ترجمات أدبية

روبين سليك: الواقع البديل

 

بقلم: روبين سليك

ترجمة: صالح الرزوق

***

هناك أوقات أتساءل فيها إذا كان إنسانا واقعيا. لو أنه رجل يمكن تصوره. ففي اليوم الطيب، يكون جوزيف على الصورة التي أريدها. نقف معا ضد بقية الفوضى الكونية وزحام العالم. وفي اليوم السيء، أكون امرأة ناضجة ولكن تابعة لديها تخيلات عن صديق نموذجي.

وباعتبار أن جوزيف يلمح أنه سيكون معي في العالم الواقعي بعد أن ينشر كتاباته، يجب علي بالمقابل أن أنتظره. أن أكون معه وأفكر به معظم الأوقات. هذا لا يعني أنه لم يحاول أن ينشر. كل أسبوع، يرسل قصة قصيرة مع رسالة لماحة ومؤلمة لا تخفي تماما توسلاته ويأسه.

وأخيرا قال لي: اليوم جاءتني رسالة من منتدى الأدباء.

- ما معنى ذلك؟

- لن تصدقي. كان رفضا. ولكن حمل عبارة "اقتربت من الهدف".

اقتربت. ما معنى هذا بحق الجحيم؟. هل يجب أن يقسو قلبي بسبب هذا الرد؟. لم يكن السبب أنه يفتقر للموهبة. فقصصه تلمسني في أعماق روحي بما فيها من هوس وأجواء معتمة، وشخصيات قلقة. فللنساء معاطف بلون المسحوق الأخضر مع بلوزات أنيقة. والرجال يحملون أسماء مثل بيرسي وإدموند. ولهم حكايات غرامية وقلوب محطمة.. ومحرومون من الجنس والدم والشجاعة. ولكن دائما لهم أحلام لتتحقق وذات مذاق عذب يملأك بالمرارة. إنهم حكايات من عصر مختلف. وبالعادة هو يهتم  حينما لا تكون رسائل الرفض شكلية، وتحتوي على ملاحظات من المحرر الذي لم يحسم أمره تماما.

وحينما يفحص جوزيف لأول مرة هذه الملاحظات العجولة، ينتابه الأمل حتى يعميه عما حوله، وكان أحيانا يفهمها بشكل مغلوط ويعتقد أنه على وشك أن يجد الناشر. واعترف بهذه الميول بحياء، ووددت أن أحضنه بذراعي وأربت على كتفه وأقول له كل شيء سيتحسن. ولكن نظرا ليأسي المتزايد، لم تتطور الأمور حسب توقعاتنا. وكنت أمر بساعات أفكر فيها هل هو إنسان واقعي. يا ليت بمقدوره أن يبدو على هيئة الإنسان الذي تخيلته. 

وفكرت بذلك – هيمنت الفكرة على أفكاري— بينما يداي تتحركان على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. وها أنا أجلس هنا منذ دقائق، وأحدق بالشاشة. وتوج الفوز صبري أخيرا. رأيت تسجيل دخول جوزيف وفورا أرسل لي رسالة..

قال: مرحبا يا عزيزتي. أنا عمليا ضائع.

فكرت: من يتكلم بهذه الطريقة في العالم الآن؟.

ثم قلت له: عمت صباحا. لك نجمة. وهي البديل الفضائي عن القبلة.

ورسمت ابتسامة حالمة وفقدت الشعور بما حولي ولم أسمع خطوات زوجي يدخل الغرفة.

قال بصوت خشن:" كم أكره الكومبيوتر السخيف يا ليندا".

نظرت إليه، بدهشة والذنب يغمرني. فأضاف:" قلت لك صباح الخير مرتين ولم تردي، أنت مشغولة جدا بذلك الشيء اللعين".

أنهيت دخولي في الكومبيوتر ونهضت من الكرسي، وعبرت الغرفة نحوه. وملت إليه وطبعت على شفتيه قبلة عميقة رطبة.

