ترجمات أدبية

اليخوا كاربنتير: الفتاة العراقية

للكاتب الكوبي اليخوا كاربنتير

من مجموعة قصصية (الفتاة العراقية وقصص اخرى)

الترجمة من اللغة الاسبانية

الدكتورة غيداء قيس إبراهيم

***

تنظر الفتاة العراقية إلي بعينيها الداكنتين المليئة بالأحلام. من خلف برقعها الازرق، نظرات مبتسمة غامضة كالموناليزا. لديها ابتسامة، في نهاية شفتيها، فقاعة صغيرة من الفرح، وخدود ممتلئة . وجه الفتاة العراقية ملفوف في وشاح شفاف أزرق يدخل من خلاله شعاع الضوء. في تلك الأمسيات، في حوالي الساعة السابعة، وقفت أمامها، بين محطة سويسرا وتايوان، على منصة محطة كامبو دي لاس ناثيونيس. كل تلك الامسيات أراها مبتسمة. كما لو انها تسألني وهي تنظر في عيني مباشرة:

كيف كان نهارك في العمل اليوم؟ ...أنت سعيد؟ ...بماذا تفكر ونظراتك تداعب رسمة وجهي على الجدار؟

في يوم ما، كان السادس عشر من شهر مارس، وأنا بانتظار القطار أمامها، فكرت بأني قد أكملت الاربعون من عمري، وحسب ميزان العمر المتوقع لهذه الفترة، اكتشفت بأنه لا يزال أمامي الكثير من الأشياء لأفعلها، ليس له علاقة بالمال، لم يكن الأمر كذلك، كان ببساطة أنني لم أستمتع بعملي، وكل شيء في بيتي كان روتينياً بالفعل، وأنني لم احقق أياً من الأهداف التي حددتها لنفسي عندما كنت شابا يافعاً :

" لم أكتب قصصاً رائعة بصفتي من متابعي وهاوي مخلص لقصص Poe و Maupassant [1]، ولم أتعلم الطيران، ولم أقم بعمل ذلك البرنامج الاذاعي الذي طالما حلمت به، والذي قال الجميع إنني ولدت من أجله ."

سألت نفسي عما إذا كان لايزال لدي الوسيلة أو الوقت لتحقيق كل ذلك، أو أنني أعتبر نفسي فاشلا، وبتقدير متوسط .

في تلك اللحظة وصل مترو الأنفاق الذاهب باتجاه (مار دي كريستال)، وأنا على وشك الصعود إلى القطار، ومن خلال النافذة الزجاجية لباب القطار الذي أمامي، رأيت الفتاة العراقية ثابتة أمامي، خُيل إلي همسات صوت داخل دماغي تقول : " إنها بحاجة للتحدث معي "، فنظرت حولي ولم يكن هناك أحد، كان مترو الأنفاق فارغاً تقريباً، الصوت كان صوتاً عذباً لشابة طلب مني الانتظار، أرجعت قدمي من القطار وبقيت على الرصيف واقفاً. عندما أغلقت أبواب القطار، استطعت أن أرى كيف أن الفتاة العراقية - وعلى وجهها تنعكس أضواء القطار - ابتسمت بصف من الأسنان الناصعة البياض، ابتسامة حقيقية، كأنها تقول : " بأني لست فاشلاً"، سمعت الصوت بوضوح داخل راسي .

غادر القطار المحطة ووجدت نفسي من جديد أمام اللوحة. لا يبدو أنها قد تغيرت. ما زالت بتلك الابتسامة والخد الممتلئ اللطيف. حاولت التواصل معها بعيني، لكن المحاولة لم تنجح. ثم فكرت أن أتواصل معها من خلال التخاطب العقلي، وأرسلت مشاعر من تساؤلات واندهاش، لكني لم أستطع الحصول على أي إجابة.

سألتها - بهمس لكي لا يعتقد الناس في المحطة بأنني مجنون - :

هل بالإمكان أن تتحدث معي، وفي حال استطاعت الكلام، كيف بإمكانها أن تعرف بأني فاشل أم لا؟ . لم احصل على الرد ايضاً .

