ترجمات أدبية

مثل بينلوبي: لودميلا بتروشيفسكايا

كانت هناك بنت تحبها أمها فقط. واعتادت البنت على ذلك ولم تشعر بالقلق. اسمها أوكسانا - اسم براق وحديث - ولكن رغبت بطلتنا باسم بسيط: تانيا أو لينا أو حتى زينيا. وكانت سيدة حصيفة وشابة وطويلة، ولكنها ليست قريبة من الرب. درست أوكسانا علم الغابات في جامعة من الدرجة الثالثة - وهي الوحيدة المتاحة لها مجانا. وبعد التخرج توقعت أن تحصل على عمل كتابي في وكالة حكومية تصنف به البتولا والتنوب على الورق. تقاسمت مع  أمها شقة من غرفتين في مبنى إسمنتي عادي. وكان لوضع المسكن مشكلة: تحتهما مباشرة في الطابق الثالث، تسكن عائلة شديدة الصخب أفرادها كحوليون يتسمون بالعنف. ويوميا يهتز المبنى من الصياح والخبط والركل: وكانت سيدة البيت تترك جماعتها بانتظام وتتخبط في الممر وتصيح "مجرم" و"النجدة". وكانت أوكسانا تمر خلسة من أمام بابهم المحطم. وكانت ترتدي ثيابا سوداء في الخارج وتعتمر قبعتها لتغطي بها وجهها. فقد كانت تعود إلى البيت في وقت متأخر، بعد هبوط الليل: وكانت لديها فرصة ثمينة أن تتلقى دروسا مسائية في اللغة الإنكليزية بأجر معقول توفره مدرستها.

وروت لها أمها حكاية عن شخص يدعى فلاديمير لينين، تعلم لغة جديدة بترجمة صفحة إلى اللغة الروسية ثم مجددا إلى لغتها الأصلية، فتبنت أوكسانا طريقة لينين، وترجمت نصوصا عن  التحطيب والتعويم والانزلاق - وتوقعت جامعتها من طلابها أن يحملوا الخشب على التيمز. اعترض الطلاب، مؤكدين أن إنكلترا لا تحتاج إلى حطابين روس يحملون شهادة جامعية، وتوسلوا أن يكون التعليم بلغة  إنكليزية عادية. في تلك الفترة كانت أم أوكسانا عاطلة عن العمل. وتخلت عن أملها بالعمل بصفة محررة مطبوعات وتعبت من مراجعة المسودات. اتصلت بالناشرين وأرسلوا لها "موادا اختبارية": رواية من جزئين، رواية تشويق وإثارة من خمسمائة صفحة، كتابا في العلوم الصيدلانية. وكانت مدة كل مشروع أسبوعين. في البداية سخرت نينا سيرغيفنا من هذه المواد ومن لغتها التافهة واختارت أفضل الشواهد لترويها على مسامع روكسانا:" عابر سبيل مر بالجوار" أو "كان قاعدا على مقعد". استسلمت لنداء إنسانة محترفة تعتز بنفسها وسهرت الليل وأعادت صياغة هذه العبارات البائسة حتى آخر فاصلة فيها. ولكن حينما حاولت الاتصال بما يسمى مخدومها، كانت تجيب عليها السكرتيرات فقط، وأخبرنها أنها، بكل أسف، لم تنجح في الاختبار. اشتبهت أوكسانا، وهي محقة، أن هؤلاء المدعوين بلقب ناشرين استغلوها بالمجان. عملت نينا سيرغيفنا كمحاولة أخيرة ملاحظة في مركز رعاية نهاري، وتقاسمت غرفة ضيقة باردة مع كلب بدين، وهو نوع من كلاب الحراسة لم يفارق الغطاء الذي تلتف به، ويرد بنباح عصبي على صوت المعلمة التي تعمل وراء جدار رقيق.