وقلت له: "مرحبا يا إيدي، صباح الخير. لماذا أنت بكامل ثيابك؟".

رد بتأفف قائلا:" عمت صباحا يا ليندا". كأنه يلجمني. كان وجهه على قدر من الاستهانة والاشمئزاز فغمرني الندم. وتساءلت ما مقدار المعلومات التي يعرفها.

ولكن سألت بتفاؤل:"هل ستغادر؟".

كان هذا يوم السبت – ولا أستيقظ فيه باكرا.

رد:"نعم، أنا بطريقي إلى العمل".

كان إيدي يبيع التجهيزات. كل مستلزماتها. ويؤدي أعماله الورقية في المكتب خلال العطلة أحيانا.

سألته:"وكم ستغيب؟".

فكرت: من فضلك. قل سأغيب طيلة الصباح.

رد:"ساعتين فقط. وأنا على ثقة أنك لن تجلسي خلف الكومبيوتر كل هذا الوقت".

كذبت قائلة:"كلا، كلا، طبعا لا. لدي أشياء كثيرة لأرتبها هنا".

قال:"حسنا. أراك بعد قليل". وقبض على مفاتيحه واتجه إلى الباب دون كلمة أخرى.

إيدي. يا إيدي. لماذا أشعر كأنك غريب حقا؟. لماذا أشعر كأنه ليس بيننا شيء مشترك على الإطلاق؟. كيف يمكن تحسين هذا الظرف — هل هناك إمكانية للتحسن أصلا؟.

كان إيدي يشفى من الكحول، وكان مدمنا لما يزيد على عشر سنوات. والخروج من حفرة الشراب والاكتفاء بـ "تويلف سبايس" حسّن من إدراكه، وأصبح رجلا أقل تهورا، ولكن ضباب تاريخه السابق، وعودة كابوس الإدمان، يجعلني  أرتجف وأحذر مما أقول وأفعل. كحوليته، حتى بعد الشفاء – وربما أنا أشدد على بعد الشفاء – حولتني إلى سجينة عاطفية. لقد تزوجنا حينما كنا شابين جدا. وحاولت عائلتانا المساعدة، ولكن كان لديهم مشاكلهم. فنحن من خلفيات مشاغبة وشقية. ووجد كل منا الملجأ بين ذراعي الآخر. وكانت الجاذبية الفيزيائية قوية، وفي ذلك العمر، كان الجنس هو المهم.

بالعودة لتلك الأيام، حلمت أن أكون فنانة محترفة، ولكن امتنعت عن الرسم بمجرد ولادة الأطفال. وقبل أن يدمن، كنت أقلق من أن يشرب إيدي التوربانتين لو أخفيت شرابه.

انتظرت حتى أقلعت سيارته ثم هرعت عائدة إلى الكومبيوتر وسجلت الدخول. كان جوزيف قد اختفى، تنهدت من الغضب. لم يكن مقبولا لي أن أقابل جوزيف على الإنترنت ولذلك حملت هذه العلاقة الغريبة بالسر لسنوات. إنها تبدو جنسية تماما. هذا الحب الفضائي. وكان من الصعب علينا أن نناقش الموضوع لأنه يربك كلا منا كثيرا. وأنا من ألحت على تحويل العلاقة لشيء حقيقي وفعلي.  إنها مشكلة أساسية أن يكون الرابط بيننا لا يتجاوز مقاييس الحوار بالإنترنت. هذا وسيط شديد الإغراء. إنه واقع بديل ولعين. في البداية، ونحن نكتشف أننا أشقاء بالروح – وفي اللحظة التي كشف فيها كل منا للآخر عن أعماق نفسه على أساس يومي واستغربنا من التطابق بالهوايات والمشاعر – حب الفن، المصير العام للإنسانية، الإفراط في الطعام واستخدام الغذاء عوضا عن السعادة – والأهم، أننا كنا غير سعيدين ونمر بأزمة منتصف العمر بسبب عدم تحقيق أحلامنا – كنا نتطرق للقاء واقعي وعن مقربة. فأنا في مدينة بعيدة ولكن مكتب جوزيف، حيث يكتب لمجلة تجارية، هو على مسافة ساعة بالقطار فقط. وفي البداية، ألححت على الموضوع وكان يسخر مني، ولكن في فترات لاحقة كان يرد بقوله: ليس الآن، أو يوما ما، أو في الوقت المناسب.

