ترجمات أدبية

روج غلاس: أنجز أعمالك كلها بمحبة

بقلم: روج غلاس

ترجمة: صالح الرزوق

***

التصق قميصي بي. وانحدر خط عرق لزج من كتفي، على طول حمالات الحقيبة. ورغم الحرارة والعرق وعدم معرفي أين أنا، في أي شارع أو منطقة بالتحديد، تابعت المشي في الطريق اللامتناهي والذي لا ترى له نهاية، متوجها إلى مكان غير محدد، وتفكيري كله محصور بالرحمة الإلهية. كانت حقيبة اليد خفيفة الوزن. لكن قبضتها رطبة وما تبقى ينزلق تلقائيا كأن الدواليب مستمتعة بالتدحرج على الأرض. كنت أتحرك. في خاتمة المطاف سأغادر هذه الخريطة، ولكن في الوقت الراهن كما أعتقد، أنا أمشي فقط.

كندا بلد أمة متطورة تحتل مرتبة متقدمة في العالم الأول، وأنا على طريق رئيسي في منطقة مزدحمة من تورنتو - مدينة نظيفة وآمنة وشوارعها مصممة على يد مهندس لديه إحساس بأهمية شبكة المرور. وكان تمثال هاري مور العجوز جاهزا ليقودك مباشرة دون منعطفات إلى لونلي بلانيت. ولكن المستجد يفضل أن يترك الخريطة في حقيبته.

وكلما تخطاني شخص ما كنت أبتسم له، وأهز برأسي، وأحيانا أرفع يدي عاليا وأشير إلى السماء، كما لو أنني أقول: ما قولك بهذا الطقس يا زعيم؟.

اعتاد هيلاري أن يتذمر ويقول إنه في حالات من هذا النوع أتصرف وكأنني سفير فخري  أمثل مصالح السياح في كل مكان. أستعمل إيماءات مبالغ بها، وضحكة بلهاء على وجهي، وأنتظر أن أكون مقبولا. كنت أتجول في الشوارع مثل نشالي حقائب المسافرين، وفي نفس التوقيت الي اعتادوا أن يسرقوا فيه الحقائب ويرتكبوا الموبقات ويذبحوا حديثي الولادة الذين تصل إليهم أياديهم. في آخر يوم لي في بيت هيلاري قالت إنها لم تعد تتعرف علي. وادعت أنها ترضى أن تشق حنجرتها لقاء ليلة إضافية مع سائق الدراجة تيدي بوي الذي اقترنت به، مع أنه أناني لا يهتم لا بحاجات ولا أحوال غيره.

ولكن رحل جيمس دين منذ أمد بعيد، وشيء رائع أن تكون رائعا، غير أن هيلاري ليست برفقتي الآن في هذا البلد الفاتن، حيث الفضاء رحب والسهول خضراء والشمس ساطعة. حتى أنني بدأت أشعر أنني أصغر بعشرين عاما. ولذلك يمكنني أن أبتسم وأوافق بحركة من رأسي لو رغبت. ويمكنني أيضا أن ألقي التحية. فالناس ليسوا وحوشا مرعبة. وأغلبهم يردون التحية وهذا السلام القصير، وباستثناء منغصات قليلة تشعر أنك لست عصفورا منفردا في السماء. بعد عدة شوارع توقفت وتركت حقيبتي على مقعد كتب عليه: مخصص لأماندا. دون تاريخ. دون اسم كنية.

مررت أصبعين على اللوحة النحاسية. كنت عطشانا. ولم أتذكر في أي جيب أحتفظ بزجاجة الماء، ولذلك وضعت حقيبة الظهر على حقيبة اليد وشرعت بالبحث في زواياها. كان من المتوقع أنها تحتوي على ماء. ولكن لم أجد. وتخيلت زجاجات مهملة كانت في طريقي - ابتداء من رصيف المطار، والحافلة، وحتى آخر محطة - ثم لاحظت نقاط دم على ذراعي. نقطة صغيرة جدا، بحجم أول نقطة مطر في هطول مسائي خفيف. وانشغل تفكيري بها حتى نظرت إلى الأسفل ولاحظت أن قميصي الأبيض ليس أبيض الآن، باستثناء المساحة التي تغطيها حمالات حقيبة الظهر.