وسرعان ما تبدل هذا الحال الوضيع وغير المفرح للأسوأ. في واحدة من الليالي جاءت مكالمة من مسافة بعيدة: كانت من كلافا، أم أول زوج لنينا سيرغيفنا، الذي توفي في مطلع شبابه. والاتصال كان من بولتافا في أوكرانيا. وقامت كلافا هذه بزيارة نينا حتى بعد زواجها الثاني وإنجاب أوكسانا. وكانت معتادة على إحضار حقيبة من ملابس الصبيان وهي لحفيدها ميشا. قبل مرور فترة طويلة فقدت كلافا ابنها الأصغر أيضا. وتزوجت أم ميشا مجددا وسافرت إلى إسرائيل، ولكن ميشا رفض أن يغادر مدرسته وأن يبتعد عن أصدقائه وعاش مع كلافا. ولعدة سنوات توجب على  أوكسانا أن ترتدي ثياب ميشا المستعملة، ومنها توكسيدو زمردي بكتفين مبطنين وكان هذا يبكيها. فأوكسانا لم تقابل ميشا أبدا، ولكنها لم تحتمل هذا الحال.  وها هي خلفيات مكالمة منتصف الليل.

أخبرتها أم زوجها سابقا بصوت بارد ومعدني أن ميشا أضاع كل شيء: والناس الذين يدين لهم بالنقود استولوا على شركته، وتوجب عليها بيع شقتها والانتقال إلى كوخ صيفي. وأضافت كلافا إن الكوخ مصنوع من الخشب.  وهو دون كهرباء وماء منذ الصيف. وأحدهم سد بئرها بالنفايات. وحطب التدفئة قد نفد.  حاولت أن تحرق أغصان الشجر، ولكنها لم تشتعل. وكان البرد لا يصدق في هذا الشتاء - وبدأ الثلج بالهطول. وقد ذهبت إلى المدين لتقبض تعويضها ولكن قادوها بعيدا عن مبناها السابق: وأخبرها ميشا أنه يمكنهم احتجازها رهينة لو تعرف أحدهم عليها. وأنهت كلافا مونولوجها بقولها: عام سعيد لكم جميعا. اعتادت نينا سيرغيفنا أن تدعو كلافا للمجيء والمكوث معهم، ثم أغلقت الهاتف وحدقت بعينيها الواسعتين في ابنتها الطويلة، والتي ردت لها النظر. قالت أوكسانا مع تنهيدة:"ها نحن هنا مجددا".

كانت معتادة على تصرفات أمها اليومية تقريبا بخصوص التبرعات غير المتعقلة. وأحدثها مافعلته أمس في محطة بيلوروسكي. كانت نينا سيرغيفنا تعبر الجسر، وتفكر بحزن بمهنة المحرر التي انتهت على أعتاب غرفة الحارس، وحينها لاحظت أمامها امرأة طويلة ذات قوام صلب ومستقيم وتسير متخشبة وتحمل كومة من الثلج على رأسها كأنها تمثال بوشكين. مرت نينا سيرغيفنا بالمخلوقة العجيبة وأسرعت إلى محطة المترو الدافئة. ولكن لحقت بها المرأة وسألتها إن كانت ذاهبة إلى مينسك - فهي تتوجه إليها، بالأحرى ترغب بذلك، ولكن ليس معها نقود - وكانت ضحية للغش. قالت إنها جاءت من بيلاروسيا ومعها بعض مواد التجميل للبيع، ولكن المشتري لم يحضر، ولم تحصل على نقودها. وعرضت عليها المرأة جواز سفر بيلاروسيا. طلبت منها نينا سيرغيفنا أن تدخل إلى محطة المترو، فالجو بارد جدا ولا يسمح بالكلام في الشارع، نظرت لها المرأة برعب وقالت:"هل ستدلين الشرطة علي؟". آه. طبعا.  فالمسكينة لا تمتلك سجلا في موسكو ويمكن اعتقالها عند مدخل الأنفاق. سألتها نينا سيرغيفنا كم تحتاج من النقود لتعود إلى بيتها. تعبت المرأة الضعيفة من الحساب: خمسمائة ألف، كلا، ثلاثمائة ألف، كلا، ثلاثمائة روبل. قدمت لها نينا سيرغيفنا المال وكذلك خبزا كانت تحمله إلى البيت. وثلاثمائة روبل هو بالضبط ثلث ما تبقى من تقاعدها بعد دفع الإيجار. والحمد لله أن العجوز لم تطلب خمسمائة أو ألفا- كانت نينا سيرغيفنا ستلبي طلبها للمساعدة. وغالبا لا تنتظر أن يتسول الآخرون منها وتقدم مما تملك. بعد يومين اعتقلوا بابا كلافا في المحطة. كان مع بابا كلافا بعض الأمتعة: الرزمة المعروفة وتتضمن ثياب العمل الصيفي وحصلت عليها من المأوى، أيقونيتين ورقيتين، وكيس من التفاح. وكان حفيدها ميشا قد منعها من العودة إلى الشقة. ونتيجة ذلك لم يكن لديها قطعة ثياب شتوية واحدة، وكانت ترتدي القميص الصيفي في شهر كانون الأول.