أنفقت جزءا أطول من هذه السنة في محاولة لتغيير رأيه، ولكنه واظب على التأجيل. وما أرعبني أنني تقريبا فهمت عاطفته. فهو لا يريد أن يقاطع علاقتنا الافتراضية المثالية. أن نختبئ وراء شاشة الكومبيوتر، يساعد على أن نترك الشرف والصدق جانبا، ونعبر عن رغباتنا بلا حياء، وأن نكون مواطنين مثاليين أو شواذا محرومين، وكل الوقت ببيجاما خفيفة دون اكتراث بالعائلة وهي تتابع حياتها في الخلفية.

والالتزام هو السبب في أن لا أهجر إيدي. كان لنا ولدان، اعتادا على أبويهما، وتأقلما مع هذه الحالة. وهما يعشقان أباهما، وستحل بهما نكبة لو انفصلنا. هل بمقدوري أن أخبرهما: سأهجر أباكما لأنني قارئة نهمة وهو لا يقرأ منذ عشرين عاما؟. سأهجره لأنه يصرخ ويبتهج ويتحمس للرياضة بينما أنا أفضل الجلوس على الكنبة بجواره والعار يجللني من هذه السخافة؟. ولأنني أحب المطاعم الجيدة وأدوات الترفيه وهو يحب الوجبات السريعة ومخازن الأسعار المخفضة؟. لأنه يحبني أكثر مما أحبه؟.

وحينما تتدهور الأمور حقا هنا في البيت، وحينما يصل مزاج إيدي للحضيض أشعر كأننا غرباء وكذلك حينما يختلف الولدان – وأشعر أنني في الفخ وبائسة وبلا قدرات ودون تفاؤل -- فيغلبني التفكير بالسرير مع جوزيف. وتخيلت كيف ستكون أول مرة – بدماثة ولباقة نكتشف جسمينا ويتعرف كل منا على جسم شريكه قبل أن نلتحم معا في عاطفة بيضاء حارة فنسبح بالعرق إلى أن تنهار قوانا. كنت أغلق الباب على نفسي في الغرفة وأداعب نفسي وأنا أفكر بهذه الطريقة، وأتقلب في الفراش مثل امرأة متهيجة ثم أتنهد من اللذة. وأنوح قائلة: آه يا جوزيف. من فضلك أنقذني. أخرجني من هذا الجحيم.

يعيش جوزيف في بيت مرتب في الضواحي، أو على الأقل هذه هي الصورة التي رسمها لي. والآن على ما يبدو غادر إلى مدخل بيته ليتفقد صندوق بريده على أمل أن يسمع شيئا جيدا من المحرر، واستغرق ذلك عشرين دقيقة. وحسبما قال لي، إنه يحتاج لستة رسامين يعملون أربع أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على صورة هيكل البيت الذي أسخر منه دائما. وحينما ذكر لي ذات مرة أن لديه جوكوزي بحجم واسع من الرخام، شعرت بطعنة مع مرارة من الحسد والغيرة. ولكنه أضاف إنه لم يستعمله لا هو ولا زوجته. فشريكته طبيبة. ومر على زواجهما خمسة عشر عاما وأكد مرارا أنه لم يرتكب فعل الخيانة الشائن ولو لمرة واحدة. ولديه إيمان بالإخلاص. وأخبرني أنهما بلا حياة جنسية ولكن عدا ذلك هو يعطف عليها.