*جدير بالذكر أنني كنت في المقهى منذ السابعة، أرد على رسائل إلكترونية، وأعدل خططي، وكنت الزبون الوحيد المتواجد في أول ساعة، وكان عمال الخدمة يحضرون أنفسهم ليوم عمل طويل. ولم أشعر بالارتباك، لأنهم معتادون على الأمر. وكنت كلما أنجز شيئا أشطبه من قائمة الواجبات الصباحية بقلم كبير أحمر. وكل نصف ساعة أمنح نفسي فرصة للثرثرة مع صبيان شباب إيطاليين يجلسون وراء طاولة المبيعات. وبعد ذلك أعود إلى عملي. في التاسعة أغلقت الكومبيوتر المحمول، ونحيته من أمامي. وتصفحت التايمز الاقتصادية وأنا أتناول الفاكهة واللبن والمزيد من القهوة السوداء، وكانت رائحتها لا تختلف عن اللوز، وتذكرني بوالدتي. وكان الوجه الجديد، الصبي سيلفيو ، هو من سكب لي القهوة، وهز أصبعه قرب وجهي، وقال مبتسما: أنت تربك نفسك بمشاغل جدية. الأفضل لك مجلة ملونة للتسلية؟.

وحينما لمحت مؤخرته الضيقة تبتعد، فكرت: أنا متأكد تماما أنه لا يجهد نفسه بعمله.  وحوالي التاسعة والنصف طويت جريدتي، وتركت البقشيش المعتاد، ولوحت بيدي مودعا هذا اليوم. ثم توقفت في البقالية لشراء حليب، وفوط تامبون، وإسطوانة من ورق دورة المياه. لا شيء لممارسة الجنس. ولن يحين وقت أول موعد قبل العاشرة. والمسيح وحده يعلم أن بعضنا يهدر وقته. ولا مدعاة للعجلة، أليس كذلك؟/.

حينما انسحبت من كوين ستريت ويست إلى أوسينغتاون كنت أنزلق بحذاقة وأتقدم ببطء لأن الوقت مبكر والجو حار. وتابعت لبعض الوقت، وتأهبت للعبور من حدبقة هاملتون، ووقفت أنتظر الضوء الأخضر. وكان يبدو أن الجميع يتكلمون بالهاتف، أو أنهم يتفقدون هواتفهم. ولكن جهازي لم يرن منذ أن حملته. وتبدلت الأضواء، وبدأت بالعبور، ثم لاحظت السائح الذي يسير باتجاهي. وتابع وسط السيارات، وهو يميل يمينا ويسارا، كما لو أنه شبح، أو كأنه لم يسمع أن السيارات تسبب المخاطر. أنت تفهمني؟. عموما تجنب بمعجزة السقوط تحت الدواليب، وكلما اقترب، كنت أشعر بمزيد من الهدوء، وأقدح زناد أفكاري وأقول: ماذا يجري هنا؟.

اقترب، وتبللت عيوني. ربما كنت بحاجة ليوم استراحة أنال فبه قسطا من النوم - اللعنة، الأرجح أنني أحتاج لبقية عمري كله لأرتاح - هذا الشاب كأنه طيف لا يعيقه شيء.  حسنا، مهما كان، وكائنا من يكون، لفت انتباهي. اللعنة، ربما بلغ عمره خمسة وستين عاما.  وكان يعوم بحركته كأنه يسبح، لعله شبح سائح له من العمر خمسة وستون عاما، ويستكسف ما حوله، كما لو أنه وصل للتو إلى هذه الجنة، ولا يسعه أن يصدق حظوظه. وكان ينظر إلى الحديقة مثل كبار السن حين يقفون على منصة بشكل أصنام وحولهم أعشاب ذهبية.

*هذا الشاب.. كما لو أنه لم يشاهد حديقة عامة من قبل. وتقاربنا، ومنحني نظرة سخية منه، ثم رفع رأسه نحو السماء وقال: تحياتي يا صديقي.

لم أمتعض. وأجبت مباشرة: مرحبا أيها الصديق.

 (أعلم أن هذا التصرف مباغت)، ثم، بم، اختفى وتخطاني. نظرت نحوه لأرى ماذا سيفعل بعد ذلك. أحيانا ينتابني إحساس غريب. وراقبته وهو يتوقف قرب مقعد، ويلقي حقيبته عليه، ويفتش فيها. حملت هاتفي، وتظاهرت أنني أرسل رسالة. تلفت حوله. وتمكنت من ملاحظة شاب أمامي كان يرتدي بذته، وينزف لدرجة خطيرة تنذر بالموت/.

