ترجمات أدبية

حنيف قريشي: هي قالت وهو قال

بقلم: حنيف قريشي

ترجمة: صالح الرزوق

***

كانت سوشيلا تمشي في الحديقة، حينما شاهدت ماتيو ومساعده يجلسان على مقعد متطاول. اقتربت منهما، ولاحظت أن ماتيو يرتدي بذته السوداء. في الواقع كان مخمورا جدا، وهو شيء غير معتاد منه في هذا الوقت من اليوم، وكان في أواخر ما بعد الظهيرة. ألقت عليه التحية، وقبلته من خديه، فسألها إن كانت تقبل أن تنام معه. وتابع: لماذا لا ينامان معا؟. ويمكنهما أن يفعلا ذلك الآن، في بيته، إن لديها الوقت الكافي.  وأخبرها لطالما اعتقد أنها جذابة، ولكنه لم يكن جاهزا للكلام. ومع أنهما متعارفان منذ ثماني عشر عاما على الأقل، لم يكلمها بهذه الصراحة.

فاجأها كلامه، وحاولت أن تبدو مرتبكة. فهي معجبة به، وتراه لماحا وذكيا. كان ماتيو يعمل مع لين زوجها. وكانت مارسي زوجته مرتاحة لذلك، وقاموا معا بنزهات إلى الشاطئ.

في الصباح التالي قابلت ماتيو، مجددا، في السوبرماركت. لم يكن مع مساعده، ولا مخمورا. اقترب منها فورا، وكرر كلامه تقريبا بنفس المفردات، وأضاف إنها عاشت مع لين لفترة طويلة، ولا شك أنها ضجرت منه. قال لها: النساء تفضلن التغيير، وهو يقدم لها فرصة لذلك. وعليهما أن يتشاركا الفراش، حتى لو لمرة واحدة. ولا ضرورة للتصريح بالمزيد. أمسكت سوشيلا أعصابها، واخبرته إنها لن تنام معه أبدا. ولا حتى إن عاشت ألف حياة وحياة. هذا غير وارد على الإطلاق. ولو أن هذه هي طريقته بالإغواء لا تستغرب أنه لا يزال بكرا لم يدنس نفسه بعد.

واتصلت بلين فورا، ونقلت له ما قاله ماتيو في اللقائين. حينما عاد لين إلى البيت كان شاحبا وثائرا. سألته سوشيلا: هل هو على ما يرام، ثم كتبت إلى ماتيو رسالة قصيرة تخبره أن لين يريد لقاءه. رد ماتيو: أنه في طريقه إلى خارج البلدة  ولكنه يأمل أن لدى لين عملا فنيا جديدا يعرضه عليه. ويمكنه أن يأتي به في الأسبوع التالي؟. كان لين يرسم بشكل جيد، ووصلت أعماله الى مستوى أفضل.

استغرب ماتيو عندما جاء لين فارغ اليدين.

أين الرسومات الجديدة؟.

كانت قد مرت أربع أيام، ولذلك هدأ لين. وخلالها ناقش المسألة مع سوشيلا، وأمكنه أن يخبر ماتيو برزانة عما سمعه عن سلوكه، أول مرة حينما كان مخمورا في الحديقة، ولاحقا حينما كان بتمام وعيه في السوبر ماركت. اعتذر ماتيو دون إنكار، وطلب المغفرة منه. ولكن قال لين إنه غير مستعد للتسامح. التسامح، أو النسيان، شيء لا يفكر به. وهو لا يفهم لماذا تصرف ماتيو - الذي يعتقد لين أنه يفهمه - بهذه الطريقة.

رد ماتيو أنه لا يعلم مثله أيضا، ولذلك الأفضل أن يتركا الموضوع وراءهما.

سأل لين ماتيو لماذا كرر طلبه من سوشيلا حينما استعاد وعيه وكان بتمام نباهته وإدراكه.

