ترجمات أدبية

فريدريك: مقتطفات من رواية الهروب

بقلم: عبد الرزاق قرنح

ترجمة: د. صالح الرزوق

كان فريدريك تيرنير في طريقه إلى المزرعة حينما بلغته الأخبار. فهو يذهب إلى المزرعة كل صباح ثلاثاء حالما تسمح له الظروف. والظروف هي قراءة رسائل وتقارير، ومعظمها يتكلم عن سكينة وهدوء متوتر ومشاكل مؤجلة. ولذلك منذ وصوله إلى المدينة لم يتخلف عن رحلة إلى المزرعة. كان  يذهب صباحا، ويمكث طيلة ما بعد الظهيرة وحتى المساء، ويبكر بالعودة في صباح اليوم التالي. وساعده ذلك على أن يكون ضمن الجو، فالخروج والتجوال يوفر فرصة لرؤية أشياء رأي العين، وفرض ذلك على بورتون مدير المزرعة أن يكون حريصا، مع أنه ليس تحت أمرته مباشرة. قام بورتون بزيارته في أسبوعه الأول في المدينة، حينما جاء ليتفقد البريد، ودعاه لزيارته عندما يرغب. ولم يكن هناك أحد غير الإنكليز، ويمكن القول إنه بالإضافة لمتعة القيادة كان يؤدي واجبه. كان بورتون شخصا مرنا وحذرا بما يكفي. متوسط الطول، بوجه مستدير وضخم ومحمر من الشمس، وبخلقة ثقيلة وأخلاق عشوائية. وله هيئة مزارع إنكليزي حرقته الشمس. وهو واسع الاطلاع ومجدد في عمله الميداني، يشبه عالما لديه مشاريع تحت الاختبار، مثل أحواض الماء والمرشات والمشاتل. ولكنه يترك لديك الانطباع أنه يتثاقل من عمله المفروض عليه  مثل حارس شاطئ، وهو ما دفع فريدريك ليشتبه أنه سيجلب المتاعب لنفسه لو بقي معه لفترة طويلة. هناك تلك النظرة الغريبة أحيانا، كما لو أنه يفكر بشيء أحمق. اعتقد فريدريك أن بورتون يتوقع من زواره البساطة والثرثرة، وينتظر فرصة لجلسة أنس وشراب. لكنه لم يكن الإنكليزي الآخر الوحيد في المنطقة، إنما الشريك الآخر الوحيد، ومن تبقى مجرد شيوخ جوجارتيين وعرب، بالإضافة لخليط من المحليين. ومن العبث أن لا تأنس له. وكان كلامه يدور حول محمية أوغندا والمرتفعات الداخلية والبحيرات، وكل المزارع الكبيرة التي سيتم تأسيسها هناك بعد الانتهاء من مد خط الحديد. وبتعبير بورتون هذا هو الهدف من المحمية.  فالسياسيون والصحف مغرمون بالكلام عن المناورات الدولية بلغة مفوهة، ولذلك إن محمية أوغندا وخط الحديد، بنظرهم ونظر بقية الحكام الجالسين على الكراسي، لهما هدف وهو ضمان مياه النيل وعدم سيطرة فرنسا عليها. وبرأي بورتون وبتعبيره أيضا على العديد من الأشخاص العنيدين مثله، أن يفتحوا مرتفعات هذه البلاد الجميلة، والتي وجدت ليحتلها الأوروبيون، ولكن المستسلمة حاليا لمتشردين وهمجيين ومصاصي دماء من العصر الحجري.