قلت لنفسي: اصبر قليلا. لا معنى للغضب. ثم علام تغضب. لا يوجد هنا غيري. وحقيبتي وقميصي المصبوغ بلون أحمر. توقفت. وانتظرت أن أشعر بدافع داخلي أو فورة نفسية أو لدغة من نوع ما. شيء يؤكد أن ساقي متداعيتان ومفقودتان.

ولكن هذا الإحساس لم يواتني، وتجمدت كل أطرافي، ولم أكن مضطربا ولا يائسا على الإطلاق. من أين هذا؟. فحصت قميصي لأرى إذا كانت البقعة داكنة في منطقة منها. لم ألاحظ ذلك. كانت متجانسة على نحو غريب. وهذا التلوين. هذا الوضع لم يكن عاديا. وكما اعتاد هيلموث فون مولتكو الأب أن يقول: لا تصمد أية خطة حربية في أول نزال مع عدوك.

وأنت لا يمكنك أن تحتل موقع قائد الأركان في الجيش البروسي لما يزيد على 30 عاما إن كنت لا تعرف شريحتك. ولذلك حينما تكون خطتي العسكرية بحاجة لمراجعة، يجب التصرف فورا.

نزعت سترتي، ثم قميصي، ثم بدأت أفتش عن مناطق يحتمل أن هذا الجنون بدأ منها.

أولا وازنت الاحتمالات، ثم غامرت. وتلك حكمة عميقة تعلمتها من هيلموث. خفضت سروالي.

* أقسم برب الأرباب الجبار المتربع هناك وسط أوسينغتون.

أولا توقعت أنه ليس سائحا أبدا. وربما هو شخص آخر فر من بيت المجانين. وحاليا يتجول في أرجاء تورنتو، والسروال حول كاحليه، وينظر إلى كلبه الميت أو لهراء من هذا النوع. ويأمل أن يختاره سكان الفضاء ويحملونه معهم إلى المريخ/.

كان اللون الأحمر يصبغ ثلاثة أو أربعة مواضع، ولكن لم أجد في هذه المواضع أي جرح. وكنت لا أزال أنزف، وتصورت أن الدم يتجمع بلركة حول قدمي. وكان يعلو باستمرار، ويغمر الشارع، و يحوله إلى بحر أحمر غرق فيه كل مواطني هذا البلد المتحضر. وكانت الشمس ساطعة والناس لا يعرفون بعضهم بعضا و مع ذلك يتبادلون التحية بقولهم: مرحبا يا صديقي.

بحثت عن علبة مناديل ورقية، وبالتأكيد سوف أحدد مكان هذا النزبف لاحقا، بعون وتوفيق من الله، بعد أن أستبعد المواضع السليمة. لكنه كان يغطي كل مكان. وكان يقطر على رخام الرصيف الأبيض الناصع تقريبا. ولو اتفقنا أن الجنة حقيقة، وهيلاري موجودة فيها، وإن كان بمقدورنا النظر نحو الأسفل من هناك، لا بد أنها الآن تهز رأسها بتأسف. وهي تراقبني، وتقسم مثل أي عسكري، وتخبر جارها الميت كل ما تعرفه عن مغني الجاز الذي تقدم لخطبتها في أواسط السبعينات، حينما كنا نستمتع بواحدة من سنواتنا المفضلة. وكانت تتساءل عن السنوات التي يمكن أن تعيشها ولكن ضاعت منها، كي لا تسمح لأي طبيب أو أمير أن يتدخل بشؤونها. كانت لا تقبل أن تكون عرضة لاحتيال مندوب مبيعات يقدم خدماته لقاء ثمن.  ولكن أنا هنا الآن ورأسي يسقط عن كتفي. ولو أنني دفعت وأويت إلى غرفة مباشرة عوضا عن التجول كان يمكن أن أنزف بأمان وحدي، أمام مرآة في فندق، أو على منشفة يوجد من يتكفل بغسلها لاحقا.

ولكن كلا. هاري الحرة تعرف أكثر مني.