قال إنه أراد أن لا تعتقد سوشيلا أنه غير جاد. وأنها ليست موضوع رغبة حقا.

شكر لين ماتيو على رأيه الصريح. وبعد هذا اللقاء تجول في الحديقة لفترة طويلة، دون أن يتمكن من تجاوز الحوار الذي يرن في ذهنه. مع الصمت تتوالد السموم. قال لنفسه. وما جرى ألح عليه كثيرا، حتى استقر على رأي.  عليه أن يناقش المسألة مع مارسي زوجة ماتيو. كانت لا تزال مقترنة بماتيو، ولكنهما منفصلان، وهي تعيش في البيت المجاور وكأنهما صديقان فقط. وكانت مارسي مريضة بمرض خطير، وكان لين مهتما جدا ليعرف كيف تعيش، وهل تنظر لمغامرات زوجها نظرة احتقار، وتعتبر أنه سلوك أحمق، أو ما شابه ذلك.  لربما يعاني من خلل؟. أو أنه مجرد وضيع ولم يلاحظ لين ذلك؟.

وهكذا ذهب لين ليقابل مارسي، وكانت طريحة الفراش. كان لين يعلم أنها متعبة من سخافات ماتيو مع بقية النساء، وذلك حينما كانا في بيت واحد. وشعر أنه ليس عيبا أن يخبرها بما قال ماتيو لسوشيلا. كانت مارسي تعرف ماتيو. وربما هي عادلة ومتفهمة. وبعد أن روى لها الحكاية أضاف خلال حديثهما أن سوشيلا كشفت له عن أمور جديدة، لم يكن يعرفها، ولم يخبره بها أحد. فقد وبين لها أن ماتيو في آخر سنتين تحرش بنساء أصدقاء آخرين، بطريقة استفزازية مماثلة. مثلا نقلت سوزان لسوشيلا كيف تحرش ماتيو بها، وكذلك فعلت زورا. وربما هناك أخريات.

هل سمعت ميرسي أيضا عن سلوكه؟. وأراد لين أن يؤكد لمارسي أن سوشيلا لطيفة، وكتومة وبالتأكيد لا تعاني من أعراض هستيرية. وليس من عادتها أن تبالغ وتكثر من الكلام في الحدائق والسوبرماكت. ولكن في هذه المرة تعرضت للإهانة والتحرش.

ماذا كان رأي مارسي؟. لقد استمعت ولكن لم تنطق بشيء يذكر. حتى أنها لم تحرك رأسها لا بالإيجاب ولا النفي. وسيطرت على انفعالاتها بشكل ملحوظ. بالعادة الإنسان يهمهم إذا واجهه فراغ أو صمت خلال المحادثة. ولكن ليس مارسي.

وفي النهاية اقترح لين أن يعرض ماتيو نفسه على طبيب معالج، ليعرف سبب هذا القلق - وهذا في هذه الأيام هو الأسلوب المعتاد لتجاوز الأفعال الخاطئة.

قالت مارسي إن ماتيو كان تحت العلاج لعشرين عاما.

قال ماتيو: من الواضح أن هذه الأمور تحتاج لوقت.

همهمت مارسي: نعم تحتاج لوقت.

وعندما عاد لين إلى البيت أخبر سوشيلا أنه قابل ميرسي في مسكنها، فغضبت منه. وقالت إنه لا يمثلها، لماذا لم يناقش الخطة معها أولا؟. فهو ليس ضحية التحرش. حتى أنه لا علاقة له بالموضوع. ماذا يعتقد أنه صنع؟. قال لين إنه لم يكن هناك شيء فكاهي أو ودي بتحرش ماتيو، كما فهم. وأهان ماتيو طبيعته البشرية أيضا. ومن حقه أن يشعر بالاعتداء عليه، وأن يبحث عن مبرر، إن لم ينتقم. وقال ليس أمرا شائعا أن تكوني هدفا لاعتداء متعمد. ومن صديق.