 كان بورتون يتكلم بتلك اللغة  المباشرة كلما أراد أن يؤكد أنه ينظر إلى العالم بعين العقل لا العاطفة، وبعد أن يزدرد كأسا أو اثنين. لم يذهب فريدرك إلى المرتفعات حتى الآن، ولكنه يفكر بزيارتها ليأخذ نظرة في أحد الأيام، فقط ليأخذ نظرة. أما العمل الذي رغب به فهو إدارة مزرعة واسعة الحياض والحدود، مثل التي شاهدها في كايب الشرقية في جنوب إفريقيا. كان فريدريك يشك بطبيعة بورتون، فهو ذلك النوع من أصحاب الكلمة النافذة، شديد العزيمة ودمه بارد، ولم يمر مثله في جيل أو جيلين، باستثناء الموهوبين والأذكياء. كان بورتون قد أنفق وقتا كافيا مع العمال، يضرب على الطبول ويرقص، ليؤكد أنه ليس غريبا عنهم. وكان يقود مطيته إلى المزرعة ببراعة. يتوجه بها في معظم الأيام، بعد الظهيرة، شمالا على طول الشاطئ. وحينها لا تقاطعه عوائق على امتداد أميال حتى النهر، أو ينحدر جنوبا ويدور حول الخليج حتى يبلغ هدفه، ولكن يتخلل طريق المزرعة أرض وعرة تتطلب الحذر. وتوفر لفرسه مجنون فرصة الجري، التي يكون بحاجة لها مثل أي شيطان رقيق. أما سائسه إدريس فيرافقه على المهرة شريفة، ولذلك يجد الحصانان العربيان نفسيهما على الطريق مرة في الأسبوع على الأقل. وكان قد أحضر الجوادين مع إدريس من الهند، ولم يكن عليه إلا أن يندم على هذا الأمر. ليس لأن الحصانين يسببان المشاكل، ولا لأن إدريس متعب، رغم جوه الكئيب والمنهك، ولكن بسبب انتشار الحشرات الفظيعة في المنطقة. فقد أصابت الحصانين بالحمى أول الأمر، وتطور ذلك إلى وزمات، وانتهى بالشلل والموت. في هذه الأرجاء لا تحيا غير الحمير. كان جواداه بحالة جيدة، ثم فجعه أن يكتشف المصير الذي ينتظرهما، وكان قد أتى بهما، وقضي الأمر. كانت حماقة منه أن لا يكتشف ذلك قبل المصاب. وهو أمر يبعث على الأسف والندم. ولو عرف هذا وهو في الهند لاتخذ، طبعا، ترتيبات مناسبة، قد تكون مفيدة في وقت لاحق. ولا سيما أنه حصل عليهما بصفقة صغيرة. فقد عانى أحد ملاك الأراضي، وهو من السند، من مصاعب في تسليم شحنة قطن اتفق عليها مع شركة بريطانية، وأعانه فريدريك. وبالمقابل نصحه ملاك الأرض بشراء الجواد العربي، وحدد سعرا زهيدا للمهرة، كما لو أنها هدية. قال: القرار للسيدة زوجة الصاحب حينما تعود من إجازتها (اسمها كريستي - ولم ترجع). وبدا له الأمر أنه منة وكرم مفرط، ولكن يمكن إساءة فهم الكرم والامتنان الشرقي، ولا سيما إذا كان من موظف حكومي. والأمثلة المزعجة المثيرة للشك معروفة - يتذكر موظفي كلايف وهاستنغز وثاكري - سرق أولئك السادة ثروة الدولة، وأفرغوا المستودعات، بينما فريدريك مشغول ببعض الأعمال الباهتة. وفكر: كرم مالك الأرض يأتي من حياة ذات درجة عالية من القناعة، وهو سلوك وواجب فقدته إنكلترا لأن حكامها يميلون للمشاحنة والحسد. وجاء إدريس بالحصانين، ربما لأنه لم يكن جاهزا لمفارقتهما. كان اسمه يعني السريع والصادق، وهذا ما أخبره به مالك الأرض، تيمنا بشخصية من الكتاب المقدس. ولم يكن لدى فريدريك وقت للاطلاع على القرآن، ولكن يمكنه أن يرى أن الاسمين يناسبان حاملهما. وكان قاسيا ومتين البنيان، ولا يبتسم بسهولة، مع ذلك هو رقيق مع الحصانين كما لو أن دمهما يجري في عروقه. كان فريدريك يحلم بسلالة من الجياد لبعض الوقت، ولكن شريفة لم تكن مطيعة رغم الجهود التي بذلها مجنون. غير أن الحصانين المسكينين ليسا خسارة. فقد أرسل خبرا إلى النادي في مومباسا، وتلقى إجابة من السيد كوان، الذي يخدم في قلعة سميث، وكان على الشاطئ بعطلة. وبدوره دعا فريدريك السيد كوان لزيارته وفحص الحيوانين بنفسه. وكانت مومباسا على بعد رحلة يومين بالقارب. ولم يكن إدريس متحمسا للرحلات الأسبوعية إلى المزرعة، مدعيا أن الحصانين لا يألفان المكان بسبب الضفادع المزعجة. وهناك بالفعل الكثير من الضفادع نتيجة وجود العديد من حفر السقاية، ولكن لدى فريدريك إيمان قوي أن إدريس مهتم بالشركة مثل أهل راجبوتان، ولا يحب جو المزرعة. وقد رفض النوم في صالات عمال المزرعة، ومعظمهم عبيد سابقون، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها. وقد هربوا من مالكيهم قبل سنوات بالخديعة ووجدوا عملا في الشركة، وكانت هذه لا تزال أرضا للشركة. ومنذ الإعلان عن تأسيس المحمية، لم يتبق، بالطبع، أي مجال للعبودية.