في النهاية وجدت قارورة الماء تلك، وتأهبت لسكبها على صدري، ثم لم أفعل. أنا لست حيوانا، أليس كذلك؟. ولم أستغرق بالتفكير غير لحظة. لم أكن بحاجة لسنوات من إعمال الذهن. ثم لعل شربها أفضل، للترطيب، لهدوء المنظر. لأستمر هادئا وأتابع وما شابه. وكنت متأكدا من وجود مناديل ورقية في أحد المواضع، ولكن يجب العثور عليها بسرعة. فالعالم لا يتوقف عن الدوران من أجل شخص واحد. وتابع الدم الجريان على طول ذراعي وسال على حقيبة الظهر ولوث مفكرتي، والكاميرا، ودفتر الملاحظات الذي تلقيته هدية من هيلاري. كانت يداي دبقتين، وتحولت التجاعيد إلى شبكة من خطوط رفيعة حمر. ولاحظت وجود دم تحت ظفر إبهامي. وبدأ يظهر بشكل بقع على ساقي. وبادرت لإفراغ كل حقيبة الظهر في قارعة الطريق. حتى وجهي التمع بلون محمر. ولم يبق فيه شيء يلفت الانتباه سوى ذلك. * وهكذا هناك، هذا الشاب، الذي يظهر مثل ثمرة بندورة لها يدان، أصبح تقريبا في حديقة عدن، هل أنتم معي؟. وأوشك أن يفتح حقيبته، ولكن قلت لنفسي:كلا!.

لو هناك أي شيء في الحقيبة ويهمك المحافظة عليه فقد تلف.. فسد تماما. لماذا ألعب دور الشهيد، أليس كذلك؟. ولذلك بدأت بالجري وأنا أصيح: يا سيد، يا سيد، توقف.

ومثلما كنت أنا بنظره ألفريد كان هو بنظري بروس - وأين -لعنة الرب عليه-أو أي كنية أخرى. لم أناد أحدا بلقب سيدي منذ أيام عملي بصفة نادل. وها أنا الآن أعدو وأتحدث مثل حاجب أو نادل أو أي شيء من هذا القبيل. وأمد يدي لأبحث عن ورق دورة المياه في حقيبتي. فكرت لبرهة خاطفة: آه يا رجل. هذا مدعاة للتشاؤم. ولكن كلا. كل ما حصل أنني عدت من البقالية مباشرة. لا علاقة للسحر الكوني بالمسألة. توقف الشاب عن فتح حقيبته بعد أن فتح نصفها، ونظر إلى الأعلى. كرر قوله: مرحيا يا صديقي. ووقف على قدميه. وكأنه كان بانتظاري. ولكن في هذه المرة لم أتكلم. فقد كنت مشغولا/.

وقبل أن أستحوذ على انتباهها وقفت هناك مرتديا سروالا قصيرا من نوع هارلي دافيدسون وكنت بصحبة امرأة لا أعرفها ولكنها هي من بادر بالاقتراب، مثل ملاك بعمر ثلاثين عاما - أو ما يعادل ذلك وبيدها منديل كلينكس. وعمدت لتوضيب حقيبة الظهر، ثم فتشت جسمي بحثا عن جروح محتملة بين خطوط الدم التي تغطيني. ثم نظفتني. اقترحت أن أفعل ذلك بنفسي لكنها أصرت. قالت إنها أسرع مني، وطلبت أن أسمح لها بالمتابعة. وفي كل حال كان الأرجح أن أنزف في كل مكان. وحينما طلبت أن أرفع ذراعي، رفعتهما. وحينما أهابت بي أن أتقدم وأقف على الأعشاب، امتثلت لها. وقفل الحزام المحلول يقرقع ورائي. استهلكت نصف لفافة ورق التواليت، وتجمع حول قدمي شريط طويل وردي اللون ومبلول.

بالرغم من كل شيء، ارتفعت حرارتي. تلفت حولي، دون أن أنظر أو أفكر، فكل شيء واضح. ولكن لأكون عادلا مع شعب تورنتو الطيب، لم ألاحظ أنهم مهتمون حقا. كانوا ينظرون ويبتسمون ويفكرون بالمساعدة، دون أن يفعلوا شيئا واحدا مفيدا. ولا شك أنهم شاهدوا الأسوأ مني، ومن ناحيتي لم أتذمر. وكما اعتاد تيودور رووفلت أن يقول: افعل ما بوسعك، بالإمكانيات المتوفرة لديك، وحيثما أنت. وكان تيدي -ولا يزال - رجلا يستحق الاهتمام بأقواله. وكل ما بمقدوري القيام به هنا هو تنفيذ التعليمات، وكل ما لدي هو طلب المعونة،

وأنا موجود ومعلق على سطح الكرة الأرضية، التي لا تزيد على أنها كون صغير، مهدد بمخاطر تفرضها البيئة، وتدور في مجرة من عدة كواكب.