ورأيه عن ماتيو - هو واحد من أقدم الأصدقاء، وشخص وثق دائما بنصيحته - ولكنه تبدل إلى الأبد. وأصبحت الإهانة الآن عامة. ولم تعد تخص أحدا، ويمكن أن تتكرر. النساء أصبحن في مرمى الخطر. وسيكره لين نفسه إن لم يصرح برأيه. أخبرت سوشيلا لين أنه أصبح جامدا. وقد مرت فترة. وعلى النساء الاعتياد على هذه الأمور في كل الأوقات. وهذا لا يعني أنها لم تتحسس أو يؤثر بها موقف لين. ولكنها لا تعتقد أن ماتيو سيكرر فعلته: فهو خائف مما فعل. وندمه حقيقي، وسلوكه كما هو واضح يدمره ويضاعف من كربه.

قال لين تدمير الذات شيء يستمتع به الناس.

وافقته سوشيلا، وأضافت أن ماتيو يشبه المقامر الذي يخاطر مرارا وتكرارا بأمانه. ولكن هي نفسها تحب تسلق المرتفعات، وأحيانا تعرض نفسها للمخاطر.

وكانت تعتقد أن  مارسي ستكلم ماتيو. فهي الوحيدة التي بمقدورها أن تؤثر به. وفي الأيام القادمة سيتردد ماتيو قبل ارتكاب هذه التصرفات لأجل خاطر مارسي.

غير أن لين يشك بذلك. وهو لا يفهم كيف بمقدور مارسي أن لا تفعل شيئا، وتتعايش مع هذا الحال المربك.

قالت سوشيلا ولكن من فضلك تذكر أنه يعرف أن مارسي مريضة. وربما هي فكرة طيبة أن يعتذر لها عن تطفله بهذا الشكل. وهل هو مستعد لذلك؟.

وقبل أن يبدأ بالتفكير بالمسألة ذهبت سوشيلا نحو خطوة تالية.

وأرادت أن تتكلم بصراحة. ولكن يميل لين للمعنى التقليدي بخصوص أفكاره عن الحب أحيانا، إن لم يكن صادقا في بعض الأوقات.

سألها: هل يمكنه ذلك. كيف حصل ذلك؟.

حسنا. كانت مارسي متمنعة وباردة، وهما يعتقدان، أن ماتيو لا يكف عن التحرش بامرأة بعد أخرى. نوع من المتحرش المتسلسل. وإلا لكانا نموذجا لزوج معاصر. ورغم كل شيء، هما شريكان أصيلان وبينهما رابطة لا تنفصم، حتى أن لين لم يتمكن من إدراكها. ولا يوجد أحد أحب مارسي بقدر ماتيو، ومارسي مخلصة لماتيو. وحتى لو فعل شيئا أحمق بين حين وآخر، كلنا نتورط بذلك أحيانا، لقد كانت تدافع عنه.

عليك أن تحترم ذلك. استهزأ لين من فكرة حب بلا عاطفة. هذا لا معنى له، وربما هذا سبب تذمر ماتيو. النساء المتحرشات يحرضنه ويشعر بطاقاته. قالت سوشيلا إنها لا تعتقد أن هذا هو الحال. ولكن فيما يتعلق بمارسي، أرادت أن تقول أننا غالبا نحب الآخر بسبب ضعفه. وإذا أمكننا أن نمنع الحمقى أن يعربوا عن حماقاتهم، حسنا، من سيقبل الحياة في ذلك العالم البليد والبيروقراطي؟.