كان بورتون يدربهم على لعب الكريكيت، وكان يحلم بعقد مباراة يتحدى بها المدينة، حينما يسنح له تكوين فريق من الهنود هناك. في كل حال رفض إدريس المشاركة في مأوى الرجال. وتبدل ذلك بعد أن انتهى من رعاية الجوادين، واعتاد أن يمضي مساءه في المزرعة جالسا على سلالم الشرفة، تحت أنظار مخدومه، يقرأ القرآن على ضوء مصباح، أو مخدرا بالنعاس بانتظار نهاية الأمسية. وعلى بعد حوالي مائة قدم، يتناهى صوت كلام وضحك من مأوى العمال، وكان يندلع بين حين وحين بشكل تهكم ومزاح مكشوف، على طريقة الحوار المعتاد بين رجال دون نساء. والقناديل تحترق هنا وهناك بلمعة ذهبية تأتي من فتيل زيت جوز الهند. وحاول بورتون أحيانا أن يحض إدريس على الانضمام إلى الرجال، أو أن يقدم له شرابا على سبيل الدعابة، ولكن إدريس رفض العرضين بتهذيب يخلو من أي ابتسامة. تعاطف فريدريك مع هذا الحال، ورأى أن مزاح بورتون اللاذع غير مستساغ. وحينما استعد للنوم، تسلل إدريس إلى الحظيرة التي  بناها فريدريك لزياراته الأسبوعية، والتي زودها عمدا بدكة، كان يمد عليها إدريس فراشه. وكان إدريس هو من هرع، بعد انطلاقهم مباشرة، ليخبره عن الرجل المصاب.

حينما انعطفا إلى الشمال قبل السوق، لتجنب الروائح الكريهة، والزواريب المتعرجة حوله، والحفر المزدحمة والقذرة في الجدران والتي استعاضوا بها عن  الدكاكين، مرا بالمكتب المظلم للوكيل المسن صديق. كان فريدريك يعلم تماما أن معرفة ما يجري من مهام الوكيل. وكان واحدا من اثنين فقط في البلدة. ولكنه يعلم كذلك أن الوكلاء الهنود  مراوغون وعدوانيون، ويعيشون حياة متدنية تشبه علامة محفورة على قشرة صلبة  في المخابئ التي يلجأ لها اليائسون واللامبالون. شاهدهم يكدحون في الهند، يغشون ويقرضون النقود دون أن يكون لهم اسم. وكان يجهز نفسه لتجارة رسمية مع  كائن كريه، ولكن هذا لا يعني أنه يجب أن يعرفه حينما يكون في نزهة أو رحلة. جاء الوكيل حينما شاهدهما يركبان الحصان ويمران به، وصاح بشيء ما، وتجاهله فريدريك. نادى مجددا، وفي هذه المرة رد إدريس وتوقف ليسمع الجواب. كان فريدريك يعرف أنهم يتكلمون بلغة كوتش، وسمع كلمة أنغريز، فافترض أنهما يتكلمان عنه، بطريقة طفولية أو ما شابه. ثم أسرع إدريس إلى الأمام ليخبره بلغته الإنكليزية الضعيفة أن الأنغريز مصاب إصابة خطيرة. ثم تقدمهما صديق نفسه في الطريق. أولا أغلق وأقفل الأبواب المدعمة الضخمة لمكتبه، ورتب قبعته المطرزة بالذهب على رأسه، وطلب منهما أن يتبعاه بإشارة استعراضية. نظر فريدريك للرجل الصغير الأحدب. وحينما شاهده يتقدم نحو منطقة الزواريب التي تفضي إلى السوق، طلب منه أن يتمهل. كان اسم مجنون مناسبا لتلك الممرات المزدحمة والمحفورة. هبط عن ظهر حصانه وسلم الرسن لإدريس. نظر لسائسه، وتوقع نظرة قلق أو اهتمام لأنه يتوجه على مسؤوليته إلى أحياء المواطنين المحليين، برفقة هندي مجهول سيقوده ويكون دليله، ولكن لم يلاحظ الارتباك على وجه إدريس. وترجل بدوره، وقبض على الرسن، ثم مباشرة تقريبا بدأ بالتقدم نحو ظل شجرة. تبع فريدريك الوكيل، مبتسما لنفسه، مع قليل من خيبة الأمل لأن إدريس لا يبدي المزيد من الاهتمام. كان إدريس رجلا صلبا، ولهذا السبب اختاره، ولكن شعر تجاهه بشيء من الهم والتعاطف. وتوقع أن إدريس يرى نفسه بحالة تحالف ما معه، عهد وافق عليه حينما قبل النقود منه ووافق أن يتبعه بصفة سائس. وحسب مفهومه القديم للشرف لم يكن خادما أو وضيعا. كان فريدريك أحيانا ينتبه أنه يراقبه بنظرة يمكن وصفها فقط أنها عاطفية، أو حتى مطيعة ومؤمنة، مليئة بالحب الرجولي. وتوقع أن بورتون لاحظ تلك النظرة أيضا، واهتم فريدريك لسماع بورتون يقول مرة: الرجل مستعد للموت فداء لك. وتساءل ماذا سيفعل إدريس بعد أن يبيع الحصانين. وذكر فريدريك نفسه أن يستفسر عن عائلة إدريس وأن يمنحه هدية يقدمها إليهم.