كل شيء حتى الآن ممتاز، ما دمت لا ترهق نفسك بالتفكير. كنت أتلفت بينما إنسانة غريبة تنظفني، ولاحظت أن هذا الشارع واسع ومحفوف بالأشجار. وأن كل هذه المنطقة مغمورة بضوء حار. وكل شيء يبدو هادئا. وضعت خطة لتبديل موعد رحلة عودتي. وأجبرتني الآنسة على مواصلة الكلام بتوجيه أسئلة لا تنتهي. هل عليها طلب الإسعاف. هل أشعر بالوهن. هل أعاني من مشكلة بالدم. وهل عانى أحد أفراد العائلة من مشاكل صحية في الماضي. وماذا عن قلبي - هل أشعر أنني على وشك الإصابة بأزمة قلبية؟.

وكنت أرد على كل هذه الأسئلة بنفس الجواب: لا، لا، لا، ولا. وكنت أفكر: ماذا يمكن لهيلاري أن تفعل لو واجهت هذا الموقف؟. يقولون إن الناس لا يهتمون ببعضهم بعضا. ويقولون إن عالمنا لا يقبل التحسين. حسنا، كيف يمكنهم تفسير هذا، آ؟. كيف بوسعهم تفسيره؟. وطلبت مني المرأة رفع ذراعي لمسافة أعلى، وحاولت أن تنظف إبطي. كان الدم ينقط من الشعر. ثم وحالما أصبحت نظيفا تقريبا، قالت، آها...

* كلا، اللعنة، هذا أصغر من رأس دبوس. ولو لا أنه ينزف لما تمكنت من تتبعه ورؤيته. إنه نقطة ضئيلة بين أعلى أضلاع القفص الصدري. تقريبا غير موجودة. ولكن كلما غطيتها أو نظفتها، تبدأ تلك النقطة الصغيرة المشؤومة بالنزيف مجددا. والدم يتسرب بسرعة. وأول مرة لمست رأس الدبوس بأصابعي لاحظت أنه كتلة بارزة قليلا، ربما هو قناة شعرية أو شيء مثلها.

في تلك اللحظة كنت أفكر بالإيدز. وفكرت بكل الطرق التي يمكن أن أموت بها بعد ملامسة هذا الرجل. وكل الطرق التي قد يموت بها. وربما نقتل بعضنا بعضا إذا وقفنا هنا ولم نبدل هذا المكان. وتابعنا ما نحن فيه. وأحيانا أفكر أن كل تورنتو تلهو وتلعب، وأتخيل قاتلا مأجورا، وزومبيات جبارة وأوبئة خطيرة تستهدف الشوارع.  واتضح لي أنه حينما نصل إلى ثقوب صغيرة في صدور أغراب، أكون بالضبط مثل كل الأغبياء الآخرين في هذه المدينة.

حسنا، أصبح بيدي كرة من منديل كبير، أكبر كرة يمكن أن تتصورها، صحيح؟. وضغطت منتصفها على رأس الدبوس، وقلت له:تماسك. فتماسك. ومنحني ذلك وقتا لتنظيف ما تبقى منه دون شرود. استغرقت وقتا طويلا، ولكن شكرا للرب الظالم، بعد عشر دقائق على الأرجح، تمكنا من تحقيق تحسن. بعد كل ذلك اللون الأحمر، هذا الشاب، أصبح أبيض في بعض المواضع وأصبح مثل بيضة مسلوقة وليس بشكل كائن بشري. وبينما كنت أمسحه كله واصل يقول: شكرا، شكرا. و: أنت لطيفة جدا، و: الناس هنا، كلهم، جميعا رائعون.

كانت له تسريحة شعر الصبي تيدي، وميدالية تتدلى من رقبته، وكان يضع إسوارة كتب عليها: تعود ملكيتها لهيلاري مور. وكان يبدو كأنه لم ينم منذ أيام، وأمكنني رؤية أعشاب تبدل لونها بين قدمي/.

أحيانا كانت تقول: اضغط بقوة، وتحرك عينيها وتضيف: هل تعتقد أنك قوي؟.

كانت يدي تؤلمني من ضغط هذه الكرة على صدري، ولبعض الوقت لم يكن بمقدوري التفكير بأي شيء باستثناء أنني أود التخلص منها. ولكنها سرعان ما قالت:انتهينا. وبدأت بتنظيف نفسها.

