ترجمات أدبية

دميتري دارين: بلادي

نرفع القبعة أمام الشاعر الروسي المعاصر

دميتري دارين

أحتفاء بيوم ميلاده الثامن والخمسين *

إعداد وترجمة الدكتور إسماعيل مكارم

***

Родина Моя

بلادي

وُحولُ الخريفِ في كلّ مكان،

ولا تُسمَعُ أصواتُ طيور الغرنوق الحبيبة.

إني أرى تمَوّجَ أرواح الرّوس العاتمَ،

إنها تفيضُ بأحاديثِ زوّار الحانة.

**

أما أشجارُ البتولا، التي كانت ترقصُ رقصة الحلقة

أراها قد اختبأت خلفَ المنعطف.

الناسُ هنا يلجؤون إلى شرب الكأس،

ناسينَ ما قد أمرَ به الرّبْ.

**

إني أستنشِقُ نسيمَ سهولنا البارد،

ولديّ أملٌ بأنَّ كلّ شيء سوفَ يتعدّلْ.

لا يمكنَ لي، ولا لطيور الغرنوق

أن نتخلصَ من جذورنا الرّوسيةِ الأصيلة.

**

نعم، إنّكِ حزينة اليومَ يا بلادي،

وتعرفين منذ القدم هذه الآلام،

و إذا كان نصيبُكِ من المآسي كبيرا −

هذا يعني أنَّ في ذلك إرادة الخالقْ.

**

إني سأخرُجُ عاريَ القدمينْ

كي أتنعمَ بذلك الندى،

ها هو الضّبابُ يُغطي النهر.

آه يا موطني الغالي،

إني لأجلِكَ أحيا.. حقاً

من هنا تبدأ أراضي بلادِنا روسيا.

2002

***

Бескрестье

غِيابُ الصّلبان

برجُ الأجراس يعلوه غطاءِ الرأس الرّوسيّ المُذهب،

في الرّوح إحساسٌ بالألم، ويُسمعُ ثِقلُ الآثام،

ما كنتُ أؤمن، وقد فقدتُ الثِقة بالناس،

فقدانُ الإيمان أكثرُ سوءا من الهرطقة.

**

عندنا – إذا أنتَ لم تقتلْ لا تطلب التوبة،

ربما التوبة والعناءُ أمران مُتساويانْ،

خَفرُ الحراسة والخوارنة – في الزي الجميل،

والمسيرُ ليسَ منتظما − بل سريعُ الخطى.

**

كم من المآسي ارتبطت بالموت،

ها هي ستارتي قد أسدِلتْ.

التبصيرُ بزهرة الأقحوان أمرٌ عَبثيّ،

ما المَصيرُ سوى شيء بلا معنى...

**

التكفيرُ عن الآثام – أمرٌ أقرّهُ الخالقْ

عَملُ الرّهبان مع مساعديهم كان واضحاً

أما القديسون، ممن رضي عنهم الخالق، فقد عُذ بوا –

نرجوا أن تصلوا لأجلنا، لأجلنا نحن المُعتقلين.

**

أنظرُ من فوق الصّلبان،

أنظرُ إلى هذه السّماء الزرقاء

أنظرُ من فوق هذه الرّؤوس

أنظرُ أنا إلى روسيا .

غير قادر على التعرّف على هذهِ الوجوهِ،

كأنها قد اعوجّت وتكرنشتْ.

لا يمكِنكَ تقبيل الصّليبَ

فإنّ الصّلبانَ قد غابتْ.

2002

***

Я сдамся последним

سأكون آخر المُستسلمين

كم من الناس حولي قالوا:

كفاكَ عذابا، كنْ كما الجميع،

لقد وجَدتَ لِنفسِكَ مَكانا تحتَ الشمس،

لماذا لا تستقبل فجرَكَ الجَميلَ.

**

ذكرتهم بالحربِ، ولكنْ دونَ جدوى،

قالوا: لقد بيعَ كلّ شيء دون مشاركتِنا،

الحربُ.. نعترفُ بها وحدها،

نعترفُ بذاك النصر العظيم، وحده يُؤخذ بالحسبان.

**

قلت: لقد بقيت لدينا المُقدساتُ،

بقيت تلك الكنائِسُ، والأسماءُ الشهيرة ُ.

قالوا: لقد استسلمَ الجَميعُ،

أنتَ وحدك فقط غريبُ الأطوار.

**

أيها الإخوة.. عَبثا تحاولون..نحن لسنا قوما

نبيعُ أرواحَنا لأجل العيش الرّغيد،

حقا أنهم ضُعَفاءُ، يشيرون إلى الزمن،

حيث ضاعَ كلّ شيء، حسبَ ظنهم، وغابت الحقيقة.