سار الوكيل على الطريق في المقدمة، وكانت بشرته حنطية ومجعدة ورقيقة، وعموده الفقري مقوسا. وافترض فريديرك أن السبب يعود للعمل الوظيفي الذي أنهك حياته. (وردد فريديرك مرتين أو ثلاث مرات عبارة: رجل مسن ومتعب. وأودع الفكرة في رأسه ليتمكن من كتابتها لاحقا). كان يرتدي سترة بيضاء قطنية مزررة حتى العنق، وسروالا ضيقا، وصندلا جلديا بنيا وقبعة مزركشة بذهب له بريق مخضر. كانت حركاته رشيقة وغير ثابتة، يتخللها عدة إشراقات وانحناءات وتكشيرة تبرز من ورائها أسنانه. وهذا كل ما علق بذهن فريديريك. شيء ما فيه دفع فريدريك للتفكير بأحد صغار الأشرار في أعمال ديكنز - شيء واضح حقا. وفي غضون دقيقة دخلا في أزقة منحنية وضيقة ضمن أعماق البلدة، حيث الأسطح تقريبا تتلاقى فوق الرؤوس. مضى عليه هنا حوالي أربعة شهور، ولكن كانت هذه ثالث مرة يدخل فيها إلى هذه الشوارع المهدمة. حتى أن الدروب تعرضت لأثر التعرية من جراء الأمطار وبفعل جداول كريهة من المصارف الصحية، كما أنها كانت مغطاة بالنفايات. وتوجب على فريديريك أن يحرص في كل خطوة يخطوها. وبمجرد أن وصلا إلى المنطقة المغطاة بالضباب والعتمة، حاصره هدير، صخب دون كلام، كما لو أنه أصبح في فضاء يدمدم فيه العديد من البشر بلهجة خافتة. وشاهد كومة تأتي منها روائح النفايات والبالوعات. كان المكان كله بحاجة للهدم والإزالة، ولكن لم يكن لديه تمويل يتكفل بنفقات وتكاليف مثل هذا العمل. 

أجبر نفسه على التقاط أنفاس سريعة، ومع ذلك كانت غريزته تهيب به أن يستنشق جرعات ثقيلة ليتخلص من الشعور بالاختناق الذي انتابه بين الزحام وخلال الأزقة الخلفية. كان الناس ينظرون له مرارا وتكرارا، وسمع صرخة تقول عنه إنه “ميزونغو” . وكل من كان يجلس أمام كوخه نهض باهتمام وربما بوجل. وتقدم رجل مسن وقبل يده. لم يكن فريديك جاهلا بمثل هذه التصرفات التي تدل على التبجيل. أحيانا بعض المسنين المحليين يقبلون يده لأنهم يعتقدون أنه الرجل الذي حرر العبيد قبل سنوات عديدة. ولم يعترض فريدريك على قناعاتهم. فهي ليست ضارة وتسهل بعض الأمور أيضا. وشاهد وجوها تتابعه، ولم يكن متيقنا إن كانت تدل على الاحترام أو على شيء غير ذلك، كأن تدل على حيرتهم من الرجل المعمر أو تنم على امتعاضهم منه. وكان أصحاب الدكاكين يخرجون من دكاكينهم، ويقتربون منه، ويحاولون إغراءه ببعض بضائعهم الكاسدة، أشياء قد توفر لهم أسباب الحياة: كومة صغيرة من الفحم، برتقالتان، حفنة من البيض، وأسوأ شيء في ذلك، أن يكون البائع قذرا مهلهل الثياب.  كان الأطفال يلوحون له ببلاهة ويحاولون قطع طريقه، وهم ينادون “ميزونغو، ميزونغو”، لكنه تظاهر أنه لم ينتبه لهم ولم يشاهدهم. وسمع أشياء أخرى ولكنها ليست واضحة. وحاول جهده أن لا يهتم. دعهم يرفعوا أصواتهم بالكلمات التافهة القذرة، إن كان هذا يفيدهم بشيء. استفزته أصواتهم مثل أزيز حشرات أو ثغاء حيوانات، مثل أنين نساء الشوارع المنهكات في أزقة باحة لندن. لوح البانيان (التاجر) الذي أمامه بذراعيه للزحام بانفعال، وهو يصيح بيأس، مؤكدا أنها حالة طارئة ولا تحتمل الصبر. وهم فريدريك أن يلمس ظهره المشدود بعصاه، وأن يخبره من بين أسنانه المطبقة أن يضبط نفسه بمزيد من الصبر قبل أن يجعل منهما مادة للسخرية. وتقدم بأفضل ما يمكنه، مع الاحتفاظ بخطوتين على الأقل بينه وبين الوكيل الذي يشق الطريق أمامه، بثقة وعزيمة قوية. لم يكن فريدريك رجلا ضخما، ولكنه كان متينا وقويا، ولذلك لم يتأثر لا بالزحام ولا الضجيج، ليس على نحو يذكر. كان خائفا من احتمال الإحراج والسخرية إذا سقط في المياه القذرة أو إذا تحرش به مأفون متدين. ولم يكن أحد بحاجة للتذكير في هذا الجزء من العالم أن الآلة البريطانية المتسلطة لا تستسلم. وفي حال التذكير بها، شأن الأحداث المذهلة التي وقعت في أم درمان في السنة السابقة، سيبدو وقعها مثل خبر يبلغ مسامع شخص آخر. لكن أحيانا تكون الجماعات المحلية مستعدة دائما للشغب، وهكذا وجد من المفيد أن ينظر إليها بشيء من الحرص والسلبية ليسيطر على انفعالاته منها. وتساءل ترى من هو الرجل الجريح. ورجح لديه أنه شخص من البعثة اللوثرية الموجودة في شمال الدلتا، والتي بقيت حتى بعد التوقيع على اتفاقية 1886 وتوزيع السلطة ورحيل المحتل الألماني. كان ذلك قبل سنوات من مجيئه، وسمع به من بورتون. فقد ارتكب الماساي هناك مجزرة، ولاقى المبشر الميثودي وزوجته وعدد من رعاياهم الموت. رجل لا يهاب، بكل المقاييس، يتجول في كل مكان، غير مسلح إلا بمظلة مفتوحة، ويبحر بقارب في النهر ذهابا ومجيئا كما لو أنه لم يسمع بالتماسيح أو السهام المسمومة. لا بد أنه كسب احترام السكان المحليين لأنهم لم يأنفوا من بعثته ولربما انضم إليها بعضهم. لم تكن النتيجة مألوفة، حسب معلوماته على الأقل، فالبعثة تبشيرية وعملها حماية الأرواح.