أما أنا كنت أعيش مع إيدي في المدينة. ونقطن في بيت متواضع من الحجر الأسمر الذي عمره مائة عام. وبحاجة لكثير من الصيانة التي لا بد منها. وعلقت لوحات إلكترونية على الجدار، لبعض الفنانين، يا الله، لتتحسن مشاعري فقط. لم يكن لدى أي منا العاطفة الكافية لأداء أي شيء آخر ولم نكن نمتلك النقود مثل جوزيف وزوجته للتعاقد مع حرفي للترميم. ولم أخبر جوزيف على الإطلاق بهذه الأشياء، ولم أكن أريده أن يعرف ذلك. كانت هناك ساعات أتساءل فيها كم درجة الصدق التي بيننا. كنا نردد عبارة أنا أحبك، ولكن كيف يكون الإنسان مغرما بشخص دون أن يلقاه؟. كنت مخلصة في زواجي أيضا. تزوجت في فترة الشباب وقبل أن تكون لي علاقة مع شباب آخرين، علاقة بمعنى الكلمة.

نقرت الأرض بقدمي بنفاد صبر. أين جوزيف الآن بحق الجحيم؟ مرت ساعتان تقريبا. لماذا لم يسجل الدخول؟. الانتظار يدفعني للجنون. وازدحمت في رأسي كل الأفكار الشقية. وانتبهت أنني أفسد صباح  يوم سبت جميل خلف الكومبيوتر. لن يكون جوزيف بالنسبة لي أكثر من تزجية للوقت على الإنترنت. زميل بالمراسلة. لو أنه يحبني فعلا كما يقول، أي سبب ملعون يجعله يرفض لقائي شخصيا؟. وتفاقم غضبي دقيقة بعد دقيقة، ودفعني نفاد الصبر والحنق للتهور.

راقبت الساعة بنظرة غاضبة. لم يكن ولدانا قد استيقظا ولا يزال إيدي في العمل، ولكن هذا لن يستمر إلى الأبد. ولن يكون بمقدوري المكوث هنا وراء الكومبيوتر لفترة أطول. وكنت أقترب من الجنون. وحينما في النهاية سجل دخوله بعد ساعة، كنت في ذروة الإرهاق، فاقدة لمشاعري، وأفكر بالتوقف عن هذه اللعبة. لم يكن يليق بي أن ألحق العار بإيدي: ولم أكن أريد إهانة نفسي بمطاردة رجل متزوج غير سعيد في حياته وليس لديه القدرة ليجد طريقه وراء عالم من خياله. يا للمسيح، لقد أجل اللقاء لما ينوف على عام ونصف العام. وخلالها كانت رائحة الخبز المحمص المحروق تنتشر.

مرحبا يا ليندا. كتب وهو يطبع قبلة فضائية لا معنى لها.

كتبت : آه، مرحبا. وليس هذا ردي الطبيعي لأنني لم أطبع القبلة المعتادة. وسيفهم مباشرة أن هناك شيئا مزعجا.

ما الأمر؟. تخيلت الارتباك الذي يشعر به الآن.

لا شيء. قلت له. لا شيء على الإطلاق.

كتب: آه، هذا يوم مزعج آخر. ما الخطب؟.

-أنا أكره حياتي، وأكره أنك هناك وأنا هنا ولا تريد أن تكون برفقتي.

قال: عظيم. أنت في مزاج سيء.

-نعم. أنت على حق. كل شيء يبدو بلا معنى لي. وأفهم أنك لا تريد أن تراني – وتريد أن أستمر هنا، في الفضاء، لتتمكن من البكاء يوميا على كتفي لأن الناشر لا يطبع لك، وزوجتك لا تحب أن تمارس الجنس معك. كل ما تريده مني التعاطف ومكانا ترتاح فيه قليلا. أنت تستغفلني من حوالي عام. وأريد الآن أن أسجل الخروج إلى الأبد وأترك هذا الكومبيوتر في النفايات ليلهو به الأولاد.