علقت كلافا في بيت نينا سيرغيفنا الأيقونات الورقية وراء زجاج خزانة الكتب. وكانت تصلي لها باستمرار. ولكن بالسر كما كانت تعتقد. وبقيت تفاحاتها ليأكلها التعفن تحت طاولة المطبخ: كانت كلافا تتوقع أن تنضج في ليلة أول العام الجديد. وتقاسمت مع نينا سيرغيفنا كنبة تتحول إلى سرير. وكانت في الصالة ولكن لم تنم - حاولت جهدها أن تستلقي هامدة بين نينا سيرغيفنا والجدار. في نفس الوقت كانت الأم المتعبة والابنة تنامان دون أحلام، لاستغلال كل لحظة ممكنة للاستراحة. وعاودت نينا سيرغيفنا الاتصال بصديق نصف منسي كان يحاول تحسين أوضاعه. وساعدها بالحصول على موعد في متجر للأشياء المستعملة، ومنه حصلت نينا على جاكيت دافئ وثوبين منزليين سميكين من أجل كلافا. ومادة رقيقة ناصعة مطرزة بالذهب أيضا - كانت في السابق ستارة. سالت أوكسانا أمها بصوت ثاقب: ما النفع من هذه الأسمال - فهم يمتلكون ما يكفي من الرقع القديمة. ردت نينا سيرغيفنا ببراءة:"أتيحت لي فأخذتها. وتقريبا تبدو كأنها من الحرير".

لاحقا أعادت كلافا سرد الأحداث المأساوية التي قادتها إلى التشرد. فحفيدها ميشا يدير دار نشر صغيرة تطبع التقويم السنوي. وأراد التوسع، ولذلك وضع كراسة غالية التكلفة صممها فنان من موسكو (الذي أقنع ميشا أنه فنان عصره وأوانه). ولكن الكراس لم يحالفه النجاح في السوق، وأصبح ميشا دائنا للجميع. كان العداد يدور، وفي الختام أرسل له ممولوه "القبضايات" - عتاة مختصين بعصر النقود.