تابعت الضغط، ولكن دون مبالغة. وارتديت سروالي وحاولت ربط الحزام بيد واحدة. ثم غامرت، وتخليت عن الورق المبلول وأبعدته عن صدري لدقيقة فقط. وسرعان ما سال خيط أحمر رفيع نحو سرة البطن. أعدت شريط ورق التواليت وضغطت به وقلت:إنه لم يتوقف، أليس كذلك؟.

فكرت قليلا. وقالت: لنجلس. في بعض الأيام أتناول الطعام هنا.

وبعد عدة دقائق أبعدت المنشفة مجددا، ولاحظت نفس النتيجة. المزيد من النزيف، وتوجب إعادة تنظيفه.

قلت لها: ماذا لو استمر دون توقف؟.

ابتسمت كأنها مع طفل.

قالت: لا شيء يتواصل دون نهاية.

والآن لنفكر.

وفي هذه اللحظة تبدل وجهها، واتسعت عيناها، وقالت: اللعنة، اللعنة، اللعنة. كان صوتها خافتا جدا. وكررت الكلمة عشرين مرة، وتقريبا ركعت على ركبة واحدة، هنا عند المقعد، بأظافر دامية أو غير دامية.

كانت هذه المرأة بعينين عميقتين مثل مياه بركة عميقة وصافية. ولكن كان فمها قذرا وربما هي أصغر مني بثلاثين عاما. وكانت لا تريدني معها هنا. هذه الأشياء تحصل في أفلام هوليوود المضجرة، وفي أسوع أفلام التعري. ولكن الزواج مؤسسة تناسبني، وكما قال جون م. ريشاردسون الابن: حينما يتعلق الأمر بالمستقبل، يكون معك ثلاث أنواع من الناس، من يسمح للمستقبل أن يتحقق، ومن يعمل على تحقيقه، ومن يتساءل ماذا حصل خلاله. ولم يكن في ذهني أي شك. حان الوقت لتبديل الفئة التي أنتمي لها.

* بعد أن كنت مبكرا ومنتعشا وجاهزا، سأصبح متأخرا على موعدي المقرر وهو العاشرة والنصف/.

أول كلمة سمعتها من هيلاري، في البار حين التقينا. وأتذكر أن الساقي طلب منها أن تضبط لسانها. حسنا، زوجتي تعرف ماذا في رأسها. وسخرت من الساقي، ونصحته أن يمارس الجنس مع نفسه، وبعد ذلك عزمت أن أقول:مرحبا.

* اللعنة. اللعنة. اللعنة. كانت يداي مضطربتين، وأنا أتعرق، ولم أتصل بالمكتب حتى الآن. وأنا أجلس هنا، وأغوص بالمقعد، ولكن أعتقد أنه بمقدورهم الاستغناء عني لساعة أو ساعتين. وربما لست بحاجة للمشاركة على الإطلاق. نظرت إلى السائح، وكان يتأمل المسافة الفارغة أمامه/.

لا شك أن هيلاري تحب هذه الأماكن.

* وحينما كنت أنظر له، فكرت بالاطلاع على حساب دافيز، وأعمالي المكتبية، والرسائل الإلكترونية الواردة التي لم أرد عليها. وفكرت بأمي. وبآخر مرة قابلتها بها، ودراسات السوق التي تنتظرني على طاولتي، وبالنظرة التي تسرقها السكرتيرات مني كلما طلبت منهم أداء أحد الواجبات. ثم فكرت بشباب المكتب الرئيسي حين يخاطبونني -شخصيا، لأداء عمل ما.ثم كيف يبدلون رأيهم فقط ليؤكدوا أنهم بموقع الآمر وأنا المأمور. ثم شرعت بالتفكير بهذا الفراغ، وبالزاوية التي أشغلها في هذه المدينة الشقية. ثم لم يعد بمقدوري أن أحرك ذهني أو أفكر بأيما شيء/.

وكانت تبكي بهدوء صامت.

* ولأكون منصفا مع الرجل المسن، حينما شعرت بالتقزز، لم يكن مهتما ولم يؤثر باتجاه الأحداث.

لم تستمر الدموع طويلا، وعندما حبست دموعها،تخلصت من شيء ما استحوذ عليها. والآن هي على أهبة الاستعداد.

أعاد لي منديلا لم ينزف عليه بعد. ثم قال:هاك، هاك.