كتب قائلا: لا يمكن أن تهجريني. أنا بحاجة لك. وأنت متأكدة أن ما تقولينه غير صحيح. أنا أحبك يا ليندا. وأخبرتك بهذا من قبل. ولكن الوقت غير مناسب. أنت تريدين كاتبا معروفا، أليس كذلك؟. لا كاتبا فاشلا.

-ماذا تقول؟ أنا أحبك حتى لو كنت جامع قمامة.

-كلا. لن تحبي ذلك. هذه ثرثرة. ونحن نعلم أن هذا مجرد كلام غير صحيح.

إنه على حق. أنا أكذب. أنا أحبه بسبب كتاباته – لأنه فنان. ولكن إذا كانت له أعمال منشورة أم لا فهذا شأن آخر. على الأقل أعتقد أن هذا غير مهم. وجلست في مكاني أفكر بذلك لعدة دقائق. ولا بد أنه اعتقد أن هذا الصمت مقدمة لشيء مضجر. وظهرت الكلمات التالية على الشاشة تقول:ما رأيك يا ليندا. هل توافقين على مرافقتي لطعام الغداء يوم الإثنين؟.

اتسعت عيناي من الصدمة. كنت أنتظر ما يزيد على عام لأسمع هذا الاقتراح. ولكن عوضا عن الشعور بالراحة والسعادة غمرني الارتباك. لم أتوقع ذلك. على الأقل الآن. يا إلهي. من فترة التهمت ما يزيد على ليتر من قشدة الأرز – ولا بد أن وزني ازداد عشرة أرطال. الإثنين؟. لا يفصلنا عنه غير يومين؟.

هل يمكن أن أخسر الوزن الزائد، وأشذب شعري، وألون أظافري، وأحسن من مظهري في هذه الفترة القصيرة؟. آه، هكذا يتأوهون في بلاد الفضاء المفتوح.

أوه، الآن قد بلغت الهدف. ولا يمكن التراجع. كنت ألح من أجل ذلك طيلة شهور. ولكن فكرة اللقاء بهذا الرجل شخصيا – هذا الرجل الذي فتحت له قلبي كما لم أفعل من قبل. وأخبرته عن أشياء مخزية وشخصية جدا – بدأت تقض مضجعي. اللعنة. وقعت في المصيدة كالفأرة.

كتبت له: حسنا. شيء طيب. دعنا نفعلها. اسمع، إيدي عاد إلى البيت. علي أن أسرع. سأراك لاحقا.

وسجلت الخروج قبل أن تخف حماسة أي منا.

على نحو ما، تابعت حياتي في نهاية الأسبوع. لم يكن لدي فرصة لتشذيب شعري وإجراء تدليك للوجه أو اتباع حمية، ولكن لونت أظافري وأضفت المسحوق الأحمر لوجنتي حتى توهجتا بالنور وكنت بالحرف الواحد في حالة اهتياج. واتفقنا أن نلتقي في مطعم. وطبعا أنا من يجب أن تسافر لتلتقي به عوضا عن أن يقوم هو بالرحلة ليراني. وتصورت أن هذا يضعه في الجانب البريء من هذه اللعبة. وصعدت على متن القطار والعرق يسيل مني والارتباك يجللني. لم تزعجني الاحتمالات السيئة المترتبة على مقابلة رجل غريب، وإمكانية النهاية المشؤومة في كيس للجثث، وضرورة التعرف على جثتي بواسطة فحص الأسنان. كلا، كنت قلقة من الرطوبة التي ستتسبب بتجعيد شعري، أو من الزي الرسمي الذي يجب أن أرتديه بدل الجينز والقميص، فهما لا يليقان بسيدة في الأربعين من العمر. هذا عبث، هذا الموعد مع هذا الرجل الذي كشفت له أسرار روحي عبث، فنحن لا نعرف بعضنا بعضا. ومن الطبيعي، أننا تبادلنا الصور. غير أنها صور رقمية وسريالية بالكومبيوتر. صورتي جعلتني برأس مربع وبلا تناسب. وصورة جوزيف لها إيحاء بالبدانة. ولكن هذا لا يهمني.