**

نظرتُ حولي فوجدت أنّ الجناحين قد اضمَحَلا..

قام البعضُ هناك برفع الأيدي، وآخرون باطلاق النار على الأرجل.

ناديتهُم: " لا تستسلموا، العَدوّ لن يَرحَمَكم،

إنهم يقومون بشرائِكم لأجل كروشكم" .

**

أجابوا من ذلك الخندق: " توقفْ عن كلامِكَ الخشبي،

لقد وُعِدنا بالترفيع في هذا الأسر...".

إثنان لامنتميان فقط – شاعِرٌ، وكاتبٌ

قاما بتجَنيد القمَر في فصيل ٍ وطنيّ.

**

ألا ترون أنّ قيمة روسيا أكثرُ من قداسٍ يُقامُ (1)

هذا العدو قد عَرّى الضّميرَ، وأراهُ يتقدّمُ

بسهولة في أراضي وطني، نعم سأستسلِمُ،

نعم سأكون آخِر المُستسلمين – وبيدي قنبلة يَدويةٌ .

2006

***

В России

في بلادنا روسيا

مع رسمنا الدائم للصليب، غير أننا نعيش بلا خجل،

هذا الكأسُ كأسي، وقد غطوهُ بقطعةِ خبز، (*)

ليس الموتُ صَعبا في بلادِنا روسيا -

كأنما القلبُ لا يطالهُ الوجَعُ.

**

هذا السيدُ المتغطرس يقودُ سيارته بصَلفٍ،

يَدفعُ العامة إلى حافة الطريق، حيث الوَحل،

ليسَ المَوتُ - بالأمر المُخيف في روسيا،

بل الخوفُ الأكبرُ أن تعيشَ على الهامِش.

**

ها هم من جديد يقسّمونَ الحِصَصَ..

لهذا أرشين واحدٌ، ولذاك فِرستا (2)

أن يَموتَ المرءُ في روسيا ليس بالأمر الكامل،

قبل أن يقوموا بزرع الصليبِ على قبرهِ.

**

أه يا أشجار البتولا، ذات المناديل،

لقد كنت ضيفا بقربكِ بعضَ الوقت،

في بلادنا روسيا يقومون بتقسيم الأراضي بالعدل والإنصاف

هناك.. خلفَ جدار المَقبرةِ فقط .

**

هذه النفسُ مُعذبة كما الزجاج المَكسور،

لم يبقَ لي من الأيام سوى القليل القليل.

الموتُ ليسَ بالأمر البعيد في روسيا،

غير أنه دون البلادِ أقرَبُ.

2005

***

Крысы

الجرذان تغادر السفينة

السفينة لن تغرقَ، والشاطِئ قريبٌ

هاهي الجرذان الغريبة تغادر السّفينة َ

كون إتجاه السفينة لا يناسبها،

ويبدو أنّ عنبرَ السّفينةِ قد أصبحَ فارغا.

**

الجرذان تهربُ إلى أرض اليابسة الموعودة

كي تجدَ لذواتها الفاسدة الدّفءَ والرّاحة

وتسمَعُ صأصأتها اليائِسة:

لا تحرمونا من التأشيرة !

**

ما هو بالنسبة لهؤلاء أرض خصبة، إنما هو لنا مكانٌ ضحلٌ.

وما هو أمرٌ سامٌ لنا، بالنسبة لهم حبّاتُ كراميلا !

لذا تراهم مقابل حفنة قمح من يد غريبةٍ

مستعدون أن يرموا بنا إلى قاع البحر.

**

من غرائب الأمور عند وصول السفينة إلى الشاطئ،

عندما ترسو في الميناء، تسمَعُ جلبة هناك

كأنما يُرادُ بها إغاضة البحّارة

وما هذه الجلبة سوى جلبة تلك الجرذان.

**

ومن جديد نقوم نحنُ باستقبال من هربوا

ونقدم لهم الفرصة من جديد للقيام بفعل الخيانة !

من يعتز بوطنه الأم يدرك حتما

أن لا حاجة للإقتراب من سلالاتِ تلك الجرذان !

2022

***

* دميتري دارين في قصيدته التي نشرت فقط في وسائل الإعلام تحت عنوان (الجرذان)، التي قمنا بترجمتها وتسميتها (الجرذان تغادر السفينة)

الشاعر هنا يسخر من ضعيفي النفوس، يسخر من أولئك الذين ربطوا مصيرهم بالغرب وبالبنوك الغربية، إذ أنهم غادروا وطنهم روسيا ليس خوفا من قذائف قد تدمر بيوتهم في موسكو أو في إحدى المدن الروسية ...!! لا.. بل خوفا من غضب المؤسسات الغربية، وخاصة العم الأمريكي.

