ترجمات أدبية

ماتسو باشو: الطريق الضيق إلى عمق الشمال

ماتسو باشو

ترجمة: حسني التهامي

***

السنوات تأتي وتمضي في رحلتها للخلود، وكذا الايام والأشهر. فالذين يقضون أعمارهم مجدفين على متن القوارب، أو العجائز الذين يسرجون خيولهم، رحلتهم حياة، ورحلتهم وطن. فكم من العجائز قد لقى حتفه على الطريق.

أتساءل: منذ متى، والغيوم تنجرف بعيدًا أمام الريح، وأحلام التجوال اللانهائية تداعب مخيلتي؟ فقط في العام الماضي ظللت أتجول على الشواطئ والخلجان، وفي الخريف، أزحت أنسجة العناكب خارج كوخي المنهار على ضفاف سوميدا، قبل أن يأذن العام بالرحيل.

مع تصاعد ضباب الربيع إلى السماء، تملكتني آلهة الشهوة وألهبت ذهني بالتوق لاجتياز حاجز شيراكاوا. مضيت مشتت الذهن، وقد أغوتني أشباح الطريق. رقعت سروالي، وشددت على قبعتي المصنوعة من القش بخيوط جديدة، ولففت ركبتي بخيط ناعم من الصوف. كانت صورة القمر في ماتسوشيما لا تغيب عن ذهني. قمت ببيع كوخي وشرعت في كتابة تلك الكلمات قبيل الانتقال إلى كوخ سامبو:

حتى هذا الكوخ العشبي

للمالك الجديد

بيت حافل بالدمى!

هذا أول نص من بين ثماني متتاليات شعرية تركتها معلقة على عمود داخل الكوخ.

(2)

في اليوم السابع والعشرين من الشهر الثالث [16 مايو]، بدا القمر واهنا، واهنا،

مع غبش الفجر الشاحب، لاحت قمة جبل فوجي غير واضحة، دفعني الحنين إلى

رؤية أشجار الكرز في أوينو وياناكا مرة أخرى. صعد أصدقائي المقربون، الذين تجمعوا ليلة أمس، إلى القارب كي نتبادل كلمات الوداع.

رسونا في سنجو، فغمر قلبي الشوق إلى الرحلة البعيدة المحتملة.عند مفترق الطرق، انتباني الإحساس بأن هذا العالم عابر، فانسربت من عينيَ عبرات الوداع:

يرحل الربيع -

الطيور جميعها حَزْنى وعيون الأسماك

مبتلة بالدموع

استهللت يوميات رحلتي بهذا المقطع الشعري، ثم انطلقنا،

اصطف أصدقائي من ورائي، أقدامي كانت عاجزة عن المضي قدما

جالت عيونوننا في الأفق طويلا حتى زاغت أبصارنا.

(3)

في العام الثانيGenroku [1689]  التمعت في ذهني فكرة الارتحال بعيدا إلى أقاصى الشمال، كي أرى بأم عيني الأماكن التي سمعت عنها من قبل، على الرغم من الاهوال التي شيبتي،. أصبح حلم العودة والسلامة، بل حياتي جميعها أملا بعيد المنال.

داهمنا الليل عند مداخل بلدة سوكا، وقد أثقلت الحزمة التي حملتها عظام كتفي النحيل. كنت من بين الأشياء التي خففت عني أعباء الرحلة، أني اتخذت معطفًا ورقيًا كي أتقي سطوة البرد في الليل، وثوبًا قطنيًا، وملابس واقية من المطر، ومحبرة وفرشاة، إلى جانب العديد من هدايا من ودعوني ولم يكن باستطاعتي ردها.

توجهنا لزيارة ضريح مورو نو ياشيما [غرفة أشبه بالفرن]. أخبرني رفيق الدرب، سورا قصته قائلا: "هنا ترقد لكونوهانا ساكويا هيمي [أميرة الورود المزهرة]، معبودة جبل فوجي. يشير اسم مورو نو ياشيما إلى الغرفة التي دخلتها الإلهة وأشعلت النار، لتثبت أن حملها الذي أفضى بطفل أسمته هوهيديمي [مولود اللهب] كان شرعيا، وهذا ما يفسر تكرار مفردة الدخان في القصائد التي تناولت المكان، وسبب امتناع الناس عن تناول سمكة كونيشيروا ها هنا؛ فعند شوائها، تنبعث منها رائحة احتراق لحم بشري.

(4)

آخر ليلة من الشهر الثالث [19 مايو / أيار] عثرنا على بيوت عند سفح جبل نيكو.