كان زوجي نحيلا مثل قضبان الحديد، ووركه العظمي يخترقني كلما مارسنا الحب. كنت أتطلع لأقبض على جسم جوزيف وأفجر قبلة فوق بطنه اللدنة، وهذه تخيلات تنتابني كلما استلقيت بجوار إيدي الذي يشخر خلال نومه. وحينما اقتربت من المطعم، تساءلت هل الصورة التي أرسلها لي بالبريد الإلكتروني تعود لسنوات مضت، ربما وزنه الآن خمسمائة رطل، هذا غريب وسينظر لنا الناس بتعجب، وباستهانة، وسيفقدون شهيتهم للطعام. يا إلهي، ربما سيحتاج لزاوية خاصة – بثلاثة مقاعد متصلة أو شيء من هذا القبيل. ثم فجأة تذكرت أنني التي زاد وزنها عشرة أرطال، وسيرتعد من شكلي. غمرتني موجة جديدة من الارتباك، وشعرت بالدوار من احتمال أنني سأخيب أمله. ناديت على سيارة عامة خارج محطة القطارات وذكرت للسائق عنوان المطعم.

أخبرني أنها مسافة تستغرق خمس عشرة دقيقة، إن كانت حركة المرور سهلة. كانت الحرارة لاهبة، وهذا منتصف الصيف، ولم يكن المكيف يعمل. وبدأ قلبي يذوب. وشعرت أنني أختنق. لو كنت أعرف المدينة بشكل أفضل، لغادرت السيارة وتابعت على الأقدام. كنت سجينة، هكذا قلت لنفسي. كان أطول مشوار سيء بالسيارة. ولكن وصلت في النهاية. وغادرت المركبة كأنني أذهب إلى حفل إعدامي.

كان المطعم الذي اختاره أنيقا وله صالة. وعرفته فورا حينما نهض من كرسي محشور بالزاوية وانتبهت أنه ليس بدينا. ووسيم حقا بطريقة معقولة وبشعر أسود طويل ويغلب عليه الظل الذي تلقيه الساعة الخامسة على الإنسان. واه عينان سوداوان بجفنين ثقيلين ورموش غليظة. تعانقنا بقوة وكنت أخشى أنني مبلولة بالعرق. ولكنني لست امرأة غير جذابة. ونظرته المريحة أكدت لي ذلك. وعلى الرغم من عمري، كنت أرى أنني بمظهر شبابي. شعري أسود وطويل. وثدياي صلبان. ولي عينان خضراوان قليلا مع شفتين مكتنزتين. تبادلنا النظر براحة ومسرة. كنت راغبة بالنوم معه فورا ولكن كانت لديه روح تنم عن الإخلاص.  

ابتسم وقال:" أنت، هناك" وهذه إحدى تحياته على الإنترنت.

قلت بنفس الصوت الجاف والمبسط:"كما أنت دائما". آه يا إلهي. من أين جاء هذا؟. كنت أخشى من لفظ كلمة أخرى. هل يمكن أن أنظف حنجرتي دون افتعال ضجة. يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.

قادني من ذراعي نحو الطاولة المحجوزة. كان قد حجز طاولة وهي جاهزة لنا. جر كرسيا لي، وتوسلت إلى الله أن لا أرتكب خطأ. كأن أخطئ بالجلوس على الكرسي وأسقط على الأرض. أو أن تصدر عن الكرسي أصوات مثيرة للأعصاب وهي تحتك بالأرض حينما أقترب بها من الطاولة.

سألني:"هل كانت الرحلة سهلة؟". استراحت أعصابي قليلا، لأن هذا سؤال يدل على مبلغ اضطرابه وقلقه.

قلت مع ابتسامة صغيرة:"نعم، نعم، كانت ممتازة. كان من المفروض أن نلتقي قبل الآن". آه. كان صوتي لا يزال مفتعلا، ولم يخطر لي شيء مريح أقوله لهذا الرجل الذي كنت ألهو معه لفترات مطولة يوميا.

