ترجمات أدبية

بورا شونغ: الندوب

بقلم: بورا شونغ

ترجمة وإعداد: صالح الرزوق

***

جروا الصبي إلى الكهف. كان السبب مجهولا. ولم يعرف من هم هؤلاء الذين يجرونه بعيدا. في الحقيقة لم يعرف الصبي من يكون أصلا. كان يتجول في الحقول حينما قبض عليه رجال مجهولون وجروه إلى كهف محفور في الجبال. وما أن أودع في مكان عميق حتى شدوا وثاقة. وتأكد الرجال أنهم لفوا السلاسل حول أطرافه، وشلوا حركته، قبل أن ينسحبوا. صاح وبكى في الظلام المطبق لبعض الوقت، ولكن لم يحضر أحد لنجدته. وبعد أن خفت صوت احتجاجه، سمع صوت خشخشة وراءه. و"كان" يقترب منه. عاش الصبي بالاعتماد على اللحم غير المطبوخ والخضار. وكان ينام ملتفا حول نفسه، في المكان الذي أحكموا به وثاقه. وتبرز فيه أيضا. أحيانا كانوا يجرونه إلى خارج الكهف وهو مربوط بالسلاسل. مرة كل عدة أيام. وربما مرة كل عدة أسابيع. فالنور لم يكن يدخل إلى الكهف. وكلما جروه إلى الخارج، كان النور الساطع يؤلمه. وحينما ترفعه السلاسل في الفراغ  يصيح من شدة الألم والرعب. وكانوا يجرونه إلى مكان ما ثم يلقى في حفرة من الماء المتجلد، الذي يلمع ويتناثر حوله. لم يكن جسمه يعرف السباحة، ولكن يديه وساقيه المقيدتان منعتاه من السباحة في كل الأحوال. وكان يصيح ويجدف بيديه، ويغرق مهزوما، ثم فجأة شيء ما يجر السلسلة مجددا ويلقى به في الفراغ. ويتم جره عبر غابة وطرق جبلية، ليعود إلى الكهف مجددا. وفي داخل الكهف يجد الصبي هواء للتنفس وأرضا ثابتة تحت قدميه. فيشعر بنوع من الراحة. وهكذا يعيش بين ضوء خاطف أو ظلام خانق. سماء معتمة كالعمى أو هواء رطب ومتعفن في الكهف، ماء بارد كالثلج أو رطوبة دبقة وقذرة - لم يكن لدبه حال وسط ولا أنباء مسبقة عما سيحل به لاحقا. وكان هناك شيء يزوره مرة في الشهر. فينخر في عظامه، ويشرب من نقي هذا العظام. وكان من المستحيل للصبي أن يرى مرور النهار أو الليل، ولذلك لم يعلم إن مر عليه شهر أو عام. ولم يتمكن من حساب الوقت الذي يمر عليه، أما زيارة الشيء فهي الأمر الوحيد المنتظم والمتوقع في حياته. ولم يكن الصبي يعرف ما هو. ولا يمكنه تكهن مظهره. ولكنه كان يدب في الظلام. وهو كبير وقوي ومرعب... ويسبب الألم المبرح. فقد كان يغرس في عموده الفقري شيئا حادا وقاسيا، ويمتص منه. ويبدأ من الخلف، فوق حوضه، ويتابع شق طريقه، فقرة بعد فقرة، حتى يبلغ رقبة الصبي. أما الطريقة المتبعة فهي بنفس الترتيب دائما. فجأة يغطي النقطة الصغيرة المضيئة في مدخل الكهف خيال قاتم. يتبع ذلك صوت خشخشة ودبيب. ثم تضغط ريشة مبتلة وصلبة وقوية على معصميه وكاحليه. ويعقبها شيء ثاقب حاد وقاس ومرعب ومؤلم لأقصى حد، ينفذ في فقرات ظهره. وبعد أن يغادر، لا يمكن الصبي أن يتحرك لبعض الوقت من الألم والخوف. وعندما يبذل جهدا في نهاية المطاف لينهض، يدفعه الشعور بالصعف للبكاء. ولم يكن الصبي يوجه بكاءه لأحد. فهو دون عائلة معروفة. ولا يعرف والدته أو أباه، ولا يذكر من أين أتى، ولا أين كان يعيش، والنذر اليسير من ذاكرته تبعثر في أعماق غامضة ومبهمة. ورغم ذلك كان الصبي يأمل أن شخصا ما، مهما كان ما دام إنسانا، سوف يحصر وينقذه من هذا الكهف. ولم يكن يهتم إلى أين سيقوده ما دام سيبعده عن هذه الحفرة، إلى موضع آخر يخفف عنه الألم والظلام، وابتهل من أجل ذلك بكل ما تبقى من استطاعة في قلبه المنهك. وطبعا لم يحضر أحد لينقذه. فلا أحد يعرف بوجوده، ولا أحد انتبه لاختفائه.

II

جرب الصبي، وهو بمفرده في الكهف، أن يتحرك ويبتعد عن الوتد المربوط إليه بالسلاسل. وقاس المسافة. وحينما كان يمشي يترنم بصوت خافت بلحن يشبه أغنية وحرص أن ينسجم مع إيقاع صخب السلاسل. ولم يكن ذلك صادرا عن عاطفة مفرحة. ولكن حاول دون فائدة أن يدحر الفضاء الخانق والفارغ والذي تمر به ساعات طويلة من الكآبة والظلام. وحينما طرقت سلاسله جدران الكهف، شاهد شرارة، وكانت أسعد دقيقة له طيلة أيام شبابه المعتم والفارغ. وبدأ يحن لرؤية هذا الضوء الشحيح والمفرح مجددا، فجر سلسلته مرارا وتكرار، وضرب بها الجدران والأرض، حتى لمعت شرارة أخرى، سمحت له بملاحظة حشرة صغيرة. ومنذ أن جاء إلى هذا الكهف عنوة، لم يشاهد غير "الشيء" فيه، ولم يكن متأكدا هل هو حي أم ميت، فنظره لم يسعفه على الرؤية الواضحة. لمح الحشرة لجزء من الثانية، أو لفترة خاطفة. وكانت تدب على الجدار بإصرار وبطء. وقبل أن تضرب السلسلة الصخرة، كانت الحشرة تزحف على الجدار، وبعد انطلاق الشرارة، ارتعبت قليلا، ثم تابعت طريقها في العتمة المألوفة بخطوات هادئة وبطيئة. كان كلاهما في كهف واحد، ولكن عالم الصبي وعالم الحشرة مختلفان. وحينما وجد الصبي في خاتمة المطاف كائنا حيا برفقته، تناسى أوجاعه، وتكهناته، وكل شيء عقد أمله عليه. ضرب الصبي سلسلته عدة مرات بالصخور، ولكنه لم يشاهد الحشرة مجددا. فانخرط بنحيب مرير لأول مرة. ولم يكن عويله يشبه صياح حانق وخائف، ولكن دموعه كانت تدل على الإحساس بعزلة موحشة - دموع مخلوق بشري.

III

أي صبي يصارع الحياة، ويعيشها، يتحول إلى رجل يافع. مع مرور الوقت، لاحظ الصبي أن السلسلة أصبحت أقصر نوعا ما. وحينما يمد ذراعيه وساقيه خلال سباته، يشعر بالفولاذ وهو يحفر في بدنه أو السلسلة وهي تشده فيستيقظ. وعندما تم جره إلى خارج الكهف لإلقائه في الهواء الساطع كان كأنه يمر من بين صفائح، وشعر، وهو يكافح ويقاوم، أن السلسة تكبح جماحه. وفي أحد الأيام حم القدر. سقط الصبي في الماء المتجلد بدءا من رأسه. فعضت السلسلة ساقيه وأوشكت أن تكسرهما، وغمسته عدة مرات في الماء ثم أخرجته منه. وفي آخر غطسة، غاص حتى القاع قبل جره إلى أعلى و عودته إلى ظلام الكهف. ومجددا غرس الشيء أداته الحادة والقاسية في رقبة الصبي. واعتقد الصبي أخيرا أنه انتهى. وشعر أن جلدة رقبته تتمزق والشيء الحاد والمصمم والمؤلم يحفر بين عظامه. وتوقع أن تنقسم رقبته إلى نصفين، فأطبق عينيه. وعندما استيقظ كان لا يزال حيا. ولم يمكنه تحريك رأسه أو ذراعيه أو ساقيه. واحتاج لفترة أطول بشكل ملحوظ ليسترد عافيته، ولم يجد قربه اللحم غير المطبوخ ولا الخضار كالسابق. فارتعد من الجوع والرعب وجلس القرفصاء في الظلام، وهو يفكر متى يعودون لبتر رأسه. ولكن الشيء لم يعاود الظهور لفترة محسوسة. وحينما حرك أخيرا أطرافه، أدرك أنه ليس طفلا عاجزا بعد الآن. فقد أصبح شابا ولديه القدرة على خلق قليل من بريق الأمل بمغادرة الكهف مستعينا بإمكاناته. وساعده هذا الاحتمال على تحريك أطرافه وبالتدريج تبلورت الخطة.