بعد ذلك انتسبت أوكسانا لدروس مسائية، ووجدت عملا في شركة تصميم للمساحات المفتوحة. وتأجل تخرجها حوالي سنتين. كان أجرها قليلا جدا، ولكنها أنجزت أعمالا هامة للمول والمكتبة. وتخلفت أوكسانا كثيرا عن حصص اللغة الإنكليزية. وكانت تحمل دائما في محفظتها نفس الكتاب: "كلب  آل باسكرفيل". وحاولت أن تقرأه على متن القطار. ولكنها كانت سريعا ما تغفو. وفي أوقات فراغها عملت نينا سيرغيفنا قدر المستطاع لإعادة الاعتبار إلى بابا كلافا بصفة مواطنة روسية، أو على الأقل مقيمة شرعية، لتتمكن من رؤية الأطباء. ولكن عاملها بلوتوقراطيو موسكو على أنها جاسوسة، ببساطة لأنها أوكرانية، وحرموها من حقوقها. تكلمت نينا مع محرومين كثيرين تعرفهم وقررت أن تذهب إلى بولتافا لتحصل على قطعة من الورق من الأرشيف المحلي تؤكد أن كلافا ولدت في ستافروبول ولذلك هي مواطنة روسية.  وتجمدت كلافا. خافت أن يستدل القبضايات على عنوانها في موسكو. ولدى عودة نينا المجهدة وبحوزتها الثبوتيات سألتها كلافا بهمسة خائفة إن قامت بزيارة بيتها. قالت نينا بمرح:"طبعا كلا. ذهبت إلى بلدية المدينة فقط وعدت مباشرة. والآن ستصبحين مواطنة وتكسبين تعويضاتك".

ذهبت كلافا لمشاهدة التلفزيون وشرحت نينا لأوكسانا أنها زارت بناء كلافا وثرثرت مع بعض الجيران. وهذا كل شيء: أخبرتهم أنها موسكوفية وتريد الانتقال إلى بولتافا - هل يوجد شقق للبيع في المبنى؟. قالوا لها: لا يوجد. قالت: ولكن سمعت أن الشقة العاشرة بيعت للتو. لم يعلق أحد. وساعة مغادرتها لحقت بها إحدى النساء وطلبت رقم هاتفها. وتقريبا أغمي على أوكسانا.

قالت:"متى ستفكرين بعقلك؟ لماذا أعطيت تلك المرأة رقم هاتفنا؟".

"أنت تعلمين كيف أخمن نوع الناس".

"هذا صحيح. عرفت نوع تمثال بيلاروسيا في ذلك اليوم فعلا".

"هذه المرأة المسماة فالنتينا ذكرت كلافا. وتذكرت ميشا وأمه كذلك. وأنها مهاجرة وتذكرت والده الميت. ابن كالفا. وكانت تعمل ممرضة في عيادة أطفال وعالجت ميشا في طفولته. تكلمت معها، فعلا، ولكن كنت أعلم ماذا أفعل".

"آه يا أمي. أراهن أننا سنستقبل قريبا بعض الزوار".

وكانت أوكسانا محقة.

في وقت متأخر من الليل من يوم 28 كانون الأول رن الهاتف بمكالمة بعيدة. قالت أمها:"أوكسانا تصرفي مع كلافا بسرعة".

تكوم جسم كلافا تحت الغطاء السميك. وارتعشت الكومة.

قالت:"من هم. القبضايات؟".

ردت:"لا. لا. هذه أم ميشا تكلمنا من القدس".

وما أن قالت كلافا ألو بصوتها المعدني انقطع الاتصال. قالت كلافا:"لم تحتمل الكلام معي. أخيرا تذكرت ميشا. فات الأوان - ربما رحل". وزحفت نحو الحمام.

في اليوم التالي أحضرت أوكسانا إلى البيت من مكتبها أصيص عرعر صغير - شجرة عيد ميلاد. همست كلافا بصوت ثابت:"آه عرعر. مثل شجرة شاهدة مدافن العائلة. كان ابناي هناك، وزوجي العزيز. شكرا يا أوكسانوشكا". كان مزاج كلافا في هذه الأيام مستقرا. تحب مشاهدة برامج التلفزيون البوليسية والتي ينتصر فيها العدل مؤقتا. كانت تهدئها ولكنها لا تزيد من تفاؤلها.