قال:"نعم، حتى الآن نحن على ما يرام. هل ترغبين ببعض النبيذ؟".

هل أرغب بقليل من النبيذ؟. أفكر بثلاث زجاجات.

أجبت:"نعم من فضلك".

"كأس أم زجاجة؟".

"كأس تكفي". يا للجحيم، ماذا دهاني؟. أود لو أرتخي، أن لا أشعر أنني قالب من الإسمنت مزروع هنا بالصدفة. 

تناولت القائمة وتظاهرت أنني أفكر ولكن بالكاد كنت أركز عيني. وانتبهت أنني لست جائعة أبدا. ولو هناك إحساس فهو الغثيان الخفيف. لم أكن عصبية بهذا الشكل كل حياتي. هناك أشياء أخبرت بها هذا الرجل!. وأشياء أخبرني بها!. ومن المستحيل أن أعتقد أن ما يجري هنا بأي نحو من الأنحاء له علاقة بواقعنا البديل والساخن الذي عشناه على الإنترتنت. وأخبرت عقلي أن يلزم الهدوء، وحاولت أن أركز عما يقوله، والذي كان غالبا صدى لما أخبرني به في الكومبيوتر. أحضر النادل الخبز وبدأنا به فورا.

ابتسم وقال:"آه، هذا هو الغذاء الذي نتشارك به".

"نعم". أجبت وأنا أملأ فمي به.

واستطعت أن أسمع صوت المضغ وقد شعرت بالخزي من هذا الصوت المزعج الذي أصنعه.

وصل النادل بالنبيذ. سحبت الكأس الكريستالية الممشوقة وبدأت أشرب كأنه ماء صنبور. وسأل عن الأطعمة، فأفصحت عن رغبتي بشرائح السلمون لأنه أول شيء قرأته في القائمة ولم أكن قادرة على القراءة والمتابعة.  وشعرت بالشرود الذهني. وحينما ابتعد النادل، شعرت كأنني مهجورة. وتوجب علينا أنا وجوزيف أن نتبادل الكلام قليلا – فالطعام سيتأخر حتما لعدة دقائق إضافية.

"هكذا إذا". قلت ثم انتبهت أنه ليس لدي شيء أقوله.

أجاب:"نعم. ها نحن هنا".

وامتد صمت صعب، ثم بدأ بسرد حكاية أخبرني بها من قبل على الإنترنت، وكافحت لأكون واعية وعلى الأقل لأبدو مهتمة. عوضا عن ذلك، كنت أنظر لعينيه السوداوين الباردتين، وأتأمل صفحة وجهه.  ورأيت ندبة صغيرة قرب عينه اليمنى وكم وددت أن ألمسها بنعومة، ولكن كنت مقيدة وليس بوسعي أن أحرك أنملة.

صاح وهو ينظر إلى يدي:"يا له من خاتم رائع". وفجأة، واتتني الجرأة. وربما بدأ النبيذ يفعل فعله. واغتنمت فرصة التعليق لأقبض على يده، وأحاول أن أغويه. أملت أن ألف أناملي حول أنامله. في البداية، استجاب لي، وتناغم معي، ثم على حين غرة انسحب كأن النار لمسته. وطفت على وجهه نظرة بؤس لم أفهمها. ولم أحاول أن ألمسه مجددا. وبدأ يتكلم بسرعة عن فيلم شاهده. وكنت أرد بإيماءات كثيرة.