IV

مثل الأوقات السابقة جروه إلى الخارج، ومجددا وجد الشاب نفسه ملقى في الفضاء المفتوح مجددا. طار في الهواء، وقبض عليه الشيء بين فكيه. وبعد اختفاء الكهف وتنائيه مع الأفق، أرجح الشاب فجأة أعضاءه. كانت ردة فعل انعكاسية غير مخطط لها. ولكن الشيء لم يتوقع حركة الشاب. وعندما التفت السلاسل حول الصبي ضربت الشيء، فأفلتت منه صرخة لم يسمع مثلها الشاب من قبل، ووجد نفسه يسقط من براثنه. ويهوي في الفراغ. وارتطم بشيء قاس. وفقد وعيه. عندما استيقظ، كانت شمس حمراء معلقة فوق الغابة. وباعتبار أنه لم يشاهد ذلك لفترة طويلة، حدق الشاب بالشمس ولاحظ أن دمها الأحمر ينزف على الأفق. ثم وقف الشاب. وشعر أن كامل بدنه مشتت. ورأسه يؤلمه. ولكن لحسن حظه كان على قيد الحياة. كانت الحلقات لا تزال حول معصميه. والأصفاد حول كاحليه. والسلسلة المتصلة بهما غير معقودة وكانت تتدلى بحرية. والشيء الوحيد الذي يرتديه فوق بدنه هو تلك الحلقات والأصفاد. وعلى جسمه العاري، وذراعيه وساقيه وفقراته ورفوف أضلاعه، مائة وعشرون ندبة كبيرة مثلثة. التفت نحو الضوء القرمزي السائل الذي ينتشر في السماء، وبدأ يمشي بحركات بطيئة. لفترة طويلة، اعتاد الجلوس القرفصاء في كهف أو التخبط في الفراغ أو تحت سطح الماء. وكان أن يقف ويمشي على ساقيه مثل ذكريات قديمة من أيام الطفولة - حلم غير واضح يعود لفترة بعيدة. أضف لذلك الجروح الكثيرة حينما كان يهوي من السماء. كذلك إن الحلقات والأصفاد قيدت حركته. وعندما تعب، حاول أن ينحني ويحبو أو يقبض على غصن ليدعم نفسه ويتمكن من الوقوف قليلا، وليحاول الثبوت على قدميه، قبل أن يتعلم ببطء استعمال جسمه. ولم يكن يعلم مصدر اللحم الطازج الذي كان يتغذى عليه غالبا، ولكنه كان يعرف كيف يميز الخضار والفاكهة التي يمكن التهامها وقطفها من الأشجار. قطف ما يمكنه أن يبلغه بيديه وقضمه، وتابع المسير نحو المجهول. كان هذا منفذه للهرب. نعم تعب وغلبه الألم، ولكنه حر. ومع ذلك لم يكن يعلم إلى أين يذهب. ولكنه تابع بإصرار. ولم يكن يود الوقوع بالأسر مجددا. هذا لا يجب أن يحصل. فالعودة إلى ظلمات الكهف قد يعني موته. وهو متيقن من ذلك.

V

وحينما بلغ قرية، حدق به القرويون، متجمدين في مواضعهم. شاهدوا بدنه العاري، فغطت الأمهات عيون أولادهن، ولكن حالما شاهدن الندوب على ظهره، أغلقن أفواههن التي فتحنها للاحتجاج. ولم يقترب منه أحد. وكل ما جرى هو التحديق بعيون يملؤها الرعب. ولم يحاول أحد مد يد العون، ولكن بالمقابل لم يهرب أحد، وهو يلعنه، أو يطرده. وفي هذا الصمت المطبق والخانق تابعوا النظر بعيون واسعة.

كانت قد مرت فترة طويلة على آخر مرة قابل بها شخصا. وحتى حينها، لم يكن يلتقي مع عدة أشخاص بوقت واحد. ولم يكن يفضل مرأى أناس كثيرين يركزون انتباههم عليه. فوجوههم المتبلدة وعيونهم المفتوحة على وسعها والصمت المهيب الذي يخيم على كل شيء يكبح من إقدامه على التصرف.  وبينما كان يقف هناك يتأمل ما حوله، انصرف القرويون عنه الواحد بعد الآخر، واختفوا في دورهم. وبعد فترة، لم يتبق غير حفنة قليلة، ولكن احتفظ هؤلاء بمسافة عنه، وتابعوا التحديق والنظر بصمت، قبل أن يتواروا في دورهم أيضا. وسريعا ما صار وحيدا على تخوم القرية. ولم يسعفه ذكاؤه ماذا يفعل. في البداية كان وسط كثير من الناس والآن لا يوجد أحد. كان الجو براقا. لا جدارا حجريا يرسم حدود عالمه، ولا سلسلة مربوطة بوتد مغروس في الأرض. وفكر كيف كان يشعر بالأمان وهو معلق في الفراغ المتجلد ليلقى في الماء البارد لاحقا، ثم يعاد إلى الكهف. ولفترة وجيزة، افتقد الظلام المألوف في ذلك المكان. ثم فجأة احتشد الناس حوله من جديد. واحتفظوا بمسافة عنه كالسابق، جاؤوا مثنى وفرادى، وهم يحدقون به. وفي هذه المرة، كان الناس يتبادلون الكلام بهدوء فيما بينهم. ومر عليه وقت صعب وهو يقرأ ملامحهم، وتابعت أعدادهم الكبيرة بمحاصرته، وزادت من حيرته واضطراب أفعاله. ثم ارتفع صوت فوق زمجرة البشر يقول:"حسنا، حسنا. ابتعدوا عن طريقي من فضلكم. آه، لنبدأ، فهو هناك". جاء الصوت من رجل أصلع في متوسط العمر. ويقوده شاب عبر الحشد، وقد تابع الصخب والصياح وهو يقترب. وعندما وصل الرجل الأصلع إلى الطرف القريب من الشاب الفار من الكهف، همس بكلمة في أذن مرافقه الفتى، فاستدار وتوارى في الزحام. وتابع الكبير بالعمر صياحه قائلا أشياء مثل "هيا بنا" أو "آه، لنبدأ". وكان يقترب من الشاب الهارب. مد الشاب يده، وتراجع خطوة للخلف وهو بغاية الدهشة. ولكن الرجل الأصلع، ابتسم بعبث، واقترب منه ومد يده إلى السلسلة المتدلية من الأصفاد. وجرها بهدوء. قال:"حسنا. هيا بنا. لا يوجد شيء نراه. اذهب حيثما تشاء أنت حر". مرت عليه فترة طويلة لم يسمع خلالها صوتا بشريا لا يضره، كان شيئا غريبا بالنسبة له. ولم يفهم نصف الكلمات التي ذكرها الأصلع. ومثلما كان يشعر غريزيا بالخوف وهو في الكهف، كلما مد ذراعيه وساقيه المكبلة بالسلسلة، ارتاع الآن حينما جر الرجل سلسلته. بابتسامة دافئة على وجهه، تمسك الرجل بالسلسلة واقترب من الشاب ووضع يده على كتفه. وتوارت اليد البيضاء والممتلئة في تجاعيد شعر الشاب الكثيف والأشعث. وزحفت اليد نحو الندبة التي كانت على ظهره كما لو أنه يعرف هذا الجسم، وفي المكان الذي كان الشيء يمزق ويمتص، ضغط الرجل بقوة. جمد الشاب. والمخاوف التي انتابته حين كان الشيء يدخل في فقراته، والرعب المطبق من احتمال الموت، والألم المبرح - كل هذا فاض عليه وغمره مجددا. قال له الرجل بصوته العالي:"حسنا، حسنا، انظر، لا شيء يستحق. الجميع شاهدوك اليوم. هيا، ابتعدوا جانبا من فضلكم....". وجره الرجل من سلسلته عبر الزحام. وكانت يده لا تزال على رقبته. واستسلم الشاب للرجل لكنه لم يكبت أو يمنع صيحة اندلعت منه.

VI

قدم له الرجل الماء، والطعام، والثياب.

وباعتبار أنه لم يتوفر له في السابق غير الخضار واللحم غير المطبوخ للغذاء، بدأ الطعام المطهي يبدو له غريبا. ولكنه ما أن وضعه في فمه، لم يمكنه التوقف، وتابع حتى انتهى منه. وملأ بطنه وهز رأسه حينما انتبه لصوت معدني يطرق. وشاهد الرجل الأصلع يقترب من رسغيه ومعه أداة كبيرة، صرخ وقاوم أيدي الرجال التي ثبتته بالأرض، دون فائدة. لكن الأصلع قطع الأغلال من رسغ الشاب الأيسر، والأصفاد من كاحليه. وترك أغلال الرسغ الأيمن لسبب ما. ولأنه خلص السلسلة من الحلقة، لم تكن تتدلى بشكل عجيب مثل حالها في السابق. نظر الشاب إلى رسغيه وكاحليه. كان إحساسه بالفولاذ الثقيل الذي اعتاد عليه واضحا فوق جسمه الجريح والمليء بالندوب والمتورم في كل مكان لمسه المعدن. لذلك استغرب من الحرية المفاجئة في ذراعيه وساقيه.

قال له:"ارتح قليلا. هل تريد أن ترتاح؟. عليك أن تكسب قوتك منذ الغد".

ولسبب من الأسباب، كان الرجل الأصلع فرحا وهو يتكلم مع تكشيرة عريضة. ولم يفهم الشاب شيئا. وشعر الرجل أن الشاب لا يفهمه، فابتسم ابتسامة أعرض، وأغلق باب الكوخ الصغير الذي يأوي الشاب فيه. جلس الشاب بعض الوقت بهدوء وسكينة. في البداية غلبه الخوف، ولكن لم يحدث شيء، فاسترخى بالتدريج. وجد فراشا من القش على أرض الكوخ. ولكنه في السابق، حسب ما يذكر، لم يكن يسند بدنه العاري إلا على صخر أسود. لذلك كان البساط الرقيق أنعم من القطن المندوف. كان الكوخ معتما، ولكنه ليس مثل الظلام المطبق في الكهف. وكان الهواء دافئا وعذبا، ومعطرا قليلا برائحة الأعشاب والتراب. ومن بين قش السقف المعلق، كانت النجوم  تلمع في السماء. فكر كيف ضرب سلسلته بالجدران في الكهف، فقط ليشاهد شرارة يتيمة. هل ضرب عمالقة محجوزون في كهف السماء الليلية سلاسلهم بجدار افتراضي طويل لدرجة لا يمكن تصورها لتقدح هذه النجوم؟ هل فعلوا ذلك طلبا للنجدة؟ أو ليتحملوا بطريقة ما الفراغ والظلام؟ لا توجد طريقة للتأكد. مهما كان سبب طرق سلاسلهم بالجدران، هؤلاء العمالقة الأسرى، مثل حشرة كانت تزحف قربه، لا يمكنهم إلا إلقاء نظرة باردة. وتلك كانت آخر فكرة خطرت له قبل أن ينام.

Vii

أيقظه الأصلع باكرا في الصباح.  كان يرتدي عدة طبقات من الثياب. وأهاب بالشاب أن يغسل جسمه وشعره وأن يقص جدائله. وكلما قاوم الشاب مرعوبا، كان الأصلع يضغط بيده البدينة البيضاء على الندبة الموجودة عند أسفل الرقبة. كان غريبا أن يعرف كيف يتحكم بالشاب. وبعد الاغتسال وقص الشعر، قام أتباعه بتدليك جسم الشاب بالزيوت وقدموا له سروالا مزركشا. لم يكن لديه أي شيء يرتديه ليستر صدره، ولذلك كانت الندوب الموزعة على ذراعيه وجذعه واضحة للعيان. وتسببت الزيوت للندوب المثلثة أن تلمع بشكل وشم مشؤوم. وبعد الانتهاء من تحضيره، ثبت الأصلع سلسلة بقيد يد الشاب اليمنى. فالسلسلة السابقة صبغها الصدأ بلون أحمر، وأصبحت ثقيلة وغير نافعة، ولكن هذه السلسلة الجديدة، كانت قوية، وخفيفة، ولها لمعان أسود في الشمس. دفعه اللون الأسود للتفكير بالشيء الذي عانى منه، وسد أمامه باب الكهف بما عليه من ريش قاس. بعد أن أمسك الأصلع السلسلة برشاقة، عاد الشاب لرشده، وبدأ يتبع التعليمات وينفذ ما يؤمر به.