عرّف صاحب الحانة نفسه بأنه "ولد بوذا" "عرف عني هذا لأني أضع الصدق نصب عيني أولا وقبل كل شئ في كل ما أقوم  به. لك أن تنام قرير العين تلك اليلة." تساءلنا عن طبيعة بوذا الذي بدا على هيأته البشرية في هذا العالم القذر المضطرب، كي يمد يد العون لحاجيْن متسوليْن. تأملته مليا، وعلى الرغم من صورته البلهاء، كان  بالغ الصدق، شخصا أقرب إلى فكرة الكمال الكونفوشيوسية: قويا، بسيطا، وصريحا، كانت نقاوة قلبه مثار إعجابي.

(5)

في اليوم الأول من الشهر الرابع [20 مايو] ذهبنا إلى الجبل للتعبد داخل المزار، في سالف الأزمان  كُتب على المكان اسم [جبل العاصفتين]؛ ثم قام المعلم العظيم كيوكايهناعند بناء المعبد، بتغيير اسمه إلى Nik-ko(ضوء الشمس)، استشرافا بما سيحدث بعد ألف عام، فالضريح الآن يفيض نوره  في ربوع السماوات، وتتدفق بركاته على الأرض عابرة إلى الأركان القصية، فينعم الناس جميعا بالسكينة والسلام. كنت مأخوذا، ولم تكن تسعفني الكلمات للبوح بمكنون مشاعري:

يا لقداسة المكان ...

عبر الأوراق الخضراء اليانعة

يتشظى ضوء الشمس الآن

كان يكسو جبل كوروكامي  (جبل شعر الغراب) الضباب، فلا يزال أبيض مغمورا بالثلج.

سورا بدوره ألَّف ذلك النص:

حلَّقتُ شعري

والآن في كوروكامي

أرتدي ثوبا جديدا

سورا لم يكن سوى اسم مستعار، بينما اسمه الحقيقي كاواي سوجورو، لقد بنى منزلا بجانب الأوراق المتدلية من شجرة الموز التي غرستُها، وكان يساعدني في أعمال المنزل كتقضيب الحطب وجلب المياه.

أثلج صدره فكرة رؤية ماتسوشيما وكيساغاتا، فقرر أن يرافقني

ويقاسمني مشقة الطريق. صباح رحيلنا حلّق رأسه وارتدى

لباس الكاهن الأسود، وأطلق على نفسه اسم سوجو [المستنير]، لهذا السبب خط قصيدة جبل كوروكامي. "أرتدي ثوبا جديدا" إنها كلمات مؤثرة وموحية.

كان هناك شلال على بعد ميل أو نحو ذلك أعلى الجبل، وكان الماء يتقافز من جوف في التلال، ويهبط من على ارتفاع مائة قدم إلى بركة خضراء داكنة تتناثر فيها آلاف الأحجار. يمكنك أن تتدافع بين الصخور، وترى الشلال متدفقا من الوراء، ومن هنا أتت التسمية أورامي نو تاكي [شلالات الرؤية الخلفية].

وحده خلف

شلال صغير -

يتقهقر الصيف الآن

(6)

كان يقطن أحد معارفي مدينة كوروبان بـ "ناسو"، فقررنا أن نسلك أقصر الطرق، عبر السهل. سلكنا طريقا تجاه قرية تلوح في الأفق، وبينما كنا نسير، بدأ المطر يتهاطل والظلام يطبق، قضينا ليلتنا داخل مزرعة، ثم عاودنا الرحيل صبيحة اليوم التالي عبر السهل، ووجدنا في طريقنا حصانًا يرعى ومُزارعًا يجتزُّ العشب، فسألناه أن يدلنا على الطريق. تبدو على الرجل عفوية الريفي البسيط، لكنه كان مفعما بالعاطفة. تمهل قليلًا ثم أردف قائلا: ما أفضل شيء يمكن فعله؟ هنا تتقاطع الممرات في كل مكان، ومن المحتمل أن يضل الغرباء أمثالك طريقهم، وهذا ما يقلقني. سأعيرك حصانا، ثم أعده عند أن تقضي حاجاتك.

مضى في ركابنا طفلان صغيران يركضان. كان من بين الطفلين فتاة تسمى كاسان [مزدوج]. كان اسمها غير عادي، ساحرا وملهما لسورا:

كاسان

اسم زهرة برية

ببتلات مزدوجة

لم يمض وقت طويل حتى اقتربنا من مشارف قرية وأعدنا الحصان إلى المنزل، معقودة على سرجه بضع قطع من النقود.

***

يتبع

 

في نصوص اليوم