أحسست بوجود شخصين من الشرطة، كانا ملاصقين لي بطريقة مزعجة . لم أستطع التحرك . لم أكن قادرا حتى على رفع قدمي من الخط الأخضر المرسوم على رصيف القطار العاكس لضوء الفلورسنت .الإشارات الإعلانية الضوئية أعلنت بوصول قطار جديد متجه إلى محطة (مار دي كريستال)، فرمشت عيناي مرارا وتكرارا واتسعت حدقة عيني، بد لي حينها وكأنني قد أصبت بالهلوسة، قلقت جدا لإنني كنت أتكلم مع جدران، صحيح أنها كانت أجمل الجداريات التي يمكن للمرء أن يتذكرها، لكنها في الأخير جدران ليس إلا، لكن في لحظة وصول القطار ووقفه ِ بيني وبين اللوحة، سمعت مجدداً صوتها وهي تقول :

الذي على قيد الحياة هو فقط ذلك الشخص الذي يتساءل ماذا يمكنني أن أفعل في هذه الحياة لاكون سعيداً؟

كان بإمكاني رؤيتها من خلال زجاج القطار، انعكاسات قزحية الألوان أنتجت سلسلة من الصور المتحركة كالتي تحدث في شريط سينمائي، حركت شفتيها ببطء شديد، ودون أن أزيح عيني من عليها، رايتها ترفع الوشاح حول رقبتها مبتسمة مرة أخرى . عندها توقف القطار . وأنا انظر إليها، وجدتها جميلة جداً، اعتقدت اني لمحت وميضاً على خديها كما لو ان تفكيري بها قد اخجلها قليلاً .

هل نستطيع أن نتواصل الآن؟ ... سألتها وأنا بين حالة من الاستغراب والشوق .

فأجابت:

نعم

عندها القطار اغلق أبوابه، فضغطت على الزر لفتح الأبواب من جديد .

هل هناك مشكلة يا سيدي؟... سمعت صوت من الخلف، كان صوتاً حقيقياً أجوف يوحي بالتسلط،

لكني لم أستطع الإجاية .

هل أنت بخير ؟ ... سألني الشرطي الآخر بطريقة لطيفة ... لم أستطع حتى التحرك .

اترك هذا القطار ( كان ذلك صوت الفتاة العراقية المعسول) ... انتظر القطار التالي .

منذ ذلك اليوم تغيرت حياتي بالكامل .

الفتاة العراقية المرسومة باللون الإزرق في تلك الجدارية أيقظت في داخلي كل الاحتمالات التي كانت في سبات في وادي النسيان. علمتني أن كل شيء ممكن، وأن أحلامي لم تكن قابلة للتحقيق فحسب، بل هي أهداف لحياتي. صوتها تحول في داخلي إلى إرادة في اتخاذ القرار.

لقد أعددت السيناريو لذلك البرنامج الإذاعي الليلي الذي كان يشغل بالي ولم يكتشفه أحد بعد، قمت بتقديمه إلى المحطة التي طالما كنت أحلم في سماع صوتي من خلالها، وأتيحت لي الفرصة لبثه على الهواء مباشرة ذلك الصيف، وبعدها في غضون أشهر قليلة، أتيحت لي الفرصة في إخراج وتقديم ( برنامج الإلهام ) الذي كان يتحدث عنه الجميع والذي أجبر نصف البلد على السهر لوقت متأخر لكي يسمعوه . خصصت الساعات الأخيرة من الصباح في القراءة وفي الأمسيات أكتب تلك القصص الغريبة التي كانت تحاول الخروج من رأسي. في العام التالي تمكنت من الحصول على رخصة قيادة الطائرات الخفيفة. كان بالنسبة لي تلك اللوحة هي شرارة في ذلك الخط، شرارة أيقظت إرادتي . كل مساء أعود لكي أتحدث قليلا معها . وكانت تفرح لنجاحاتي، لسعادتي .

بعد مرور فترة، كنت قد انتقلت الى مدينة اخرى، ولم نعد نرى بعضنا كثيراً، ومع ذلك كانت تبتسم كتلك الابتسامة لها في اول يوم رايتها فيها وتتكلم معي بنفس صوتها العذب .

أخيرًا، بعد سنوات، نسيت أمرها. حتى أيام قليلة مضت، كنت في طريق عودتي من رحلة ترويجية لآخر إصدار من كتابي في بلدان أمريكا اللاتينية في مطار باراخاس . كانت ترافقني زوجتي الثالثة . اقترحت عليها رؤية أجمل جدارية عرفتها . قبلت بسرور، واضطررنا لترك التاكسي ونزولنا إلى محطة مترو (كامبو دي ناثيونيس). كانت زوجتي معجبة بما تراه بينما كانت تسير وهي تشاهد تلك الرسومات على جدران المترو، وقفت أنا أمام الفتاة العراقية مرة أخرى. لم يتغير طلاء اللوحة. ما زالت بنصف ابتسامتها ومنديلها المليء بالضوء الأزرق . انتظرت وصول القطار لكي أحييها .