من المدهش أن الماساي هاجموا الموقع الموجود قرب الشاطئ، واختاروا أن يكون رجل متواضع من رعايا الرب مع أتباعه ضحيتهم. اكتسحوا منطقة واسعة في الداخل وأصبحت ساحة لهذه الأفعال الدموية. تذكر ذلك السطر في قصيدة “مونت بلانك” لشيللي عن صخور ضخمة موزعة حول الجبل، حيث تبدو الطبيعة المنهوبة مثل ساحة يلعب فيها إله الزلازل والعواصف. كان الماساي آلهة محليين لطبيعة هذه الأرض المنهكة. وتوجد حكمة شائعة تقول إن الماساي لا يغيرون إلا على المواشي، مثل أسد لا يهاجم إلا حين يجوع. ولكن يعتقد فريدريك أن لكليهما شهوة مفرطة للدم والقتل، وابتهل لربه أن لا يضطر يوما للبرهان على نظريته. هناك احتمال بغزو الماساي للبعثة اللوثرية، وإن لم تفعل الماساي ذلك ستفعله قبيلة معادية غيرها، مثل الغالا أو الصومالي أو أي جماعة متوحشة جوالة. فالنهر يجرهم إليه مثل مرور السائل في قمع، وكما جذبت الأنهار القبائل البربرية منذ بداية الأزمنة. وتلقى أيضا نبأ من مومباسا يخبره أن الميثوديين يخططون لبعثة إضافية، ستكون أقرب للبلدة في هذه المرة، لذلك سيكون بوسعهم الصيد بسهولة وأمان، وسيكون القس هوليداي جاهزا، وسيأتي حتما من مومباسا عبر النهر وليس البر. هذا الشيطان المسكين سيأتي من الداخل. لا، كانوا، في الصورة التي تداعب رأسه، يختارون طريقهم وراء أكوام النفايات والبيوت المتداعية ذات الأبواب المتعفنة، جيش منهك من المحليين المؤمنين يقفون بجانب نقالة قديمة أتوا بها لنقل القس الطيب من هذا المكان لموضع آمن. وجعله ذلك يفكر باثنين زنجباريين مؤمنين حملا منذ عدة سنوات الجسم المحنط للقديس الدكتور ليفينغستون ولمسافة آلاف الأميال من البحيرات العظيمة وحتى شاطئ باغامويو. أولا انتزعوا قلبه من صدره ودفنوه في مكان موته، ثم حنطوا جسمه. كيف فكروا بذلك؟. من أين جاءت لحارسين محليين فكرة عمل رمزي له مثل هذه الأهمية؟. تخيل مزارعين أو اثنين من عمال السخرة المحليين يفكران بهذه الطريقة. ربما ترك الدكتور الطيب تعليمات وتوصية بهذا الخصوص. ولكن حتى لو كان ذلك صحيحا، لماذا لم يلقيا الجسم في أقرب مستنقع وعادا بعد ذلك إلى البيت؟. أي قديس كان هذا الرجل ليلهم أتباعه ذلك الإخلاص. كان يتبعه جيش بائس من المتشردين والكسالى، مع ذلك لم يكن الإخلاص والوفاء في طبعهم، وكل ما في رأسهم مجرد فضول فطري يدفعهم للمكابدة، ومشاعر تؤثر بالذهن المعطوب والفارغ.