بلغا في النهاية، بعد أن قطعا على الأقدام، ساحة عريضة وسط قرية. أشار الرجل  بيده، فحمل أتباعه ألواحا من الخشب إلى مركز الساحة، وصنعوا سورا. كان الأصلع يقبض على السلسلة. ابتسم وهو يراقبهم يؤدون عملهم كحاله دائما.  وجاء القرويون عند اكتمال السور. وكالسابق تابع الشاب مراقبة الحشد المتسائل. وبعد أن حاصرهم الناس تماما، خلص الأصلع السلسلة من قيد الشاب، ودفعه برشاقة وقال:"والآن هيا إلى القتال". لم يفهمه الشاب. فوقف عند المدخل، في فتحة من السور الخشبي، ولم يسعه إلا النظر إلى الوجوه المتجمعة حوله، بالإضافة لوجه الأصلع. تجهم الرجل وقال:"أيها المغفل. قاتل. عض. اضرب". ودفعه بقوة إلى المكان الخالي داخل السور. وزمجر الناس المحيطون بالسور بابتهاج. كان الصوت غريبا وثاقبا بالنسبة للشاب، فانطوى على نفسه مرعوبا. وحينما رفع رأسه، وجد أنه يواجه كلبا كبيرا أسود له رغوة على فمه، ونظرة شرسة في عينيه. 

ومن الطبيعي أنه لم تكن لديه فكرة أن هذا كلب. فقد مرت فترة سحيقة منذ أن قابل حيوانا، سواء هو متوحش أو أليف. ولكن عينيه المحمرتين وأنيابه اللماعة التي تبرز من بين الزبد سمحت له أن يشعر غريزيا بما يحدث. نظر الشاب وراءه. كانت الثغرة التي دفعه فيها الأصلع قد أغلقت. لم يرفع عينيه عن نظرة الكلب الدموية، ولكنه تنحى جانبا، خطوة بعد خطوة وببطء. ثم قام بخطوة إضافية. وما أن التفت برأسه بحثا عن مفر، قفز الكلب الأسود بسكون بالغ على رقبة الشاب. وظهرت أنياب الكلب المقوسة في فمه المفغور، واقتربت منه، وتوقع الصبي صدمة ناجمة عن العظام والمفاصل التي تتغلغل في جسمه. ومع أن القفزة المؤلمة جعلته يتهيأ لينكسر إلى آلاف القطع، استطاع أن يسمع وراء القفزة الواحدة صوت كل كسر وتمزق على حدة، الواحد بعد الآخر. ولكن أسنان الكلب ومخالبه،  التي توجهت إلى بلعومه، المتحمسة لتمزيق جسمه، ارتطمت بشيء قاس، فسقط الكلب، وأحبط هجومه. تدحرج على الأرض، ثم تمالك نفسه، وبدأ يزمجر. وقف الشاب ليواجه نظرة الكلب، ولاحظ في عينيه الدمويتين بعض التردد. كان الكلب مريضا. وكان المرض في أعماق دماغه يملي عليه تصرفاته. فتابع الكلب بإفراز الزبد من فمه، ونبح وهو يقفز على الشاب مجددا. ولا يتذكر ماذا جرى بعد ذلك. وحينما استعاد وعيه كان الكلب الضخم الأسود مجرد كومة من الجلد والشعر المبلول بالدم، وكان مرميا جانبا على الأرض الغبراء. زمجر المشاهدون. هناك من غادر بسرعة أو استداروا و تقيأوا. ومن لم يتقيأ أو يغادر، كان مثل الكلب المريض، قبيل موته، عيونه محمرة ووامضة، ويصفق بعنف، ويصيح صيحات غير مفهومة وصاخبة. دخل الأصلع إلى الساحة وانحنى. وضج الحضور بالتصفيق والاستحسان. ووقف الشاب مذهولا، فجره الرجل من ذراعه وقاده بعيدا. وحينما اقترب أتباع الأصلع من الشاب وبدأوا يجففونه بالمناشف، انتبه أنه مغطى بعرقه، وبدم الكلب. قال الأصلع مع تكشيرة من وجهه:"أحسنت عملا". كان مرتاحا لشيء ما، تابع يقول:"أديت عملا جيدا. واصل ذلك. والأفضل أن تظهر قدرا أكبر من التماسك  في المرة القادمة، اتفقنا؟".

رفع الرجل يده الممتلئة البيضاء، وضرب بها قذال رقبة الشاب بتحبب. وضغطت راحته بالضبط على الندبة، ولكن بسرعة ورشاقة، فلم يرتعد الشاب كثيرا كما في السابق. وقدم له الرجال الذين جففوا العرق والدم الماء واللحم المقدد. جرع الماء بعصبية، وقضم اللحمة المالحة والقاسية، وفكر بلمسة الرجل الخفيفة والصداقية المختلفة، وقارنها بلمسته الفظة فوق الندبة حينما قاده إلى الخارج  أول مرة. ولم يفهم لماذا جرى ذلك. ولكن بشكل من الأشكال أدرك أنه تلقى للتو مجاملة من شخص غريب وللمرة الأولى.

VIII

وتنقل من قرية إلى قرية، ليشترك بالقتال. ولم يفهم الشاب ما يحصل، ولكنه كان مقاتلا جسورا. ونافس كلبا ضخما آخر أو ذئبا أسيرا، وأحيانا خنزيرا وحشيا. وفي مرة من المرات توجب عليه مصارعة دب. ومهما كان منافسه لم يتذكر من المعارك غير الرعب والتوتر، والألم الذي يكسر جسمه إلى أجزاء. وصوت انكساره المدوي. ثم وعلى نحو غريب يعود إلى وعيه ويجد الوحش ملقى على الأرض برقبة مكسورة أو بطن مفتوحة، وأمعاؤه مكومة على الأرض خارج بطنه. كان يقول له الأصلع: “تماسك يا عزيزي الصغير، تماسك". ويرى وجهه الشاحب والممتلئ مشدودا بضحكة من الأذن إلى الأذن. ويغرد عوضا عن أن يتكلم كما لو أنها صلاة فيقول:"كل شيء رائع وستمزق عدوك مهما كان متوحشا، ولكن لا تفعل ذلك مع إنسان، وإلا ستجد نفسك لاحقا بورطة يصعب حلها". ثم ينظر الرجل إلى وجه الشاب الغفل والمتأمل، ويلقي له بقطعة لحم مقدد أخرى. ويقول له:"يا لك من جندي أبله... لا بد من طريقة لتعليمك لتفهم ما أقول".  وفي أحد الأيام أحضر الرجل برفقته رجلا آخر له نفس الصلعة البراقة لكن عضلاته كانت بحجم مضاعف تقريبا. كان حليقا تماما - الشعر واللحية والحاجبان - وهمس رجل العضلات ذو الوجه البراق بشيء للأصلع قبل دخول الباحة ووقف بمواجهة الشاب. نظر الشاب ببساطة للرجل دون أن يعلم المطلوب منه. كانت الوحوش التي قتلها بنظرات دموية، وينتصب شعرها، أو تسيل الرغوة من فمها، ولها مخالب ظاهرة. ونيتها بالهجوم واضحة. ولا يوجد شيء تفعله غير التنحي عن طريقها أو أن تدافع عن نفسك. ولكن مصارعة رجل شيء مختلف كليا. كان الرجل الحليق وذو العضلات مقطبا بوجهه مثل الأصلع وقد وسع ما بين ذراعيه بحركة ودية وهو ينظر للشاب.

قال له: “تعال يا ولد. هيا بنا نلهو قليلا". ولم يفهم الشاب المعنى. تردد. نظر لوجه الرجل المبتسم، ثم نظر إلى الأصلع الواقف وراء السور، وعيناه عليهما. وتابع الأصلع تقطيب وجهه. وصاح: “اهجم يا أبله. اهجم عليه". ورسم إشارة لكمة بيديه المضمومتين والبدينتين والبيضاوين. على الأقل كان الشاب يفهم معنى تلك الإشارة. ولكن هذه أول مرة يقاتل بها إنسانا. وفي البداية شعر بشيء يلجمه، وفي النهاية تبع التعليمات وكر على الرجل القوي الأصلع. تنحى الرجل جانبا وتحاشاه بجسمه  القوي. فاستدار الشاب وكر مجددا. ولكن الرجل الكبير ضربه براحة يده اليسرى بقوة. ومن جراء ذلك سقط الشاب على الأرض. وحمله رجل العضلات من قفا رقبته. جمد بمكانه في اللحظة التي ضغط بها رجل العضلات على الندبة المحفورة في قذاله، وفقد القدرة على الحركة. قطب الرجل القوي وجهه. وألقى الشاب مثل دمية. ارتطم الشاب بالسور الخشبي. واسود بصره لبعض الوقت. وما أن استعاد وعيه، حاول الوقوف مجددا، وانتبه أن أنفه ينزف. بعد أن نهض حاول أن يستعيد وعيه فنفض رأسه. وركز عينيه على الرجل القوي الذي أصبح أمامه. ولم يكن لدى الشاب وقت يكفي للتفكير. فقد مد منافسه قبضته وضرب بها صدغ الشاب بحركة تشبه من يضرب رأس ولد صغير. تعثر الشاب وسقط على الأرض. لفظ الرمل والدم من فمه، وعاود الوقوف. لم تمر عليه مصارعة كهذه من قبل. لذلك هجم بسخط على الرجل و قبضتاه مرفوعتان. وكالسابق تجنبه الرجل بسهولة وضغط على ندبته فتداعى الشاب مجددا. وشعر أنه أصبح مهزلة فتضاعف غضبه. وأسرع نحو الرجل وبذل محاولات يائسة ليلطمه لكنه أتعب نفسه فقط. تلوث وجه الشاب بالدم والرمل، وتمايل وهو يقف. وكان يتنفس بصعوبة. وكان الرجل ذو العضلات ساخطا وهو ينظر نحوه. وقال: “أن تخطئ وتضرب الهواء أصعب من أن تصيب بعدة لكمات. فليس الجسم وحده ما يتعب، ولكن العقل أيضا". ولم يفهم الشاب كلامه. وكل ما رآه أن الرجل يسخر منه. وتزايد حنقه فنسي تعبه واختناق أنفاسه. وكور قبضتي يديه، وهجم مرة أخرى. وتحاشى الرجل من جديد هجمة الشاب. وانتظر أن يتهاوى، ثم ضغط بركبته على ظهره ووضع قبضته على رقبة الشاب. وما أن لامست قبضته الشاب، وبالأخص عقدة الأصبع الثالث، وضغطت على قذاله، حتى سمع من مكان ما صوت تكسير خافت. وتوقف قبل أن تثقب قبضته رقبة الشاب. التقط الشاب أنفاسه وانتظر. وتوقف الصوت. ولم يحدث شيء. ثم تدريجيا وقف الرجل. ومد يده غير أن الشاب لم يقبلها. ووقف الشاب معتمدا على نفسه. كشر الرجل القوي ثانية حينما شاهد ذلك. وسمع الشاب الرجلين الآخرين يتكلمان وهو يشرب الماء ويقضم اللحم الجاف. كانا يقولان "ما دام لا يعلم أن خصمه يهاجمه..." "تقول لو بمقدورنا تأجيل ذلك بطريقة ما..." "فكر بما قد يقود لنتيجة خاطئة..." "كيف؟ أنا أوضح لك، لا يمكن أن تفشل...".