وفي الختام أحضر النادل الوجبة. السلمون الذي طلبته وكان كأنه يلتصق بحلقي. وتساءلت هل سوف أتقيأ. شربت نبيذي ولحسن الحظ، سارع جوزيف بطلب المزيد. وحاولت أن أتنفس دون جذب الانتباه حتى سرى الكحول في مجراه وشعر كلانا بالمرح. وبعد أن مرت اللحظات الأسوأ اشتركنا بقليل من الثرثرة عن عائلتينا. وعن الموسيقا التي نفضل والكتب التي قرأناها وانتهى الأمر بالغبطة والانسجام. وكل ذلك بطريقة لم أتوقعها حينما كنت أتخيل لقاءنا وأنا أجلس ككلبة في الحر وأتخيل كيف سيكون وضعنا في العالم الواقعي. استغرق الغداء ساعتين. ورغبت بنزهة برفقته أو بزيارة مكتبه، ولكن كان الوقت متأخرا ويجب اللحاق بالقطار لأصل إلى البيت في وقت العشاء وأنضم لأفراد الأسرة.

وغادرنا الفندق دون ملامسات، ورأينا سيارة، فناداها فورا. وانتهى كل شيء بسرعة، بعد طول انتظار، وشعرت بالخيبة واليأس. كان لديه وقت ليضمني ثانية مع قبلة سريعة ولكن فورا دخلت السيارة العامة وانطلقت بطريقي.

لم أكن قادرة على التفكير المنطقي – كنت أفكر بالوصول إلى المحطة بالوقت المناسب، وأقفز على متن القطار، وأخمد نفسي فيه لساعة هي الوقت الذي تستغرقه الرحلة. وبالكاد حققت ذلك بسبب الزحام، وكنت لاهثة الأنفاس وأنا أجلس في مقعدي. وعدت بظهري إلى الخلف وحاولت أن أتذكر. وكنت في منتصف المسافة إلى البيت حينما اعتقدت أن جوزيف لن ينقذني مما أنا فيه. وتساءلت، بارتباك، هل هذه هي النهاية. وهل هذا آخر الشوط الذي يمكننا بلوغه. ولم يكن هناك أية مسافة للمفاجأة أو المجهول. كل واحد منا ينتمي لآخر، لدينا حياة مختلفة ومنفصلة تماما. ولا يزمع أي واحد فينا على خطوة جازمة، مع أننا شقيقان بالروح. وأضاءت في عقلي لحظة من اليأس – ورغبت أن أبكي بألم. وامتلأت عيناي بالدموع التي لها لون النبيذ. ثم فكرت بحياتي من دونه. حياة مع الولدين وإيدي، حياة دون جيوب سرية ألجأ إليها. ولم تكن هذه الأفكار ضرورية. وأقنعت نفسي أن أفكر بجوزيف. وتخيلت صورته أمامي وتذكرت أن فترة تشابك الأصابع كانت سريعة خلال الغداء، ورغبت لو أنه لم يسحب أصابعه من يدي. وفهمت أن الذنب حيال زوجته لا يفارقه وهو الدافع وراء تصرفاته، وهذا قربه من قلبي. وتساءلت كيف كان شعوره ويده في يدي. وماذا سيشعر لو لامس وجهي. حلقي. صدري.

أعتقد أنني أحببت هذا الرجل. حقا أحببته. على الأقل هذا شعوري.

وابتسمت لنفسي وأنا أتخيل كيف ستكون المرة الأولى– بنعومة، نكتشف أنفسنا بهدوء ثم  ننتفجر بعاطفة حارة بيضاء حتى نغرق بالعرق ونفقد أنفاسنا.

إيه. دائما توجد فرصة من هذا النوع. أي شيء يمكن أن يحصل، أليس كذلك؟.

يا إلهي.

هل من شخص يستمع. أي شخص.

أتمنى أن ينشر كتابه بأسرع وقت.

***

حزيران 2002

........................

روبين سليك Robin Slick : كاتبة أمريكية معاصرة من سكان فيلادلفيا. صدرت لها مجموعة من الروايات والمجموعات القصصية. موضوعها الأساسي الخيانة الزوجية والغرام الممنوع. من أهم كتبها: لقمة من التفاحة، لقمة أخرى من التفاحة، ثلاث أيام في نيويورك، والدي تركني وحدي مع الله، المسافر إلى القمر، وغيرها.

 

 

في نصوص اليوم