وفجأة انتهى الزقاق، وانفتحت أمامه ساحة رملية مشرقة ومضيئة. جمد من المفاجأة وصدمته السعادة الناجمة عن الفضاء المفتوح. وتقدم شخص ما نحوه من الخلف، ودون أن يلتفت ضرب بالعصا التي بيده، وتأكد أنها أصابت مخلوقا من عظام ولحم. ثم سمع صيحة ثاقبة طفولية، وتبعتها قهقهة، ولم يتمكن فريدريك من أن يلجم ابتسامته. شاهد جامعا صغيرا أبيض في الزاوية الأخيرة من الساحة وبجانبه طريق.  ونافذتاه وبابه بحالة يرثى لها، وكانت نصف مفتوحة، ومطلية بلون أزرق متوسطي مدهش، مثل لون ثوب مادونا في لوحة للفنان تيتيان. وفي نهاية الساحة القريبة منهما، وعلى الجهة اليمنى، مقهى كئيب فيه طاولات رخامية. وخارجه مقاعد طويلة تشبه الدكة. ما الغاية من طاولات مرمرية في هذه الغابة الضيقة؟. وراء المقهى بيوت من الحجر، بعضها من عدة طوابق، وما تبقى متواضعة ونظيفة وتصلح للاستعمال. ثم انفتح زقاق آخر على الساحة، وشاهد عدة أزقة أخرى تصب على الساحة أيضا. وعلى يساره المزيد من البيوت، بستائر عوضا عن الأبواب، وكانت النسمات تفح فيها وعلى ما يبدو أنها تهب من الطريق العريض الممهد على الجانب المعاكس من الجامع والذي يقود إلى مزرعة مفتوحة تلوح من بعيد. وأمكن لفريدريك أن يشعر بالنسمة من مكانه، حيث وقف، وتساءل أين هو ولماذا لم يخبره أحد عن هذا المكان البهيج في هذه البلدة المتهدمة. وحاول أن يفطن بحدسه الشخصي لموقعه على الخريطة الموجودة في مكتبه. كان الوكيل، الذي توقف بدوره واستدار نحوه نصف استدارة، يشير لما خلف البيوت المصفوفة على يسار فريدريك، وهو يبتسم ويومئ برأسه مهنئا نفسه.

قال الوكيل:”سيدي”. كان يأمل أن يتبعه فريدريك، فقد هز رأسه بدافع من الشعور بالرضا عن الذات. أما الحشد الذي رافقهما عبر الأزقة فقد تخطاهما وانتشر في الساحة، ووجوههم على الاتجاه الذي أشار له الوكيل. وما أن سار فريدريك خلف الوكيل حتى رأى “دوكا”، دكانا صغيرا، أمامه، وهو حانوت مزدحم بالبضائع ومنتشر في كل المدن الهندية، وقد أدخل هذا النظام في هذا الجزء من العالم التجار الهنود. ولكن ليس كل شيء يعود إلى الهنود، لدى تجار حضرموت هذا الأسلوب في التجارة، إنما الفكرة للهنود. وتساءل إذا كان ذلك يفسر ترتيب الباحة، إن كان هذا خليجا هنديا. في هذه الأنحاء، أينما ذهب الهنود، تتبعهم شهرتهم، ولكن طبعا تتوقف على طبقة الهنود أنفسهم. في زنجبار شاهد طبقة كناسي الشوارع التي تزدحم في المدن الهندية، وتعيش بظروف متدهورة، وتتسول في الطرقات، وترافقها دائما فوضى وأنين وصراخ، ومعظم الباعة الجوالين الذين لديهم حوانيت محفورة في الجدران، هم من بين الهنود. ولكن الحكمة العامة صحيحة: إن وجدت البائع المناسب في منطقتك ستزدهر أحوالك.

كان هناك زبونان أو ثلاثة أمام الدكان، وبعض المسنين الجالسين على منصة بجواره. وتساءل فردريك لماذا هم ذاهبون إلى الدكان أصلا، ربما للاستفسار عن الاتجاه الصحيح. ولم يشاهد إشارة تدل على مرافقه البائس والمطيع. باعد ما بين خطواته وأصبح بجوار الوكيل المسرع، واقتربا من الدكان. نهض المسنون على أقدامهم وكذلك فعل “دوكا والله - صاحب الدكان”، وهبط بسرعة من الرصيف الذي يعلو بضاعته. هم يفعلون ذلك، بانتباه واحترام كلما اقترب منهم أوروبي، وفهم فردريك لماذا. وفجأة، كما يبدو، انخرط الجميع بالكلام وألقوا نظرات حذرة عليه. ورأى الوكيل يستبدل نبرته الآمرة مع “دوكا والله” بإشارات تفاهم ولها معنى صنعها برأسه. وبعد حوار سريع متوتر ودرامي، وحينما كان فريدريك ضائعا ومحتارا عما يجري حوله، عاد “دوكا والله” إلى حانوته، وفتح باب الباحة. وغاب الوكيل في الداخل آملا أن فريدريك وراءه. وأبعد أحد المسنين الناس بعصاه، ولكنهم سدوا الباب وبعضهم تسلق على جدار الباحة.