مرحباً يا فتاتي، شرارة انطلاقتي، روحي، محركي

تفاجأت بتفكيري وهو مليء بحنان لا حدود له . ولم أسمع منها شيئًا.

هل أنت غاضبة مني؟ سألتها ...ولم اسمع غير صوت انفاسي

غادر القطار، وبقيت هناك مرعوب وحزين في نفس الوقت . كما أنها لم تتحدث حتى مع وصول القطار الثاني ... ولا الآخر .كانت زوجتي قد انتهت من رؤيتها وإعجابها باللوحات . لم أخبرها مطلقا عن سري هذا، منبع قوتي في اتخاذ القرار ومن كان السبب في تحول حياتي بالكامل .ولن أخبرها عن هذا السر في ذلك اليوم أيضاً.خرجنا من المحطة وأخذنا سيارة الأجرة متوجهين إلى الفندق .كنت صامتا طول الطريق، أجتر الماً في بدايته، قلقاً ...قررت العودة في اليوم التالي من جديد لكي أتواصل مع الفتاة العراقية . وصلت إلى المحطة مبكرًا ورأيت أن هناك شخصًا يقف أمام باب القطار. لقد ترك القطار يمر دون أن يركب. متسمراً على رصيف القطار، كما لو كان منتشيًا، دون أن يرفع عينيه عن اللوحة المرسومة أمامه. وقفت خلفه وانتظرت وصول القطار التالي. كنت أراقبه. كان شابًا في العشرينيات من عمره، يرتدي ملابس راعي بقر متسخة ويحمل تحت ذراعه اليسرى لوحة رسم كبيرة جداً . وكأنه منوم مغناطيسياً .عندما وصل القطار، بدأ متوتراً. شاهدت من خلال النوافذ ملامح اللوحة المطبوعة . وهناك الشاب واقف بلا حركة بنصف ابتسامة على وجهه، كان الشاب يتلفظ بكلمات لم أستطع ان أفهمها . شاهدته وهو على وشك ان تنفجر ملامح وجهه، وكيف بدأت عيناه تلمع بنظرات فولاذية حادة، ممسكا بشدة بكراسة الرسم الخاصة به مقتنعًا أن ملهمته، والتي كانت ملكي، قد حولته إلى فيلاسكيز[2] القرن الحادي والعشرين. خرجت من المحطة وأنا أجر نفسي محاولًا معرفة ما يعنيه ذلك. كانت المباني الزجاجية الحديثة ومراياها تعكس في عيني وميضها القوي من الشمس المشرقة . أصبت بالعمى للحظة وسقطت على الأرض. ساعدني شخص على الجلوس. سمعته يقول لي :

"كن حذرا يا جدي".

مشيت في المتنزه وأنا شبه غارق في أفكاري مستعرض السنوات الأخيرة من حياتي.، كنت قد تركت البرنامج الإذاعي لأني كنت غالباً ما أتعاقد مع برامج تلفزيونية، كناسك لمجموعات مسائية، وعمودي في الصحيفة يسخرعلى المجتمع الحالي . أعوم بالمال والنجاح والشهرة . أردت أن أكتب لكن الالتزامات المستمرة حالت دون ذلك. كتابي الأخير لم يكن كتابي الأخير. كنت اعتاش من مدخرات السنوات الأولى . أسافر باستمرار، لكني لم أعد استمتع بالسفر كما كنت . في الواقع، لم أعد أستمتع بالحياة.لم أكن سعيدا. فكرت في ما رغبت به في الحقيقة، وما كنت أريده حَقًا، وعلى مدار هذه السنين كنت قد غمرت رأسي باليابسة والبحر، والندى والملح، والرياح العاصفة ومواجهة الأمواج العاتية، والغابات الرطبة برائحة الأوكالبتوس، ومحادثاتي مع الصيادين، وعابري السبيل، ومشاهدة غروب الشمس على الشاطىء، وكلمات الأغاني، والقوافي، والأغاني ... الأغاني الحزينة، وأغاني البلوز الكئيبة . عدت إلى المحطة وأنا أدندن موسيقى. وقفت أمام صورة الفتاة، حدقت فيها كناسك . لا شيء يمنعني. أبحث في جنتي، مكان بعيد ومعزول عن ساحل لوغو، عن بعض العزلة لأكتب من جديد، لأتعلم العزف على البيانو وتأليف الأغاني التي تجرد الأرواح، وأن أزرع صفين من الخضار وان أبحرفي بحر ما تبقى من حياتي وظهري للواقع . دون تردد . وبدل التوجه إلى الفندق، رجعت ادراجي لكي اركب من الرصيف الاخر القطار المتوجه الى مطار باراخاس . وقبل إغلاق الأبواب بقليل، وصل القطار في الاتجاه الآخر.