وخلال كلامهما، كان الرجلان يبتسمان للشاب كلما تلاقت النظرات، وكما لو أنهما اتفقا مسبقا. ألقى له الأصلع الكبير قطعة أخرى من اللحم. وأشار الرجل القوي له كي يشرب. وحينما شاهد القوي ذو العضلات حيرة الشاب ضحك بصوت مرتفع.

IX

بعد عدة أيام، ذهب الشاب لعراك آخر. ولكن قبل أن يدخل في الباحة الفارغة، قدم له الأصلع سائلا في قراب من الجلد. فتحه دون تفكير، وفاحت منه رائحة نفاذة نحى وجهه عنها. السائل الوحيد الذي يعرفه هو الماء. ولكن ما يوجد في الجراب لم يكن ماء بكل تأكيد.

حدق بالأصلع. وكعهده دائما كان يوسع من تبرم وجهه، وفي هذه المرة أشار له إشارة الشرب، وألقى برأسه نحو الخلف ويداه قرب فمه. قال له: “اشرب، سينفعك. عليك أن تحصد الكثير من النقود، مفهوم؟". تردد الشاب. اقترب الرجل وقبض على رقبته. وحينما فقد الشاب مرونته، سكب الرجل السائل الحارق في فمه. وسعل الشاب وتسارعت أنفاسه،   ولكن الرجل تدبر أمر سكب نصف الجراب في حلقه. قال له: “تمام. والآن اهجم. هيا". كان ملوثا والجعبة لا تزال بيده، فلطم الرجل قفا الشاب ودفعه نحو الباحة.

وفي هذه المرة، كان خصم الشاب إنسانا. رجل يافع بتعابير قوية. شعره مقصوص، وندبة طويلة على جبينه، وعيناه طويلتان، بشكل شقين غاضبين. واقترب هذا الشاب المتوحش نحو الشاب. وفكر الشاب أنه هدف للهجوم، فانتفض بشكل غريزي. ولكن بمجرد اقتراب عدوه لمسافة ضيقة، قفز بعيدا. وباعد ما بين ساقيه، تمايل للأمام والخلف. و اقترب لمسافة ذراع و قفز للخلف، واقترب وقفز للخلف عدة مرات. وانتاب الشاب الدوار وهو يرى الرجل يؤدي هذه الحركة. وفي وسط تمايل خصمه وهو على مبعدة عنه وجه له لكمة على عظام خده. ولم يحاول الشاب تجنبه. ولا ملاقاة الضربة. وسقط ببلادة على الأرض. وزمجر له الناس المحيطون بالسور، فوقف. وهاجمه خصمه وركله على بطنه، بقوة. ولم يسقط بل مد ذراعيه، غير أن الشراب الذي تجرعه اندلق فجأة من معدته. ركله خصمه مجددا، فترنح إلى الأمام وتقيأ ما تبقى.  تجمع الماء الأخضر على الأرض ولوث فمه. وهدر الحشد لسبب ما.  كافح للوقوف على قدميه. ولكن خصمه هذه المرة، لم يهاجم وانتظره فقط - وهو يتمايل للأمام والخلف مثل سابق عهده، ويراقبه. حدق له الشاب. كان قد تقيأ. وارتاحت أمعاؤه. وزال الدوار. وعاودته الثقة بالنفس، فاستعمل قبضته بسرعة حالما اقترب منه خصمه. ولكن الخصم كان أسرع. وتحرك الرجل اليافع وعلى وجهه انطباعات قاسية، وانزلق تقريبا على قدميه، وانحدر تحت ذراع الشاب، ولطم بلعومه بالإلهام والسبابة لطمة سريعة ومؤثرة. وخرجت الريح منه وترنح إلى الأمام. واغتنم خصمه الفرصة وتحرك جانبا، وعمد لطعن الشاب بلكمة من كوعه على رقبته. وقبل أن يصيبه كوع خصمه، سمع الشاب صوت صخور تتحطم وحديد يبقر ويجرح. ولسبب ما لم يشعر بالألم المبرح. وأصاب الرجل بكوعه شيئا صلبا أدى لكسر مفاصل الكوع وسمع الشاب صوت الكسر ثم صراخ الرجل. قفز الشاب على قدميه. ومد ذراعه الأيمن ليهاجم، وكان يذكر وجود قيد على معصمه الأيسر. ولذلك خفض يمناه، وقبض بيسراه على رقبة خصمه. واستطالت يساره أمامه ولاحظ أنها مغطاة بشيء صلب براق، مثل حراشف رمادية، وظهرت أصابعه ويده كأنها منحوتة من الصخر. لم تكن تلك اليد الرمادية بشرية، والتفت حول رقبة الرجل العنيف، وعصرتها.

كل هذه الأمور جرت ببطء غريب كان يشعر به. فيده رفعت يد خصمه ولفتها حول رقبته، وبدا وجه الرجل على وشك أن ينفجر. امتقع أولا بلون أحمر، ثم أصبح أبيض، وسريعا صبغه لون أزرق. وانتبه الشاب لهذه التبدلات كما لو أنه يشاهد المعركة ولا يشارك بها. أما خصمه، فقد كان يشجعه رجل عجوز بشعر أبيض. وقد قفز إلى الباحة. وتبعه الأصلع. وهذه أول مرة يشاهد الشاب الأصلع دون ابتسامته. ولم يفهم بماذا يصرخ الحضور وماذا يقولون له، ولكنه اتبع تعليمات الأصلع، وأفلت خصمه. تباعدت أصابعه وانبسطت الواحد بعد الآخر، بطريقة بطيئة وعجيبة. وتباعدت عينا خصمه بألم ولم يشاهد الشاب فيهما غير اللون الأبيض، و بعد ذلك تألم وتهاوى على الأرض. وتابع العجوز ذو الشعر الأبيض الصياح وهو يجر الخصم خارج الحلبة. وطوال الوقت، كان المشاهدون هائجين كالمجانين، ويصيحون دون وعي. بقي وحده في الباحة، يحدق بالفوضى التي اجتاحت ما وراء الحلقة. وجاء الأصلع ثانية، وقبض على يمينه، ورفع ذراعه. وانطلق هدير عاصف من الحشود وتبعه إلقاء شيء صغير براق في الحلبة. كان الرجل مبتسما وهو يلتقط هذه الأشياء البراقة بينما الشاب ينظر للأسفل نحو يديه. إنهما يداه الطبيعيتان. ذراعه عادت له كما كانت. في تلك اللحظة، أمكنه أن يربط صوت التكسير، وألم العظام المبرح، والحراشف الرمادية المتحجرة التي ظهرت من الندبة المثلثة وانتشرت على طول أطرافه وظهره وأضلاعه. ولم يمكنه استيعاب ما أدركه تماما، ولكن تكون لديه إحساس أنه وجد الجواب الحاسم على سؤال مهم كان يشغل باله. دس الأصلع في جعبة حول وسطه القطع الصغيرة والبراقة مع قطع ألقاها الناس ولا تزال تملأ حفنتيه وهو يقود الشاب خارج الباحة. وبطرفة عين حزم أتباع الأصلع أشياءهم وغادروا القرية. ومع أنهم كانوا مسرعين اتسعت ابتسامة الأصلع. وفي الفندق الذي نزلوا فيه، بعد رحلة طويلة، وضعوا أمتعتهم في غرفهم، وتناولوا وجبة عشاء لذيذ. وفي العربة المربوطة في الخارج، نام الشاب على كومة من القش، فوق رف الحقائب. ثم هزه شيء ليستيقظ. كان الأصلع بربط سلسلة بالقيد على رسغه الأيمن، وثبت السلسلة بشيء فوق رأسه. وحينما حاول النهوض، ضغط الرجل على رقبته. فجلس الشاب باستسلام في الأسفل. أمسك الرجل طبقا وقال: “اشرب". خفض الشاب رأسه على الطبق، ثم دون قصد ابتعد. كان يشبه المادة الخضراء التي شربها في ذلك الصباح ولكن كانت برائحة حادة جدا. وعاوده الشعور بالغثيان والدوار فقطب جبينه. قبض الرجل على رقبته وصاح: “اشرب". ودفع وجهه في الطبق. وجاهدا حاول الشاب أن يقاوم بذراعه الأيسر. ولكن السلسلة المتدلية من رسغه الأيمن بصوت مثير للأعصاب. وهذا كل ما حصل. وبكل قواه قبض الرجل على رقبة الشاب بيد واحدة وقرب محتويات الطبق من فمه باليد الأخرى، وأجبره على الشرب. وهزت الشاب رعشات عنيفة فسعل بقوة، ولكن كالسابق، نصف السائل مر في بلعومه. نظر الأصلع نحوه بلا تعابير، وهو يسعل ويتمتم قائلا: “إن لم تشرب هذا الدواء من قبل، قد تقتل ذلك اللعين، مفهوم؟". كانت لهجته متبدلة وحادة فنظر له الشاب متسائلا. قال له: “كنت محظوظا لأن ذلك القذر لم يمت، واحتفظنا بنقودنا، وغادرنا. فكر بما قد يحصل لو قتلته. ستنتهي. هل تسمعني؟".