لم يتوقع ما حصل. كان فريدريك يعلم، في اللحظة التي سبقت دخوله من الباب إلى الباحة، أن الرجل الجريح سيكون مسجى في الداخل، ولكنه أدرك ذلك في تلك اللحظة الحاسمة ولم يكن لديه الوقت ليفكر بالموضوع. وشاهد رجلا بشعر طويل مغطى من قدميه وحتى كتفيه، ويستلقي على فراش تحت السقف، وكان الغطاء ملاءة بلون كريمي بأطراف ذات لون أحمر وأبيض. كان هناك شيء كلاسيكي وقديم حيال الألوان، فهي ألوان عباءة رومانية. وكان رأسه ينظر موجها لطرف وليس نحو السقف. وفمه مفتوح قليلا، ويبدو عليه الإنهاك والسخط، وبوضع معروف يشبه المروق. وقربه على البساط جلست امرأة، ساقاها مطويتان ومغطاتان تماما بثوبها الأخضر الكئيب. وأوشكت أن تنهض ولكن لم تعزم تماما على الوقوف، وكانت متجمدة بشيء من الدهشة والتعجب.   استدارت بوجهها بعيدا وهم يدخلون وأخفت وجهها بوشاحها، ولكن شاهد فريدريك ما يكفي ليعلم أنها امرأة مليحة الوجه، في الثلاثينات من العمر، وربما نتيجة قران محلي مختلط، ولها لون بني براق شاحب يدل أنها من أصول باجونية أو صومالية. وتوقع أنها زوجة صاحب الدكان، وتمنى لو أن يستمتع معها في حياته. وفورا، بقوة وبشكل خاطف، مثل بريق مؤقت، صعدت لرأسه كريستي. لكنها لا تزال في إنكلترا. وغلبه الشوق إليها. اشتاق لها تقريبا، مثل دقة قلب يتيمة سرعان ما اضمحلت وماتت. وسيفكر بها بشكل أطول لاحقا. ركع فريدريك على إحدى ركبتيه بجوار الجريح ولمس جانب رقبته بيده. كان دافئا ونبضه قوي، ولم يكن محموما. فتح الرجل عينيه وأفلتت منه حشرجة خافتة. رنت في سمعه مثل ثغاء مكتوم، زفير بائس من حيوان يحتضر. لم تنطق المرأة. وحينما رفع فريدريك بصره إليها هزت رأسها، كما لو أنها تطمئنه. كشف الملاءة ليرى إن كان هناك دم أو جرح، ولم يشاهد علامة على الجسم، فقط تعب وغبار. وقف وتلفت حوله وأدهشه غرابة كل شيء حوله، ووجوده في هذا المكان، في باحة من بيت هؤلاء البشر، واقفا ببوط فرسه اللماع، وهو يربت على سمانته بنفاد صبر بسوط الركوب، ومحاطا بهؤلاء الأشخاص السود غير المألوفين والذين شعر بالغضب غير المفهوم منهم وبحضور رجل مريض عند قدميه. كانت غربة مفهومة، كما لو أن جزءا منه انفصل عنه ووقف بجانبه ينظر أمامه، ولكن أصبح من الضروري حاليا أن لا يهتم بذلك. حرر نفسه من هذه المشاعر، والتي يعتقد أنها دليل على الضعف والتردد رغم جانبها البشري، وطالب بنقالة بحركة من يديه. قال:"علينا أن نسعفه بإخراجه من هنا". وخاطب الوكيل أولا ثم التفت إلى "دوكا والله" البدين صاحب المظهر الحزين.  كرر بإشارة صامتة تدل على ضرورة الحمل ونقل الجثمان من الباحة قائلا:"علينا أن ننقذه في الحال من هنا. جالادي، جالادي. بسرعة. بسرعة". بطريقة ما استلم الوكيل زمام المبادرة، واتخذ الترتيبات المطلوبة، وهو يتكلم برباطة جأش وقوة، الأمر الذي أدهش فريدريك بعد تخبطه السابق.