لحن جميل ... (همس صوتها مرة أخرى في رأسي تحت أصوات القطارالتي تلهث . نظرت باتجاه اللوحة، ورأيت

ابتسامتها تلمع مرة أخرى من خلال نافذة القطار، مثل ضوء ساطع) .

*** 

...............................

[1] أسم كتاب وهوعبارة عن مجموعة من القصص كتبها الكاتب الشهير للكتب الرائعة Maupassant. كتبت هذه القصص في نهاية القرن التاسع عشر، وهي مليئة بالعناصر الرائعة، مع الكثير من الغموض وأيضًا بعض الخوف .

[2] دييغو رودريغث دي سيلفا إي بيلاثكيث كان رساماً إسبانياً، ولد في عام 1599 يعتبر واحدا من أعظم ممثلي الرسم الإسباني في الفترة الباروكية وكان كبير الرسامين في العالم. قضى بيلاثكيث السنة الأولى من حياتهِ في إشبيلية حيث طور أسلوب طبيعي من الإضاءة القاتمة وذلك لتأثره بالرسام الفرنسي كارافاجيو وأتباعه، توفي عام 1660.

نبذة عن الكاتب اليخو كاربنتير:

ولد أليخو كاربنتيير اي فالمونت في 26 من ديسمبر 1904م، هو روائي وكاتب مقالات ومؤلف موسيقى كوبي الجنسية، وقد تأثر تأثيرًا كبيرًا بالأدب الأمريكي اللاتيني، وبالرغم من ميلاده في أوروبا، إلا أنه كان يعتز كثيرًا كونه كوبيًا طوال حياته. وقد كان كثير السفر، خاصةً إلى فرنسا وجنوب أمريكا والمكسيك، حيث قابل أبرز أعضاء مجتمع الثقافة والفن الأمريكي اللاتيني. تقلد مناصب رسمية مختلفة حتى عام 1966 تم تعيينه سفيراً في باريس حيث مكث حتى أيامه الأخيرة. كتب كاربنتييرالعديد من الأنواع الأدبية، مثل الصحافة والدراما الإذاعية والمسرحيات والمقالات الأكاديمية، فضلاً عن الأوبرا ونصوصها، إلا أن أشهر ما يُعرف به هو رواياته. فقد كان من أوائل المشاركين في الواقعية السحرية باستخدام أسلوب العجائب الواقعية لاستكشاف روعة جودة تاريخ وثقافة أمريكا اللاتينية. تأثر كاربنتيير بالثقافة الإفريقية الكوبية .جمع كاربنتير في اسلوبه بين أسلوب عصر الباروك (Baroque)، أو أسلوب عالم الباروك الجديد الذي تبناه فنانوا أمريكا اللاتينية من النموذج الأوروبي، ولكن برؤية فنية خاصة بأمريكا اللاتينية. وبفضل التجربة الجديدة للحركة السيريالية الفرنسية، تبنى كاربنتيير كذلك النظرية السيريالية وأدخلها لأول مرة إلى أدب أمريكا اللاتينية. وقد اتسم كاربنتيير بالحماس الدائم لاستكشاف أبعاد جديدة للهوية الكوبية، إذ استغل تجاربه التي حظي بها من سفرياته العديدة خلال أوروبا وأمريكا اللاتينية في إثراء مفهومه عن الهوية الأمريكية اللاتينية. حصل على الكثير من الجوائز خلال حياته عن اعماله الادبية : منح شهادة دكتوراة فخرية من جامعة هافنا (كوبا) عام 1975، الجائزة الدولية الفونسوا ريس في المكسيك عام 1975، جائزة ميغيل دي ثربانتس في اسبانيا عام 1977، كما اصبح عضو شرف في جامعة كنساس في الولايات المتحدة الامريكية وغيرها . توفي كاربنتيير في باريس عام 1980م.

قصة " فتاة عراقية" جزء مما يسميه الكاتب أليخو "بالواقع الرائع" وهو نوع من الواقعية السحرية مع بعض الاختلافات. تاريخ نشر القصة غير معروف، لكنها جاءت مع مجموعة من القصص للكاتب الكوبي اليخو كابرنتير اطلق عليها " الفتاة العراقية وقصص اخرى"، لكننا نعلم أنها من أولى كتابات الكاتب الكوبي أليخو.

في نصوص اليوم