وبتلك الطريقة الأوروبية، وكأنه يجعل الحال أفضل. جففت عيني، وأخذت نفسا عميقا، وهاتفت آني. وبنغمتي العادية التي أتكلم بها في المكتب، قلت لها لدي حالة طارئة، وتستدعي العلاج الفوري. وطلبت منها إعادة ترتيب مواعيد المقابلات الصباحية. وافقت. دون استفسارات ولا نبرة غريبة. وبعد لحظة قصيرة كنت أجلس هناك، والهاتف بيدي، وكنت أنظر للسحب الصغيرة البيضاء التي تغرق ببحر أزرق، وكنت أتساءل ماذا سيجري إن لم أذهب إلى المكتب مجددا؟. كانت السحب تبدو رفيعة، وهشة جدا. وكان أمامها جهد كبير لتتماسك معا. ومن المدهش أنها لم تسقط وتتداعى من السماء. ولدقيقة عابرة نسيت أنني برفقة شخص آخر/.

سألتني عن اسمي.

* اسمه جيفري/.

أخبرتني باسمها وكان أماندا. بعد ذلك جاء دوري بالكلام.

* وتبين أن زوجة جيفري ماتت منذ أسبوع. تزوجا ما يعادل مائة سنة.

تقاعد بعد ذلك. ثم سافر بالطائرة. دون مخططات. دون هدف محدد، باستثناء أنه وعدها أنه لن يصمد في البيت وينتظر لحظة انضمامه لها/.

لم أبدل الحقائق. ولا التواريخ. ولا الأماكن. وكنت خفيفا كالنسمات.

* هذا شيء تراجيدي. كان الشاب، كما هو واضح، مشتتا/.

وكما أخبرت أماندا، لم تكن مفاجأة، وتكلمنا حول ما سيحدث لاحقا. وقطعت وعدا على نفسي من أجل كرامة هيلاري: لن أقرع صدري بقبضتي. ولن أمارس طقوسا انتحارية في زقاق أليسون. ولن أذرف الدموع على الجيران. ولكن المشكلة في بيتنا، في رأسي. تساءلت إن كانت ستطلق سراحي. وهي في تورنتو، أو أي مكان آخر. وأعني، حينما تكون زوجتك كل شيء، وكل شيء لها، لماذا ترغب بوضع حد لهذه المهزلة؟

 * يبدو الأمر كأنه سيموت أو ما شابه ذلك. ولكن لاحقا يحمل حقيبته ويقول: هل هذا المقعد... محجوز لك؟.

أرد: لأماندا أخرى. ولكن أحيانا أتساءل.

أبتسم. ولم أجرؤ على فحص صدري مجددا. أفكر: ماذا لو أنها بالفعل قلبي؟.

* ثم خطرت لي فكرة. وقلت لجفري: اسمح لي بحمل تلك الحقيبة. هل تعتقد أنك قادر على الوصول إلى فندقك؟.

وأجابني كأنني طلبت منه للتو أن يبتعد عن البحر الأحمر، وهو موسى. يفكر، يزفر ويقول: لا أعلم أين نحن يا أماندا. ولا أعلم موضع الفندق. ولكن بعون من القدير سأحاول.

هل هو جاد. ويقف. ويبدو مصمما جدا.

في الواقع يبدو بحالة معقولة. والآن حان وقت أن أقول لنفسي: بحق أي جحيم لماذا لم أواصل المسير؟. ولكنه ممتن حقا. وكان عنوان فندقه مدونا في الدليل. ولا يبعد غير ست شوارع. وربما لم يضل جيفري طريقه فعلا/.

كان القميص باليا. وأخبرتتي أن أرميه في النفايات. ولكنها ترغب أن ألف كتفي بشيء ما لأستر به نفسي، وهذا ما فعلت، بيد واحدة، بينما كنت أضغط المنديل على صدري كل الوقت، ولم أفلت صدري غير دقيقة أو اثنتين. وعرضت المساعدة مجددا، ولكن للرجل كرامته..

قلت: من فضلك.

ليس بعد الآن.

وأخرجت بلوزة فضفاضة من حقيبة اليد ووضعتها حول كتفي. لكن بطني بقيت مكشوفة.

* بالتأكيد، سيفكر الناس أنني أرافق مجنونا، ولكنه على الأقل مجنون يبذل جهده لتغطية جنونه/.