......................

* ولد دميتري دارين في 31 كانون أول عام 1964، في مدينة لينينغراد، وهناك نال تعليمه وحصل على شهادة الدكتوراه بالإقتصاد، غير أن الجماهير عرفته من خلال قصائده، و تلك المجموعة الكبيرة من الأغاني الروسية الجميلة والقريبة إلى القلب، التي هي من كلماته. لا يغيب عن البال أن للشاعر دميتري دارين تجارب وازنة جميلة ورائعة، وناجحة في عالم الدراما والمسرح.

الشاعر دميتري دارين، هذا الأديب والصحفي- قامة وطنية معروفة في روسيا ما بعد الإتحاد السوفييتي، فقد وقف ضد عملية هدم الإتحاد السوفييتي، وحارب النيوليبرالية القادمة من الغرب، وقاوم سلوك الإنحناء أمام سياسة أمريكا، وزلم أمريكا في الوطن الروسي، ودعا إلى عدم الإستسلام أمام قوى الناتو، هذه القوى التي عملت على هدم الإتحاد السوفييتي، وقسّمَت يوغوسلافيا، وقصفت المدن في صيربيا، ودخلت بغداد، وعملت على تحطيم الدولة الوطنية في ليبيا بزعامة القذافي، وكانت خلف ما سمي بالربيع العربي، وأشعلت نيران الحرب الكونية ضد الدولة الوطنية في سورية، ونراها اليوم تحيك المؤامرة تلو الأخرى ضد روسيا، والصين، وإيران، وسوريا، والعراق، ولبنان، وضد الشعب الفلسطيني. ويقف هذا الشاعر الفذ، بقامته العالية ضد الظلم، والعبودية، وضد سلوك القطط السمينة، والأخلاق الكومبرادورية، وما قدم من الغرب من إنحرافات وبدع، وما نشأ ونما في روسيا من شرائح باعت أرواحها للشيطان، وعملت ولا تزال تعمل لخدمة الغرب. بعد إعلان بدء العملية الخاصة ضد الفاشية الجديدة، والنازيين الجدد في أوكرانيا رحلت تلك القطط السمينة نحو الغرب، وإلى إسرائيل، ووصل عدد هذه (القوارض الهاربة) إلى دولة الإحتلال الصهيوني، كما جاء في إحدى قصائد الشاعر، إلى 32 ألفا.

دميتري دارين يُمجِّد التاريخ الروسي، ومنظومة القيم الروحية للكنيسة الرّوسية، والأعراف، والتقاليد الروسية، ويتغنى بروح المحبة والتسامح وهو يطالب بالوقوف إلى جانب الإنسان الضعيف، المظلوم.

نقدم للقارئ المحترم اليوم باقة من أشعار دميتري دارين - صديق حركات التحرر الوطني في أنحاء العالم، هذا الرجل المُحب لوطنه الكبير- روسيا.

هوامش ومراجع:

* دميتري دارين شخصية محترمة في روسيا الإتحادية، كان لي شرف التعرف عليه عام 2019 . قمت بترجمة عدة قصائد له، منها ما نشر في الأردن، ومنها ما نشر في سورية، وفي روسيا، ومنذ شهر آذار لهذا العام تنشرهذه الترجمات في صحيفة المثقف الغراء. أنا لا أقوم كما البعض بترجمة قصائد حسب الطلب. البعض مع الأسف قام بترجمة قصائد للشاعر المعارض يوسف برودسكي، الذي تقدم بطلب إلى القنصلية الإسرائيلية بنيويورك في أكتوبرعام 1973 كي يقبلوه متطوعا للذهاب إلى الأرض المحتلة كي يشارك في الحرب ضد العرب.

1. إشارة إلى أحد ملوك فرنسا، الذي قال: إن باريس تساوي القداس .

2. . أرشين: هو قياس روسي قديم يساوي ( 71 سم)، بينما فِرستا:

هو قياس طوله ( 1060 مترا).

* وضعُ قطعةِ الخبز على الكأس - هو تقليد روسي، وهو وفاء لروح الفقيد، وتوديع لها.

* قمنا بنشرهذه القصائد بمعرفة وموافقة الشاعر الروسي دميتري دارين.

3. Дмитрий Дарин. Безымянный Батальон. Москва. 2018 г.

4. Дмитрий Дарин. В Родных местах. Москва. 2019 г.

في نصوص اليوم