيرة.

قال الجد وهو يربت على أذني ورأس الأرنب  بلا قصد:"ماتوا جميعا. ابن المدير مات في المستشفى، وانعقدت جنازة له، في اليوم التالي سقط المدير نفسه من سطح مبنى شركته".

حرك الأرب طرف أذنيه.

لا تصنع فيتيشا مسحورا لأي سبب شخصي. لا تلمس الصناعات اليدوية المسحورة والملعونة. وهناك أسباب لهذه القواعد المتفق عليها.

يوجد مثال ياباني يقول:"شتم ولعن الآخرين يقود إلى ضريحين". وكل من يلعن شخصا آخر سينتهي بالتأكيد إلى القبر.  ولكن بحالة جدي، كان هناك أكثر من قبرين: المدير الملعون، وابن المدير، وحفيد المدير. فالجميع أموات. وحتى يومنا هذا لا أحد يعلم موضع قبر جدي. فقد غادر البيت في أحد الأيام ولم يعد.

حسنا. كلا. أعتقد أنه رجع.

في الأمسيات التي تغطي القمر  سحب داكنة، أو حينما تمطر بغزارة ويبدو أن الأمطار تحجب أضواء مصابيح الشارع، أو في الليالي المعتمة والحزينة حينما لا يوجد أي ضوء طببعي أو صناعي، كان الجد يظهر في مفعد مجاور للنافذة، ويلتفت إلى مصباح الأرنب، ويباشر بسرد القصة نفسها التي رواها مرات كثيرة من قبل.

ربما تلك هي لعنة جدي.

أو أنها بركته.

كان يقول:"لقد تأخر الوقت. عليك أن تنام لتذهب إلى مدرستك غدا".

كنت قد تجاوزت عمر الدوام في المدرسة. ولا يوجد أحد في هذا البيت يداوم في المدرسة حينها. ولكن دائما أرد بنفس الطريقة.

"نعم يا جدي. طابت ليلتك".

ثم أنقر وجنته المتغضنة برشاقة. أحيانا كنت أتساءل هل يجب أن أفكر كيف مات، وماذا جرى لجثته، أو أين مكان قبره. فكرت بذلك عدة مرات. ولكن الآن أكبت السؤال كلما شعرت أنني تحت إلحاحه.

لو أن جدي يتذكر كيف مات، ربما لتوقف عن المجيء. الأسوأ ربما هو لا يتذكر، وسيترك أسئلتي دون رد، ودهشته من استفساري قد تجبره على الاختفاء. ولم أكن مستعدا لذلك.

لذلك لم أنبس ببنت شفة. كنت أستدير بهدوء، وأعود إلى غرفتي، وأغلق الباب. ليس تماما. بل أتركه مفتوحا لأشاهد جدي الجالس في الكنبة و مصباح الأرنب الجميل يبرق بجانبه. هذا المشهد كان يذكرني بالتالي:" إذا صنعنا فيتيشات ملعونة، من المهم أن تكون جميلة". وهذه إحدى أقوال جدي. كان العمل أفضل من أي وقت مضى في هذه الفترة. ولو واظبت على أعمالي، ستكون نهايتي مثل جدي. ميت وغير ميت. أجلس في الظلام في غرفة معيشة ما في ليلة غير مقمرة أمام شيء يساعدني على الرسو في عالم الأحياء.

ولكن حينما  أجلس في الكنبة قرب النافذة، لن يكون هناك طفل ولا حفيد ليصغي لقصتي. وفي حياتي المتقلبة والبائسة هذه، بقيت تلك الحقيقة آخر عزاء يلهم روحي.

أغلقت الباب وتقدمت في الصالة ليلفني ظلام دامس.

***

......................

* ترجمها عن الكورية أنتون هو

 * بورا شانغ Bora Chung كاتبة قصص خيال علمي. تعمل حاليا بتدريس اللغة والأدب الروسي في جامعة يونسي في سيؤول بكوريا الجنوبية. وتترجم الأدب الحديث من اللغتين الروسية والبولونية إلى اللغة الكورية.

 *عن كتابها “الأرنب الملعون” المرشح لجائزة البوكر الدولية في لندن. صدر عن هانفورد 2021.

في نصوص اليوم