وتابع الشاب النظر إليه دون جواب. ولطمت يد الرجل وجه الشاب، بقوة. وصاح مجددا:"هل تسمعني؟". صاح مجددا. وجعله تلقيه الضرب بلا سبب غاضبا، ولكن لم يسعه تحريك نفسه. احمر وجهه، لكن كل أطرافه كانت خائرة. قال:"عليك أن تأكل ما أقدمه لك منذ الآن، حسنا؟. ولا تلفظه وتتذاكى". نطق كلماته الأخيرة، وتحرك ببطء، وغادر العربة وعاد إلى الفندق.

X

وحيثما قدم له الأصلع السائل الغريب ليشرب منه، وأجبره على مصارعة الرجال، كان يزداد شعوره باليأس والهوان. لم يعد يتقيأ من السائل المر، ولكن تضاعف الدوار والغثيان. كان يكبح القيء، ولكنه يترنح على قدميه في الساحة، ويشعر أنه عرضة لمطر من الضربات. وكان جسمه يتدهور بالتأكيد، وهذا يعني أن سرعة تحرره من أثر السائل يتباطأ. وطبعا كان يعلم أن الحراشف ستبزغ من الندوب المتبقية في آخر لحظة، وتحمي جسمه من الضرر. ولم يكن قادرا على التفكير بوضوح، ووسائل الدفاع تلك كانت بطيئة بالعودة والتأثير، وبتدهور قوته والضربات التي يتلقاها جسمه، لم يكن قادرا على القتال بالقوة التي امتلكها في السابق. اعتقد أنه سيموت في النهاية وذلك يوم واجه عملاقا شاحبا بابتسامة هندسية تقريبا. ولونه أبيض، وعيناه محمرتان. كان العملاق بعينيه المحمرتين مثل قطة تلعب بفأر. فقد ضربه على كل شبر من جسمه وجعل المتفرجين بحالة غليان. أحيانا كان العملاق يقوم بحركة عدوانية، ويحاول الشاب بسذاجة أن يرد عليه. ولكن العملاق يتنحى من طريقه في آخر لحظة. و ينحني أمام الحضور الذي يحييه بالتصفيق. وكان العملاق الأبيض بعينيه الحمراوين ينحني بروح منبسطة واثقة. وما أن تأخذ المعركة منحى لا تلوح له نهاية، يحاول العملاق أن يوجه الضربة القاضية للشاب المترنح، الذي قارب على الإغماء. ويتذكر الشاب لاحقا أنه حينها تنمو له على ظهره ما يشبه أجنحة سوداء، ويرمي العملاق الذي يعمد لخنق بلعومه. ويطير العملاق من الباحة، ويزمجر الحضور مستحسنين هذه الانعطافة غير المتوقعة. وتختفي الأطراف التي تشبه الأجنحة بغضون لحظة، ويشعر الشاب بالدم يغور من وجهه فيما هو يخبو. وعلى الفور أسرع نحوه الأصلع، وقبض على ذراعه بيد واحدة ووضع الثانية وراء ظهره كي لا ينهار. ثم رفع يد الشاب و انحنى للمشاهدين وجمع النقود التي أمطرها الحاضرون عليهما وحاول الشاب أن لا يقع أو يتقيأ، كان العالم يدور من حوله. وآلمته بطنه كأنه على وشك أن ينثني وينفجر. وفي العربة وهما يغادران القرية، أحصى الأصلع نقوده وضحك. قال:"نعم، هذه هي الروح العالية، واصل على هذا المنوال كما جرى اليوم. حين تبدو أنك وصلت للنهاية ثم.. بوم. وتلك الأجنحة. كيف تخرج؟. ما هو سرك؟. ولكن من يهتم، فقط تابع بهذا الأسلوب". لم يكن لدى الشاب فكرة عما يقول الأصلع. فهو بلا قدرة على الفهم أو التركيز. وكلما ارتجفت العربة، كانت بطنه كأنها تففز، وكل دقة من قلبه تسبب له ألما يشبه شيئا ينتفخ في رأسه. وفي تلك الليلة، حدق الشاب بمعصمه الأيمن، المربوط بغرفة الحقائب في العربة بواسطة سلسلة، واعتقد أنه بحاجة للهرب مجددا.

Xi

لم يكن من السهل انتظار فرصة. من الصباح وحتى المساء، كان الشاب محاصرا بالأصلع وعصابته، وفي الليل كانوا ينامون جميعا في العربة. في الأيام التي يكسب بها النقود، يبقى وحده في العربة ويذهب الآخرون للشراب، ولكن يكون معصمه الأيمن موثقا بغرفة الحقائب. وكان  يزداد وهنه وضعفه. وكلما وقف بعد الجلوس لفترة قصيرة أو برز من مكان مظلم إلى مكان مضاء، يدور العالم من حوله. وخلال القتال يشعر أنه يترنح لفترة وجيزة، بينما خصمه يوجه له اللكمات القوية، ثم يغمى عليه كأنه ميت ويزمجر له المشاهدون ساخرين. ولذلك امتنع الأصلع عن تقديم الدواء له. غير أن جسمه كان قد لحق به الضرر. وحتى وهو يبذل قصارى جهده، ويحاول كبت قيئه، كان يجبر على النزال دائما. وحينما لم يعد بمقدوره الوقوف منتصبا دون معونة، انتهى منه الأصلع. ومهما ضربه أو ركله أو ضغط على رقبته، كان لا ينهض. بصق عليه الأصلع وطلب من أحد معاونيه أن يحمله على كتفيه حتى التلال. وبعد أن قطع المعاون مسافة في الغابة، تركه لشأنه تحت شجرة واختفى. واستلقى الشاب على الأرض وحدق بالسماء. ومرت رقعة من السماء الزرقاء من بين غطاء أشجار كثيفة. وحينما استلقى هناك، ونظر بالبساط الأزرق غير المتحرك، استنشق عطر الأوراق المتساقطة، فانحسر غثيانه الهادر المتدفق دون نهاية. وغمره شعور حالم وبطيء حيث كان يستلقي هامدا تماما. وتحول اللون الأزرق فوقه إلى فضي. ثم رمادي، وبدأ المطر يهطل. وتهدلت الأوراق التي تغطي الأرض وتدثر جسمه بتأثير قطرات المطر. كان ملمس المطر باردا. وبزيادة الغزارة، ورائحة رطوبة الأرض والأوراق عاوده الغثيان. ارتعش وكاد أن يسقط على الأرض، وهو يجلس فجأة ليتقيأ وكأن كل جوفه يخرج منه. وبكل ما تبقى من قوة لديه في جسمه المنهك، تقيأ لفترة طويلة حتى لم يبق شيء في داخله.  وبعد أن انتهى، رفع رأسه ونظر بالسماء حيث كان المطر يهطل. وضرب المطر وجهه وانزلق في فمه فشربه. كان ماء المطر حلو المذاق ومنعشا. نهض على قدميه. رأى أن الطقس بارد. غير أن الرجفة والألم اللذين خنقا بطنه تضاءلا ثم سرعان ما تلاشيا. نظر بالاتجاه المعاكس إلى المعاون الذي أتى به واختفى، وبدأ يمشي.

XII

تجول الشاب في الغابة الجبلية لأربعة أيام. عدا ماء المطر وبعض الأعشاب، لم يتناول طعاما، وتابع المشي لفترة طويلة.  حينما ظهر من الغابة في مساء رابع يوم اكتشف قرية، وأول فكرة خامرته لم تكن السعادة بنجاته، ولكن أن القرية مألوفة لديه بشكل ما. كانت هناك صخرة قرب مدخل القرية، الأرض الخضراء البنية، والأشجار ذات اللحاء الرمادي، وصف البيوت. كلها حركت لديه إحساسا عاما أنه مر من هنا. ولكن لماذا كان مشهد القرية مفهوما وأين شاهده من قبل، لم يجد الفرصة ليفكر بذلك. ولأربعة أيام لم يتناول الطعام، ولم يرقد بشكل مناسب. والشيء الذي احتاج له في الوقت الحاضر هو الطعام والدفء. دخل إلى القرية المألوفة بطريقة عجيبة. كان لا يزال يضع الثياب التي ارتداها في الساحة. والشيء الوحيد الذي كان على جسمه هو سروال مزركش وعريض، قدموه له، ولكنه بلا حذاء ولا معطف، وكانت الندوب الكثيرة المحفورة على ظهره وذراعيه، مرئية. كانت الشمس تذوب وتتحول إلى ظلال حمراء متدرجة تترسب فوق السحب المنتشرة على طول الأفق. وارتفع الدخان من بيوت القرية في وقت تحضير وجبات المساء. وجعلت رائحة الطهي معدته تقفز وترتعش. دخل في زقاق يمر بين البيوت. وتوقف القرويون، العائدون من عملهم، في طريقهم لينظروا إليه. وفي الصمت المشدود الذي رافق نظراتهم المرعوبة، تذكر الشاب يوم هربه من الشيء والكهف، والتعرف على عالم البشر. ولكن بعكس تلك الفترة لا يوجد الآن رجل عابس يجري وراءه ويقبض على يده. لم يقدم له أحد الطعام أو الحنان. وحينما حاول الدخول في البيوت، كانت النساء تنظرن إلى الندوب الموزعة على قفصه الصدري ويصرخن. وطارده المزارعون الذين يحملون المذاري أو الرفوش، بوجوه عابسة. لم يرحب به أحد. وغطى ما بمقدوره من الندوب بذراعيه وأسرع بالابتعاد. بعد أن هرب من القرية، تنهد. هل يذهب إلى الجبال؟. لم يكن يعلم كيف يمكن للمرء أن يعيش في الجبال أو الغابة. كيف يشعل النار، وكيف يحضر الطعام - ولم يعلم من أين يجب أن يبدأ؟. ولكنه عاش في السابق على اللحم غير المطبوخ والخضار. ولم يكن هناك أي سبب كي لا يتابع بنفس الطريقة. ولم يكن هناك أي فكرة لديه عن مصيره إن وجد نفسه في القرية مجددا. عاد إلى الغابة الكثيفة وبدأ يمشي. بعد مسافة طويلة بين الأشجار، شاهد في الظلام شيئا يشبه سقفا مستديرا يدل على مأوى. كان سقفا. أضف لذلك كان تحته بيت كامل. ولكن حين انتبه أنه غير مضاء رغم الظلام، اعتقد أنه مهجور. وغمرته السعادة. فهذا المكان يصلح للنوم. كان لا يزال جائعا، والليل مخيم حوله، وتوجب عليه أن يصرف ليلته هنا ثم يخرج ليسعى وراء الطعام حالما تشرق الشمس. اقترب من الكوخ وفتح الباب. انبعث صوت صرير. ثم انفتح. وفي الظلام اقترب منه شيء أبيض. فاجأه ذلك. ترنح للخلف وسقط على ظهره. سأله الأبيض:"أخي؟". ولم يعرف بماذا يرد.