كانت نينا سيرغيفنا تعمل بجد على قطعة مثل الحرير تقريبا حصلت عليها من متجر أشياء مستعملة. كان "المطرب" الطليعي يملأ الشقة بالدق. وكانت كلافا في المطبخ تحضر فطيرة العطلة مع ما تبقى من تفاح المأوى.  وكانت أوكسانا تحاول الدراسة في غرفتها الضيقة حينما ظهرت نينا سيرغيفنا مع كومة من الأقمشة الذهبية. قالت لابنتها العنيدة بحذر:"هذه هدية العام الجديد لك. البسيها حالما تخرجين".

"ماما. توقفي عن تخيل الأشياء. لن أخرج. ولن أرتدي هذا".

"ولكن يا حلوتي كلافا تعبت بها أيضا. كانت خياطة محترفة. هل تذكرين التوكسيدو الأخضر؟ هي من صنعته".

"التوكسيدو؟ماما. لدي امتحانات بغضون أسبوعين. ومديرتي لا تمنحني إجازة. تقول ليس لديها الإمكانيات للاستغناء عن أي عاملة. وهي ترعى زوجها. وبختني طيلة ساعة. والآن فكري يا ماما. هل تعتقدين أنني مهتمة بملابسك المستعملة؟".

دخلت كلافا إلى الغرفة، وشاهدت كومة الحرير. همست من بين شفتيها:"آسفة يا أوكساندا. كنت أخيط بشكل ممتاز. ولكن يدي تعبتا. وأخبرتك يا نينا أنها لن ترتديه".

وانسحبت إلى الردهة وبدأت تصلي بصوت جهوري.

رمقت أوكسانا الساعة: بقيت ساعة للعام الجديد. استحمت، وجلست بشعر مبلول أمام الكمبيوتر القديم. لمست نينا سيرغيفنا كتفها. قالت:"من فضلك ياعزيزتي. كلافوشكا منزعجة جدا لأنك لم تجربيه. ماذا يكلفك ذلك؟ عمرها بلغ الثمانين".

جاء من غرفة كلافا دمدمة مرتفعة. استسلمت أوكسانا. في الحمام، وأمام المرآة، ارتدت الثوب الجديد. كان ثوبا مفتوحا مسائيا بعنق مكشوف ولفاح خفيف لتغطية ذراعيها العاريين. وكانت الأطراف قد طرزتها نينا سيرغيفنا.  فكرت أوكسانا: يا رحيم. لماذا هدرت وقتها على هذه التوشية؟ من سيراها؟ بل من سيراني؟. كان كفاحها المستقبلي اللامتناهي يخلو من العاطفة والفرح. وقد مر مثل لمعة برق خاطف أمام عينيها. مكتب دبت فيه الفوضى، مع أمينة مكتبة هي ديانا، ريفية جميلة ومسنة، ولكن ابنتها ترفض مكالمتها، وربة عملها أولغا حصان عمل لا يكل مع جيوب تحت عينيها، تقفز من عميل إلى آخر، بسيارة محطمة. والعملاء، زوجات الروس الجدد، بأحلامهم عن حدائق يملؤها عرعر قزم ينمو في أحواض نراها في الأوبرا الشعبية، وتزدحم بأشجار روسية بسيطة قميئة. لمست أوكسانا فجأة حافظة مواد التجميل غير المستعملة ومشطت رموشها عدة مرات بمكحلة. ونفضت شعرها المبلول بشكل موجة، وأضافت مسحوق وجه أمها لخديها، ووضعت الطلاء على شفتيها بكمية كبيرة. لماذا تفعل ذلك. لمن، لا تعرف. ليلة العام الجديد. الثوب الجديد. شعرها الأسود وصل حتى خصرها. فمها كبير ومتورد. ذهبت أوكسانا إلى الصالة. أمكنها سماع القرعات والصرخات المعتادة القادمة من الشقة السفلية. فتحت باب غرفة أمها. اتسعت عينا نينا وصاحت بانفعال نحو المطبخ:"كلافوشكا. تعالي. أميرتنا ارتدت ثوبك".