وحينما كنا نمشي، أخبرتني أماندا إنها كانت تعيش هنا طيلة حياتها. ودلتني أين كانت تلعب في أيام طفولتها. وذكرت لي بعض أماكنها المفضلة، ورشحت لي أفضل مشارب القهوة، وأفضل المطاعم، وقدمت لي نصائح لتجنب الأماكن السيئة. وكانت سريعة الكلام و مرتفعة الصوت بما يخص المدينة. وروح المكان. وحينما انعطفنا من الزاوية أشارت إلى شقة فوق مطعم وقالت: ابن عمي يعيش هنا. ولا بد أن أزوره.

لا بد مما ليس منه بد. قالت بصوت يصعب سماعه: ركزت على هذا المقعد قبل ثلاث سنوات، بعد موت زوجي. واخترته لأنه أمام شقتي. كم هذا شيء عجيب. مثل العرج.

ترنحت قليلا، ولاحظت ذلك فعقدت ذراعها بذراعي، وجرتني لأقترب نحوها. أخبرتها أنني متماسك. وكنت فعلا متماسكا. ولكن تساءلت هل سيغطي الدم إسوارتي.

* سألته ماذا يفعل في تورنتو لكنه اكتفى بالقول: وصلت هذا الصباح. هكذا أجاب على أسئلتي. كما لو أنه يتجول في العالم بانتظار رؤية ما سيحصل لاحقا.

سألته ضاحكا: ماذا تكون؟. وماذا تعمل؟.

ابتسم وقال: حسنا. يا عزيزي في هذه الأيام أفعل ما يحلو لي. أيامي العملية انتهت.

ثم مد لي ذراعه وقال: هل يجدر بنا أن نذهب ونشاهد الساحر؟.

ببطء وخطوات ثابتة زلقت يدي وبدأت أجر الحقيبة ورائي بذراعي الثانية. وكشر جيفري مثل صبي مدلل. وترنم بالصفير لبعض الوقت ثم قال: كانت هيلاري تحب الأفلام كثيرا.

قلت شيئا عن الرجل المعدني والأسد، فقط لأحضه على الكلام، كما ترون. وتابع التأكيد أنه بحالة جيدة ولكن لا بد أنه اعتقد أنني أخرق. كانت أصابعي ملتفة حول ذراعه الدبق، وكتفي يميل عليه، بمحاولة للتاكد أن أسنده كي لا يسقط/.

لا بد أننا اقتربنا. وكنت أشعر كأنني مشيت لعدة سنوات. أغلقت عيني بينما أماندا تقودني. وركزت لأحزر كيف سيكون شكل ردهة الفندق. ووجوه الموظفين في الاستقبال. وفكرت كم ستكون السجادة ناعمة في غرفتي وهي تحت قدمي العاريتين. ونصحت نفسي أن لا أضخم توقعاتي. ومثلما اعتاد الشيخ الشريف إبراهام لنكولن أن يقول: أفضل شيء في المستقبل أنه يحصل مرة واحدة في اليوم الواحد.

وكل ما توجب علي عمله اليوم هو إيقاف هذا النزيف/.

* التففنا من حول زاوية ورأيت فندقه أمامنا. كل هذا الوقت وجيفري يمسك بالمنديل ويضغطه على الجرح ليد واحدة. وحينما بلغنا طاولة الاستقبال و أفلت المنديل، انتظرنا أن يسيل اللون الأحمر من جديد. لكن لم يحصل ذلك. ربما نزفت كل شيء. وفكرت أن أقدم له بطاقتي أو ان أدون له رقمي على رقعة ورق. ضحكنا معا. لا أصدق أنه توقف حقا، هذا النزيف المزعج. إنها نهاية سعيدة/.

قلت: آه. ياه. فعلا آه. يا إلهي.

* كان وجهه مشرقا وبلون معافى. نظر إلى راحة يده، كان الأمر مثل أجوبة على  تساؤلات كانت مختفية فيها/.

مددت يدي، وأردت منها أن تلاحظ. نظرت إليها. وتابعت.

* قلت دون أن أنظر إلى أعلى: مكاني معروف لك/.

***

.........................

روج غلاس  Rodge Glass

روائي وأكاديمي بريطاني يعيش في غلاسكو. يعمل في جامعة ستراثكلايد. حاز على جائزة سومرست موم عن كتابه (ألاسدير غراي: سيرة من وجهة نظر سكرتيره). من أهم رواياته: بلا ألعاب نارية، هات لي رأس رايان غيغز. والقصة مترجمة من مجموعته "حب وجنس وسفر وموسيقا"/ وبالتنسيق معه.

 

في نصوص اليوم