XIII

مدت المرأة ذراعها وتحسست ما حولها والفراغ الذي أمامها. سألته ثانية: “أخي؟".

حاول أن يهدأ. ووقف بالتدريج. اقتربت المرأة وقالت:"يا أخي؟. لماذا لا تقول أي شيء؟". وضعت أصابعها على خده. فتجمد بمكانه. دون تردد اقتربت المرأة منه وحضنت وجهه. فأطبق عينيه. وانتهت أعذب لحظة في حياته بصيحة من المرأة. سألته: “ومن تكون؟". وأرعبها صراخه.  لوحت المرأة أمامها في الفراغ وهي تصيح: “لماذا أنت هنا. وماذا جرى لأخي".

وفي خضم هذا الاضطراب، قبض على معصمي المرأة المهتاجة. صاحت المرأة. فلفها حول نفسها، وسد فمها. قاومته، فجرها إلى البيت. وما أن تجاوزا العتبة، توقفت فجأة عن الممانعة. وأدهشه ذلك فتوقف بخط مساره أيضا. همست المرأة تقول: “أطلقني. لن أصيح. سأنفذ أوامرك. فقط اتركني". فحررها. رتبت المرأة نفسها. وتحسست ما حولها بيديها وابتعدت عنه. سألت بصوت منخفض وبارد: “ماذا تريد مني؟ ماذا صنعت بأخي؟". ولم يكن الشاب يعرف من هو هذا الأخ. وكذلك لم يحضر ليضرها. وأراد أن يؤكد لها ذلك، ولكن لم يسعفه الكلام، فاقترب خطوة منها. وتعثر بشيء ما وفقد توازنه. وصاح من المفاجأة. وفي الظلام المخيم ضربه على رأسه شيء صلب. ففقد وعيه.

XIV

وحينما استيقظ، كان الجو ساطعا حوله. ولم يتمكن من النهوض، كانت يداه مقيدتين وراء ظهره. وأمامه فتى بالغ. بالغ ومألوف لدرجة عجيبة. سأله:"ماذا تفعل هنا؟ ماذا تفعل بعيدا عن الكهف، وماذا عزمت أن تصنع بأختي؟ اعترف". ولم يتمكن الشاب من التعرف بالضبط على الرجل البالغ وأخته. وهو لم يقطع هذا الطريق لهدف محدد. فهز رأسه بعنف.

لم يتردد الرجل. وزادت قسوة كلماته ونظرته. قال:"أرسلك الوحش أليس كذلك؟. هل طلب منك قتل أختي؟. أو حملها إليه؟".  ولكن كلمة "وحش" سرقت منه دماغه. كان الرجل يعرف كل شيء. ولكن كيف؟. الأصلع، عصابته، سكان كل القرى التي مر بها - لم يسمع منهم جميعا أي كلمة عن الموضوع.

ولم يفهم الشاب تعابيره الفارغة من المعنى، فلطمه على وجهه وصاح:"تكلم. لم أنت هنا. ماذا تريد أن تصنع بأختي؟". ولم يترك له فرصة للرد. لطم وجهه مجددا. وسال سائل مالح من داخل شفته إلى فمه. ضربه الرجل مجددا وقال:"أجبني". واسود بصر الشاب لبعض الوقت. وحالما شاهده يرفع قبضته ثانية، التف بيأس بكامل جسمه، وأبعد رأسه. وزاد سوء التفاهم، وزادت الدهشة من لقاء شخص يعلم بالموضوع، وهاج غضبه من هذه القبضة التي تسكته كلما حاول الرد. صاحت المرأة: “توقف يا أخي". التفت الرجلان بوقت واحد. ولاحظ الشاب عيني المرأة.

كانتا لماعتين وسوداوين. وربما لم تولد هكذا، ولكن تشكل غشاء رقيق على عينيها وأضفى لونا على بصرها. واعتقد أن عينيها جميلتين. كانت المرأة أجمل من أي إنسانة قابلها من قبل. قالت بهدوء: “لو أنه ضار ما علينا سوى طرده. لا تضربه".

تنهد الرجل وقال: “حسنا. سنتخلص منه". جر الشاب من رقبته حتى وقف على قدميه، ثم سحبه إلى الخارج. وتابع الشاب النظر إلى الخلف نحو المرأة. وبتعبير مضطرب واجهت الفراغ القاسي الذي أمامها، لتتأمله بعينيها الرماديتين. جر الرجل الشاب وألقى به في الخارج حتى بلغ طريق الغابة. وهناك حرره وركله، فسقط على الأرض. حاول الشاب استعادة توازنه، ولكن الرجل ركله في بطنه.

قال الرجل وهو ينظر إلى الشاب يتمرغ بألم على الأرض: “قل لذلك الوحش إن أختي فقدت طاقاتها. لا أعرف ماذا يجري، ولكن أختي لن تكون جزءا من الخطة". استدار الرجل ليعود إلى بيته. فقبض الشاب على كاحله. التفت الرجل وركل الشاب بوجهه. سعل الشاب وسقط من جديد وبصق الدم الذي امتلأ به فمه. وحينما التفت الرجل ناحية بيته مرة أخرى، أمسك الشاب بكاحله ثانية.

في الحقيقة لحق الخوف بالرجل، ولكنه امتنع عن ركل الشاب. وحدق به كما لو أن هناك شيئا لم يلاحظه من قبل. ثم قال: “ما مشكلتك يا هذا؟".

تأمله الشاب بحرص. وأشار إلى فمه يطلب الطعام.

سأله:"تريد طعاما؟".

هز الشاب رأسه بالإيجاب. لم يتأثر الرجل وشخر بضحكة واحدة. وحرر قدمه ليدوس بها على الشاب. غطى الشاب رأسه بيديه، لكنه لم يهرب. واستلقى هناك أمام الرجل، بطريقة احتجاج وإستنكار عجيبة.

قال له:"هل أنت مجنون؟ أتيت إلى بيتنا تبحث عن ضحية والآن تطلب الغذاء". نظر الشاب إلى الأعلى، وهز رأسه بقوة. وصنع بيديه إشارات تدل على الأكل مجددا. خفض الرجل نظره إليه لفترة طويلة. قال له:"ربما أنت مجنون فعلا". ولم يجد الشاب ردا سوى إشارة تدل على الطعام. وتقريبا جره الرجل ليقف على قدميه. وقال وهو يجره إلى الأمام:"سنلبي طلبك مرة، مرة واحدة، وبعد أن تشبع انصرف. ابتعد عنا ولا ترجع".

XV

لم يبتعد الشاب كثيرا عن البيت الذي تعيش فيه المرأة الرمادية وأخوها. حينما أتت له المرأة بالطعام، ابتلعه بسرعة. وقاده أخوها إلى الكوخ بعد الانتهاء من وجبته. ودون تفسير، كما لو أن الشرح لا فائدة منه، ربطه الأخ بسلسلة ثبتها بقيد معصمه الأيمن، وربط السلسلة بجدار في الكوخ واستعمل قفلا ثقيلا. قال له: “لا تحسب أنه بمقدورك أن تفعل معنا ما يحلو لك". ثم غادر. في الصباح عاد الأخ وحرره، ولكن الشاب تلكأ في الكوخ.  وحينما حاول الأخ طرده، أشار له بيديه وقدميه أنه دون مأوى معروف يلجأ له. غضب الأخ واستعمل قبضتيه، ولم يحاول الشاب حماية نفسه من الصفعات. وسقط على الأرض وتصرف بوضاعة وتوسل أن يبقى بضيافتهما. سأله: “أخبرني الحقيقة، من أين أنت؟". رد الشاب على هذا السؤال بهزات عنيفة من رأسه. سأله: “لماذا أنت هنا، وما خطتك المبيتة لأختي؟". ومع كل سؤال كان يلكمه. وكل ما يفعله الشاب مجرد هز رأسه. واقتنع الرجل أنه على الأقل نصف مجنون. وفي البداية جلس الشاب معظم الوقت في الكوخ. ثم في أحد الأيام جره الأخ للخارج. وعوضا عن سرواله البالي والرقيق قدم له سروالا عمليا وسميكا مع قميص طويل وقاده إلى الغابة. ولم يسأله الرجل شيئا عن ثيابه الغريبة ولا عن قيود المعصم الأيمن. تبع الشاب الأخ وساعده في جمع الفطر والفاكهة. وصاد الرجل حيوانات صغيرة أيضا. ولم يكن الشاب يعرف الصيد أو أي شيء آخر يفيد في تحضير طعام الطاولة. ولأنه لا يتقن شيئا كان الأخ يضربه بانتظام. ورغم الضرب والإهانات لم يحاول تجنب الصفعات أو الهرب. ولكنه كان متأكدا من أمر واحد. وهو نوع الخضار الذي يأكل منه. كان يجمع الأعشاب العطرية التي يجدها ويقدمها إلى المرأة مع الفطر والفاكهة. وتجنبته المرأة وحاولت بشكل عام أن تبتعد عنه، ولكن حينما قدم لها هذه الهدايا، شعرت بقليل من السرور. وفي صدف نادرة يكون الأخ بمزاج طيب أثناء الحصاد فيتكلم مع الشاب أو يدندن بأغنية. فيهز الشاب رأسه بالموافقة أو الرفض ليدل على الاستيعاب. وفي المساء بعد آخر وجبة كان الرجل يقوده عائدا به إلى الكوخ، ثم يقيده، طبعا، ويغلق الكوخ وراءه. وكان الشاب يطيع تعليمات الأخ. ولم يلاحظ الأخ ما يلي: كان هناك فراغ في نهاية الجدار الذي ربطه به. وهذا يعني أنه بإمكان الشاب جر السلسلة من الطرف السائب. وحتى بعد أن خلص الشاب السلسلة وحرر قيد معصمه الأيمن، لم يغادر الكوخ. كان يتجول في الداخل، وينظر لكومة القش، والحبال، والألواح، والأدوات الزراعية المختلفة التي لا يعلم طريقة استخدامها. وفي إحدى الأمسيات استرق السمع وبلغه من نافذة الكوخ حوار يجري بين المرأة وأخيها عنه.