ضمت أوكسانا شفتيها بابتسامة ضيقة، وأعلنت تقول:"مثل بينلوبي كروز". نصف الموسكوفية أصبحت صورة تعبر عن أصل كلافا الجياش بالعواطف.

ضحكت نينا سيرغيفنا بمرح وقالت:"مرة في المساكن قبل سنوات قررنا جني الفطر. هرعت جارتنا فيرا - على الأقل في الثمانين - إلى المرآة وبدأت تطلي شفتيها. قالت أمي لها 'يا خالة فيرا نحن ذاهبات إلى الغابة، لمن أحمر الشفاه؟'. لن أنسى ذلك ما حييت. ردت 'من يعلم، ربما هناك ستقع المعجزة".

ضغطت كلافا شفتيها مجددا، تنهدت أوكسانا، ورن جرس الباب. فتحت نينا ضلفة الباب قليلا فرأت شابا غريبا.

قال:"عام سعيد يا سيدتي. يجب أن تنادي الشرطة. أحدهم يذبح تحت".

قالت أم أوكسانا:"لا تتعب نفسك. الشرطة لا تأتي إلى هنا منذ عهد بعيد. أخبرونا أنهم يأتون إذا مات أحدهم في نهاية المطاف". وأغلقت الباب وأسرعت إلى المطبخ وكان الفروج يحترق. رن جرس الباب مجددا دون انقطاع. تنهدت أوكسانا، حملت الهاتف، وتحركت إلى الباب.

الكحوليون بشر أيضا. فكرت بصمت. دعيهم يستعملون الهاتف اللعين.

كان الشاب لا يزال واقفا على عتبة الباب. وبيده حقيبته الجلدية الثمينة. وحينما شاهد أوكسانا سقط فكه. همهم:"معذرة. هل يمكنني الكلام معك؟".

سالت أوكسانا بنفاد صبر:"ماذا؟".

وفجأة باشرت كلافا بالصياح:"ميشا".

صاح من الأسفل رجل مخمور:"يا صديقتي. يا صديقتي عودي بالحال". وتوسلت امرأة أن ينادوا الإسعاف لأن هاتفهم مقطوع عن الخدمة. تابعت كلافا العويل قائلة:"ميشا، هل هذا أنت؟".

أومأ الغريب بصمت وهو ينظر بأوكسانا، دون أن يتمكن من نطق كلمة. أخيرا سأل:"هل يمكنني الدخول؟". اقتربت الأصوات من الأسفل. تنهدت أوكسانا وأفسحت له الطريق.

قال ميشا:"من فضلك يا بابوشكا توقفي عن الصياح. اسمحي لي أن أبدل ثيابي أولا".

ثم خاطب أوكسانا:"هل بوسعي معرفة اسمك يا آنسة؟".

نظرت أوكسانا له بعينيها العريضتين، وشدت رقبتها الطويلة، وردت بهدوء:"زينيا". كرر ميشا:"زينيا. يا له من اسم جميل. لا أريد غير ذلك في هذه الحياة".

شاهدت كلافا الموقف. وتبع ذلك تأوهات وصيحات تعجب وعناق وقبل. وأكد ميشا أن كلافا ستحصل على شقة جديدة. وفي تلك الأمسية سيعتني بها - وهنا هدايا للجميع.

لاحظت ماما نينا ابنتها وتساءلت من أين جاءتها هذه الحركة المباركة البطيئة، والبريق في ضحكات عينيها السوداوين. وتموجات انسياب شعرها. أما هذا الثوب الرائع… طبعا، لقد فصلته هي بنفسها.

***

........................... 

* ترجمة عن الروسية آنا ساميرز Anna Summers.  2013

* لودميلا بتروشيفسكايا  Ludmilla Petrushevskaya

روائية روسية معاصرة من جيل البيروسترويكا.

ترجمة صالح الرزوق

في نصوص اليوم