ولم يفهم فريدريك كلمة مما قاله الوكيل، ولكن اعتقد أنه استطاع أن يجعل كل شيء يبدو كأنه محسوب وغريب أيضا. ولاحظ الفوضى والصخب المعتادين، وكان الناس يتململون، ولكن في النهاية حمل الرجال الثلاث الرجل المسكين، والفراش، وكل شيء، وجهزوا أنفسهم للانطلاق. سأل فريدريك:"أين أمتعته؟. ممتلكاته. أين ممتلكاته الشخصية؟ مقتنياته". فعل الوكيل ما بمقدوره، ولكنه لم يحصل على شيء من "دوكا والله" وزوجته. وصاح بهما الوكيل وحرك أصبعه للتحذير بطريقة دراماتيكية. وخمن فريدريك أنه يتهمهما بالسرقة، أو ما يزيد، في محاولة للتأكد أنهما سيقدمان له حصته.  وأضاف كلمات سامة من عنده وعنف رب المنزل، دون الحصول على النتيجة المرجوة. وانضم إليهم بعض الحاضرين، وهم ينعقون بما لديهم، واعتقد فريدريك أن الأفضل هو نقل الرجل إلى مأمن قبل أن تحل الهستيريا على الجميع. قال للوكيل: سيعودون لاحقا من أجل أمتعته، حينما يصبح الرجل المصاب قادرا على الكلام وتحديد مفقوداته. وحينما شق الطابور طريقا متعرجا للخروج من الزواريب، وجد فريدريك أن إدريس يجلس تحت شجرة مانغا عملاقة في الساحة، وحوله حشد من الأولاد الصغار صامتين ويحدقون بالحصانين. وقف فورا حينما شاهد الموكب، ولكن بقي بعيدا، بانتظار التعليمات. وارتاح فريدريك لذلك، للطاعة الضمنية. أشار بعصا الركوب نحو البيت، فامتطى إدريس شريفة وتحرك أمامهم. أضاف حضوره مع الموكب المزيد من الدراما للأحداث، وحالما وصلوا البيت، كان قد تحول إلى مكان قروسطي. وعانوا من المشاكل في التخلص من الجميع، وبالأخص الوكيل، ولكن تدبر إدريس وتابعه المسمى هامس محاصرة الجميع في صالة الطابق الأرضي، وفرقوهم بالتدريج، وهما يوزعان النقود على الرجال الذين ساعدوا في نقل الرجل المريض. وضعوه في غرفة الاستقبال وكان يستفيق. سجاه الرجال على السرير المربوط بفراش القش القديم، بالطريقة التي هربوا بها كليوباترا إلى غرفة أنطونيو. فك فريدريك الأربطة، ولاحظ أنه لا يزال ملفوفا بملاءة ذات لون كريمي وأحمر، وسنحت له الفرصة ليلاحظ ان القماش سميك ومن خياطة يدوية، وربما جديد. تحسس جبين الرجل ليفحص حرارته، ففتح الرجل عينيه على إثر اللمسة ونظر مباشرة إلى فريدريك.

سأله فريدريك برقة:"كيف تشعر يا صاحبي القديم".

رد:"هل زرت سيشيل في حياتك كلها؟". كشر فريدريك لهذا السؤال غير المتوقع وللهجته الإنكليزية المؤكدة. قال فريدريك:"لم يحالفني الحظ". وارتاح لأنه ليس متعصبا لوثريا.

قال فريدريك:"في هذا الجزء من العالم، عليك دائما أن تكون مفتح العينين حذرا من لعبة ضارة قليلا، كما تعلم أنت شخصيا، طبعا". ثم امتص سيجاره بتلذذ وأخذ نفسا قويا. نفخ الدخان بزفرة قوية وكبيرة وأسعده المنظر وامتلأ بالطمأنينة. ثم قال: "يجب أن أعرب عن سعادتي بعودتك إلى عالم الأحياء يا عزيزي بيرس. كانت معجزة أن نراك تجلس أمامنا متمالكا نفسك بعد ما وجدناك عليه من ضعف.  يجب أن تخبرني إذا أرهقتك. لا تتركني أتعبك. وأنا طبعا أموت من الشوق لأسمع تفاصيل مغامراتك، ولكن لدينا وقت طويل. وأعتقد أنك تحسنت بشكل كبير، أنت تقف على قدميك ثانية وبسرعة، ولكن لا يجب أن تبالغ. على الأقل لا يبدو أنك التقطت شيئا. ولكن لا بد أنك تعرضت للشمس اللاهبة لعدة أيام، وهذا تسبب لك بصداع هائل، كما أعتقد. حسنا، على كل حال لم تتضرر كثيرا. في الواقع يا صاحبي القديم أرى أنك محظوظ جدا جدا لأنك لم تتضرر. يوجد قطاع طريق خطيرون في تلك البوادي. وأفترض أنك بطريقة ما تدبرت التخفي عن الأنظار خلال رحلاتك الفردية، وإلا ما كنت هنا. كما تعلم حينما سمعت الأنباء توقعت انه أحد المبشرين عند النهر، أحد اللوثريين. وهناك وقعت غارات مميتة في السنوات التي مضت، وتنتشر شائعات دائما عن جماعة من الاحباش الأشرار، يسرقون ويستعبدون ليعيشوا. أنت محظوظ جدا لأنك لم تقع في طريقهم.  مع أن الأوروبي بمأمن منهم بالمقارنة مع أي كائن آخر. غيره يذهب مباشرة إلى سوق النخاسة في هارار على الأرجح، ولكنهم يعلمون أننا لا نتساهل مع أشياء من هذا النوع". امتص فريدريك سيجاره ثانية وبين الحين والآخر كان ينفض طرف الرماد على أرض الشرفة.

***

..........................

عبد الرزاق قرنح  Abdulrazak Gurnah: اتب بريطاني من زنجبار. له أصول عربية يمنية. يعالج في أعماله قضايا التحرر في القارة الإفريقية. ويعتبر ثاني كاتب، بعد نجيب محفوظ، يحصل على جائزة نوبل، وله علاقة بمشاكل العالم الثالث. من أهم أعماله:  فردوس 1994. ما بعد الممات 2020. ذاكرة الرحيل 1987. الهدية الأخيرة  2011 وغيرها….

في نصوص اليوم