وتعبا من الكلام بالموضوع، ولم يكن هناك شيء إضافي، وبدا كأن الأمر سقط من حياتهم، لأنه بعد أسبوع وصلتهما دعوة. كان عيد ميلاد ماتيو في الأسبوع التالي، وهما مدعوان للحفل. ذهبت سوشيلا إلى المدينة، وأنفقت ما بعد الظهيرة تبحث عن هدية. لم تكن الحفلة مناسبة للموضوت لا من ناحية التوقيت ولا المكان. وتعهد لين أن يقفل فمه، وأضاف إنه سيتماسك قليلا، ويبتعد، ومن سمع بالمشكلة فقد سمع بها، ولكن هذا لم يعد يؤثر به. عموما ما أن وصلا إلى الحفل، اقترب ماتيو، أو على الأقل شخص يشبهه، من لين مباشرة. فقد حلق ماتيو لحيته، وشذب شعره، و يبدو أنه صبغه أيضا. وقبل أن يتسنى للين أن يكتشف هل هذا تنكر،  ماتيو ذراعه حول كتفيه، ووضع فمه بمحاذاة أذنه. كان يريد أن يكلمه، هناك، في زاوية الغرفة.

هل يمكن للين أن يتبعه؟. قال ماتيو إن لين أخبر العديد بالحكاية. وذكر شخصا ما في مكتب ماتيو. ولذلك تضخمت الإشاعة وانتشرت. ألم يقبل لين اعتذاره، ووافق على إنهاء الموضوع؟.

قال ماتيو:"هل تريد أن تطعنني في القلب وتجبر زوجتي على البكاء طيلة الليل؟. وقد حصل ذلك. هل تفهم؟. بكت بعد أن اقتحمته خلوتها و ازعجتها. ومساعدي، الواقف هناك، شاهد ما حصل في الحديقة. أعترف أنها مشكلة، ولكن ليس أكثر من ذلك".

دفعه لين بعيدا وقال:"لا تقف بقربي هكذا. أنت لا تعرف ماذا فعلت. أنت متوحش عمليا. وماذا عن سوزان وزورا وبقية النساء؟".

رد ماتيو إن الجميع يعلم أن الإغراء صعب في هذه الأيام. وفي هذه الأوقات المستحيلة، طقوس المعاشرة تتعرض للتصويب. وفي هذه المعمعة، من يبحث عن الحب، لا بد أن يقوم بخطوة غير محسوبة. ومجال سوء الفهم وارد، والليل يأتي قبل النهار. واحتمال الغضب قائم دوما. ولكن من المهم أن يحاول الناس أن يتواصلوا، ولو لساعات، وأن لا يقنطوا من الحاجة للتواصل. وإلا سنتحول إلى مجتمع من الأغراب. ولن يزور أحد الآخر أو يقترب منه. ولن يحصل أي شيء. ومن بحاجة لذلك؟. طبعا كان لين معروفا في دائرته بمشاكل تنفر منه الناس. وإن سنحت له الفرصة ليكون موضع اهتمام، سيفوتها بالتأكيد. ألم يحلم دائما أنه ذهب إلى المطار ورأى أن الطائرات أقلعت وتركته. على الأقل هذا ما رواه بإلحاح خلال العشاء في إحدى الليالي.

هو مولود من البؤس.

اخبر لين سوشيلا أنه سيخرج ليستنشق الهواء، ولكن حالما أصبح في الخارج، لم يفكر بالعودة. وشعر كأنه لم يعد يفهم أي شيء. هذا العالم غبي، وليس هناك طريقة للالتفاف حول ذلك. وبدأ بالإبتعاد بسرعة، ولكنه يعلم أنه مهما ابتعد، عليه أن يعود إلى هذا المكان - إن تمكن من العثور على طريقه إليه.

***

.........................

حنيف قريشي Hanif Kureishi: كاتب بريطاني مولود في جنوب لندن من زواج مختلط بين أب باكستاني وأم إنكليزية. يعيش حاليا في لندن. تأثر في كتاباته بوودهاوس وفيليب روث. من أهم أعماله: بوذا الضواحي، الجسد، اللاشيء، ماذا جرى (مجموعة قصص ومقالات)، إلخ....

في نصوص اليوم