قالت المرأة:"لا يمكننا استضافته في الكوخ حتى الأبد كأي حيوان".

قال الرجل بصوت مكبوت:"هو هارب من الوحش. ولا يمكننا إيواؤه في البيت. وكذلك لن نسمح له بالمبيت في الكوخ لفترة طويلة".

"هرب من الوحش؟كيف علمت؟".

"انظري لندوبه. من غيره يحفر هذه الندوب على ضحاياه؟".

وشعر الشاب بخفق أنفاسه. ولم يلفظ صوتا وتابع استراق السمع. 

"إما أنه جاء ليحصل على ضحية ليطلق سراح نفسه، أو لينتقم. وفي الحالتين لا يوجد ما يريحنا".

سألت المرأة بصوت خائر: “ماذا علينا أن نفعل؟".

"لا تقلقي. حتى الحيوانات تنفع في هذا العالم. أعرف شخصا يقبل أن يبعده عنا".

سألت المرأة بصوت مضطرب: “من هو؟ وإلى أين سيأخذه؟".

"سأعلم لاحقا. لا تتعبي نفسك بالموضوع. تأخر الوقت وعلينا العودة للداخل". وانتهى الحوار.

وأدرك الشاب في خاتمة المطاف لماذا يبدو الأخ مألوفا له. حينما فر من الكوخ ووصل إلى أول قرية وجد الأصلع بانتظاره، وكان هذا الرجل هناك يتكلم مع الأصلع. ولم يكن جاهزا للعودة إلى المصارعة في الساحات. فهو خائر العزيمة ولن يصمد طويلا. ولكن عليه أن يعرف. من هو هذا الوحش؟ ولماذا يحتاج للأضاحي؟ ولماذا تختاره ليضحي به؟

وحينما كان يفكر بأسئلته، انشق الباب مع صرير مسموع. ودخلت المرأة ذات العينين الرماديتين صامتة.

XVI

وباغتت الشاب فوقف دون ضجبج. ثم انتبه أنه حرر السلسلة التي ربطه أخوها بها دون إذن. فعاد بسرعة إلى حيث يفترض أن يكون، وحاول استعادة السلسلة إلى الإفريز في الجدار. صدر صوت مرتفع حينما سقطت على الأرض، والتقطها ثم تذكر أن المرأة عمياء. سألته:"هل أنت هناك؟". ابتسمت المرأة. أومأ وتذكر مجددا أنها لا ترى ومال للأمام. حرك السلسلة فصدر عنها ضجيج. سألته:"هل حقا هربت من الوحش؟".

جر السلسلة. تأرجحت بصوت مسموع في الكوخ. سألته:"هل أنت هنا لتنتقم مني؟".

لم يسمعها. كل ما كان بمقدوره هو أن يتأمل الظلام الرمادي، بعينين دون مقلتين.

"كنت ضحية الوحش عوضا عني، أليس كذلك؟".

وتضاعف قلقه. لم يفهم شيئا، وتابع النظر بوجهها الأبيض.

اقتربت منه المرأة خطوة. قبل أن يتفاداها، وضعت يدها برقة على معصمه. كانت أصابعها طويلة ورفيعة وناعمة. وتذكر ملمس يدها حينما حضنت وجهه حين وصوله، وكيف اعتقدت أنه أخوها. قالت: “اجلس من فضلك. سأروي لك كل شيء".

XVII

في سالف العصر والأوان. هكذا تبدأ كل الأساطير. في سالف العصر والأوان كان يوجد مكان موبوء بمرض يتكرر كل عدة سنوات. ويعتقد أن سبب المرض وحش يعيش في كهف بعيد في جبل شاهق في المنطقة، وهو وحش يشبه غرابا عملاقا. يهبط مرة كل عدة أعوام حيننا يغلبه الجوع ليفترس الجثث والأشجار. وكان القرويون يؤمنون أنه ينفث السم كلما فتح فمه، وهذا يعني إصابة أي شخص أو حيوان في الجوار بمرض يودي به إلى حتفه. وقرروا أن يضمنوا عدم جوع الوحش كي لا يغادر كهفه. وذلك بتقديم أضحية. وحسب أقوال ساحر، كان أفضل الضحايا الطفل غير البالغ. وحينما يكون الهواء راكدا ويسقط الناس ومواشيهم في القرية بالمرض، يترك الناس طفلا في الكهف على سفوح الجبل. وتواصل هذا الحل دون انقطاع، وحتى إذا لم ينتشر المرض، وفي حال إصابة شخص بالمرض، يحمل القرويون طفلا مشردا ويودعونه في الكهف ويصلون للمصاب كي يتحسن. وقالت المرأة بصوت رقيق:"لم تكن سنة طاعون، ولكنني ولدت مريضة. وأصابني العمى من المرض. وإن لم أحصل على العلاج، سينتشر الوباء في كافة جسمي - وربما أكون صماء وبكماء، ومشلولة بلا حراك، ولا أتنفس، وينتهي بي الأمر أن أموت ميتة شنيعة. على الأقل هذا رأي الساحر المشعوذ".

زادت رقة صوتها. وهمست:"وهكذا بحث والدي ووالدتي عن يتيم واختطفاه من خارج القرية وقدماه أضحية للكهف. هل كان هذا أنت؟". لم يرد. انتظرت المرأة. سألته لأنه لم يرد:"هل أنت في مكانك؟". هز السلسلة بتأن. قالت المرأة:"لم يكن عندي علم بما حصل. سمعت به لاحقا. بعد أن أفشى به آخرون. كنت طفلة، ولكن أن ينمو لعلمي أن طفلا قتل لأنجو بنفسي... كان ذلك منبع حزن وتعاسة لي".

لم ينطق.

وبنعومة أضافت المرأة:"بعد التضحية بالطفل بفترة وجيزة، مات والدي في حادث. وتوقعت أنه انتقام الطفل من عائلتي. ولكن الشخص الذي يستحق الموت فعلا هو أنا". حرك الشاب السلسلة وأمكنه النظر للمرأة بصمت. قالت:"إن نويت الانتقام، يمكنك أن تفعل ما تشاء". وأمسكت عن الكلام.

وجلسا صامتين. قالت المرأة مجددا:"هل أنت في مكانك؟".

ألقى السلسلة على الأرض. واحتضن وجه المرأة الأبيض بيديه، وقبل شفتيها.

XVIII

في الصباح التالي، فتح شقيق المرأة باب الكوخ وشاهدها بمفردها غارقة بالدموع. قالت من وراء نواحها:"ذهب ليقتل الوحش. قال إنها ليست غلطتي. وأنا لم أقترف أي ذنب. وما يصيب أجساد وأرواح الناس بالمرض، وما يجبرهم على إلحاق الأذى بأبناء الآخرين هو الوحش، ولذلك عليه أن يقتل الوحش، وهو عازم على قتله..". احتضن الأخ أخته بين ذراعيه، وروح عن نفسها قبل أن يعيدها إلى الكوخ. ومن الأخبار التي سمعها للتو لم يعلم هل ما سيأتي إلى القرية سيحمل معه السرور أم التعاسة.

XIX

بالاعتماد على ذكرياته، شق الشاب طريقه إلى الجبال. والكلمات التي سمعها من المرأة تتردد في رأسه دون توقف. "طفل يتيم من خارج القرية". كان يشعر بقليل من الخزي من هذه الكلمات. ولكن إذا كان شقيق المرأة هناك يوم اختطافه، فهو يعلم على الأقل بموطنه الأصلي، والظروف التي مر بها. ومن تلك المعلومات الضحلة يمكنه أن يستدل على بيته، ووالديه، وربما اسمه أيضا. ولكن ذلك لم يساعده على التخطيط لقتل الوحش. ولم تكن لديه خطة جاهزة. ومع ذلك فهو لم يتبع أية خطة في كل حياته، أو يضع هدفا محددا. وكي لا يقع في الأسر ويكون ضحية للوحش، وليعيش ويعود بسلام، ويكون فقط كما كان حينما احتجز في الكهف، كان هدفه وخطته هو البقاء حيا. وعقد عزمه على ذلك حينما وقف في فوهة المغارة. ثم دخل إليها.

XX

كان قد اعتاد على نور الشمس في الخارج، لذلك تمكنت منه العتمة الحالكة لبعض الوقت. ثم بدأ يتحسس طريقه بالتدريج. غريب هو قدر الإنسان. حينما كانت المرأة صغيرة، كان لها أخ أكبر وأب. وعائلة تهتم لصحتها، وبيت، وحياة مستقرة. أما كل ما توفر له هو هذا الكهف المتعفن والرطب بصخوره القاسية، والقيود والحلقات المربوطة بسلاسل. مع وتد تثبت به السلسلة. لكل إنسان طفولة يمر بها لمرة واحدة، وتكون مأهولة بالأحلام والأمل. لكن طفولته محاصرة بالصراع من أجل البقاء. ولم يتصور في كل السنوات التي مرت به في المغارة وجود طفولة تختلف عن التي سمح له بها.

والآن وهو في الكهف مجددا، انتعشت الأحاسيس التي كانت ساكنة في داخله. كان الكهف عالمه، وسواء أحب أم كره، بدأ يتذكر كل ذرة من الصخور وكل ارتفاع وانخفاض في الأرض. وإذا كان معتادا على ذلك، هذا قد يعني أنه جزء من الكهف... وحين تغلبت عليه هذه الفكرة، لمست يده الوتد الحديدي.  أحضر الشاب من كوخ المرأة السلسلة التي ربطها أخوها بقيود يمينه، وها هو الآن في سجن أيام طفولته، جلس القرفصاء بجوار الوتد كالعادة التي جرى عليها في السابق. لو حالفه الحظ، لن يكتب مصيره على أحد بعده.  سد شكل أسود ضخم مدخل الكهف الذي كان بقعة بيضاء نائية. رفع الشاب ذقنه وحدق بالظلام. حينما كان يعيش في الكهف لم يشاهد شكله. حينها كان يأتي فجأة، فيسد مدخل الكهف، وفي اللحظة التالية يصبح وراءه، يضغط على أطرافه بأجنحته ومخالبه، ويثقب عظامه بمنقاره الحاد. وكالسابق حاول أن يقف على ظهره. لكن انتبه أن الشاب ليس طفلا، ويرتدي ثيابا، فعمد كأنه يسخر منه بتمزيق ردائه. وغرس مخالبه في جسمه وفي بقية ثيابه، وأراد أن يستغيث، لكنه لزم الصمت. لم يطعنه بنفس الموضع مرتين. ولذلك تغطي الندوب كل ظهره، وأطرافه، وأضلاعه، في الأمكنة التي اعتدى فيها عليه. ولو رغب الوحش أن يجد رقعة غير مصابة، عليه أن يستغرق بعض الوقت. وكان الشاب يراهن على هذا الوقت الضائع. انتهى الوحش من تمزيق قميصه، وضغط على رقبته، وجهز منقاره. وتوتر الشاب وهو يتوقع ما سوف يجري لاحقا، وأغلق عينيه لحظة. وكما توقع حين شاهد الندبة على رقبته سحب منقاره، كانت الندوب على كل ظهره وذراعيه وأضلاعه، فحاول أن يمزق سرواله. وهنا التفت الشاب بجذعه ورمى السلسلة المربوطة بحلقة يده اليمنى. في العتمة أصدرت السلسلة صوتا ثقيلا ومنذرا بالخطر وهي تهوي عبر الهواء المشبع بالرطوبة وتسقط على الشيء غير المنظور. ولم يكن بمقدور الشاب أن يعلم ماذا ضربت السلسلة، ولكنه سمع صوتا قاسيا وواضحا ومعذبا تبعته صرخة هزت الكهف من الداخل، ثم فاحت رائحة خانقة. ألقى السلسلة مرة إضافية واستهدف الرائحة. وجاءت صرخة أصابته بالصمم وهزت الجدران. وفي اللحظة التالية التفت السلسلة حول مخلب ووجد نفسه يطير في الهواء. كان جميلا. ولم يسعه أن لا يعتقد ذلك حينما أمكن له رؤيته لأول مرة بوضوح في ضوء الشمس. كان فعليا جميلا كما هو أي وحش. في نور الشمس لم يكن أسود ولكنه رمادي قاتم. وريشه الرمادي يلمع مثل حديد مطروق، بلمعان بارد وميت. ومخالبه ومنقاره بلون الفضة، وفي وسط المنقار الفضي جرح أحمر وعميق. واعتقد الشاب أن هذا هو المكان الذي ضربته السلسلة. بالإضافة إلى المنقار كانت عينه زرقاء متجمدة وتحدق به. والظل الأزرق بالنسبة لمن يراه أول مرة كان عميقا لدرجة متعبة وواضحا، ومنذرا بالمخاطر. لف سلسلته بقوة حول قدميه وحاول أن يقف. ولكن تدلى من حلقة في السلسلة وهذه بدورها احتكت بمخلب ثاقب وانقطعت. وحتى لو أنه نجا من السقطة مثلما جرى حينما هرب من الكهف، لن يتحقق الهدف من عناء قدومه إن سمح له بالهروب لمكان بعيد. تمسك بعناد بالمخلب الفضي وحاول أن يتسلق إلى الوحش، دون خدش. وحينها خفض الوحش رأسه وعضه. وشعر بالمنقار الفولاذي يقترب من قفصه الصدري نحو ساقيه. وتأكد أنه سيموت. ولكنه لم يبتلعه ولم يقذفه بعيدا في الهواء. وتزايد ألمه لكن العضة لم تكن قوية بما يكفي لتكسير عظامه. وهذا يعني أنه يحاول أن يحمله إلى مكان مجهول. وحالما خطرت له هذه الفكرة رماه في الفضاء وتلقاه ثانية بمنقاره. وأصبح الشاب مستلقيا على ظهره يواجه السماء وينظر مباشرة في عين الوحش الزرقاء. ولو للأن للوحوش عواطف تراها في عيونهم، إن العاطفة التي رآها الشاب في تلك اللحظة كانت تدل على الرضا. ولكن الوحوش مختلفة عن البشر، ولايرضيها تخويف وتعذيب الآخرين. والرهان يكون هل نقتله أم يقتلنا. وبما أنهم يحصنون أنفسهم من القتل بينما الفريسة في قبضتهم، لا تهتم الحيوانات بمشاعر الفريسة. وفكرة أن الفريسة في قبضتهم تدعو للرضا والسكينة.

قام الوحش بدورة واسعة في الفضاء، وبدأ برحلة العودة إلى الكهف. وبلا تردد حرك الشاب يمناه، بقوة. والسلسلة المربوطة بأصفاد يمينه ارتطمت بعين الوحش الزرقاء الباردة، وترنحت الحلقة المكسورة وحفر طرفها ثقبا في العين. وانطلق شخير هز السماء والأرض ومال الوحش على أحد طرفيه. وفي خضم ألمه الأعمى والمفاجئ تابع كالسهم نحو سفح الجبل الذي يوجد فيه كهفه وحط عليه.

XXI

لم يفهم كيف نجا بحياته. ولكنه دفن بين أغصان مكسورة، وأوراق مبعثرة، وأعشاب، وعليق، وكانت أنفاسه تتردد في جسمه. وعندما حاول النهوض شعر بجمود في طرفه الأيمن. ولم يتمكن من تحريك ساقه اليمنى. تمسك بغصن سميك واتكأ عليه ليقف ببطء وحذر. أما الوحش فقد اصطدم بالسفوح وكسر رقبته. كانت عيناه معدومتين من نور الحياة. ومنقاره الضخم لا يزال يلمع بلون الفضة في الضوء. كان جناحه عريضا ويسمح له بالالتفاف حول صخور الجبل، ولكن الريش المتصلب كان متداخلا ومسحوقا وكأنه قماش مكوم. وقف ساكنا ونظر للطائر الميت. كان الطائر ميتا، ولن يأسر أحدا بعد الآن ولن يطمع أحد بما لديه. والدليل الوحيد على وجود الطائر هو الندوب المنتشرة على جسم الشاب حينما كان فريسته. وأحزنت الفكرة الشاب. ودون أن يعلم لماذا، تمنى لو يعود الطائر إلى الحياة، وأنه لم يمت ببساطة، وتابع الوقوف وتأمل عينه الزرقاء. ثم باشر يعرج عائدا إلى القرية التي تنتظره فيها المرأة.

XXII

كان الظلام مخيما لحظة وصوله إلى القرية. والشمس الحمراء مشتتة وبقاياها تذوب في الفضاء بين الغيوم المضيئة، وهو مشهد لم يضجر منه أبدا. شق طريقه عبر القرية وباشر المسير نحو الغابة الموجودة بعد سفوح الجبال. لم يلاحظ ضوءا في طريقه. وشقيق المرأة كان قد ذهب إلى الغابة ولم يعد، وكانت المرأة عمياء ولا تحتاج للنور. قال ذلك لنفسه وهو يعجل من خطاه. وعلى عتبة الكوخ، وقبل أن يفتح الباب، نادى باسم المرأة. ولم يكن يود أن يقتحمه ويفاجئها. لكنه لم يرد أحد. ففتح باب الكوخ. كانت المرأة تجلس أمام طاولة، فنهضت عندما فتح الباب. اقتربت منه ومدت يدها. وسرها رؤيته ومد يده إليها. وحالما تلامست بصمات أصابعهما تحولت المرأة إلى قطرات ماء كثيرة وتوزعت في الهواء الرقيق.

XXIII

لم يصدق ما جرى، ووقف عند الباب بلا حراك، ويده لا تزال ممدودة نحو يدها. وانبثق من خلفه صوت كأنه يأتي من وحش. فالتفت. كان شقيق المرأة يهاجمه بسكين للصيد. وتنحى الشاب بالوقت المناسب. حاول أن يشرح له، ولكن أخاها لم يرغب بالاستماع. والحقيقة أن الأخ لم يستوعب شيئا مما يجري. واندفاعه حمله ليصبح أمام الشاب. استدار وكر مجددا وهو يصيح. لكن الشاب قبض على ذراع الرجل وضغط على معصمه، وحاول أن يجبره على إفلات السكين. ولكن استحال عليه أن يغلبه، فقد امتلأ بالقوة الطائشة. ومهما قاوم الشاب كانت سكين الأخ تقترب من رقبته. ولامسته بطرفها. وشعر الشاب بها تمزق جلده، وبدأ الدم يسيل. في تلك الدقيقة انتبه الشاب أن يده التي تقبض على معصم الرجل تحولت إلى فولاذ رمادي. وانثنى معصم الرجل إلى الخلف بزاوية صعبة. وظهرت عظامه من تحت جلده. وصاح الرجل وسقط على الأرض وهو يتمسك بذراعه المكسور. نظر الشاب إلى الرجل. كان الغضب الطائش قد تلاشى من عيني الرجل. وسرعان ما اكتسحهما الرعب. وهو آخر شيء بقي في ذهن الشاب.

XXIV

وحينما عاد له وعيه كان قد حان ميقات الصباح. كان كوخ المرأة وأخيها قد توارى دون أثر. وفي مكانه وجد ما يشبه بقايا رجل مبعثرة، مع بركة عميقة من الدم. ولم يحتمل النظر فيها واستدار برأسه وابتعد عن المكان فورا. وعندما هبط من الجبل إلى القرية، انتبه أنها تحولت إلى أنقاض. بالأمس كان هناك بيوت وعابرو سبيل، واليوم توجد شجرة كبيرة ربما عمرها مائة عام، تنتصب كأنها إشارة على زمن سحيق. وفي مكان السور المحصن بكروم كثيفة وحديد، تجد الآن حقلا من أعشاب جافة. أما السكان فقد رحلوا جميعا تقريبا. وبقي اثنان أو ثلاثة متجولون يتنقلون بتعابير محبطة أخذوا منه نظرة وصبغهم لون أبيض خائف واختفوا من أمام نظره. أصابه اليأس. لم يكن يفكر بالانتقام. على الأقل ليس هذا النوع من الانتقام. ببساطة لم يعلم أن بقاء القرية يعتمد أساسا على وجود الوحش.

ودفعه عبث هذه النهاية للإحساس بقلة الحيلة. فالغرباء الذين سرقوا منه طفولته بمشعوذهم ومعتقداتهم، وحياة الحرمان التي عاشها على حافة الموت، كانت في النهاية بلا معنى. تأسى على سنوات المعاناة واليأس التي عاشها. ووقف هناك في أنقاض القرية وبكى. وبعد أن حبس دموعه، بدأ يمشي نحو الشمس المشرقة، بحثا عن مكان له في العالم حيث توجد حياة بانتظاره.

***

 بورا شونغ Bora Chung روائية من كوريا الجنوبية. ورئيسة جمعية أدب الخيال العلمي.

في نصوص اليوم