ترجمات أدبية

دافيد قسطنطين: المكالمة الهاتفية

 بقلم: دافيد قسطنطين

ترجمة صالح الرزوق

***

رن الهاتف.

قال: سأرد عليه.

بالعادة يترك الهاتف لها، ولكن كانا بمكان واحد، وأراد أن يتصرف بشكل لائق. بقيت هي عند الطاولة. فكرت: هذا يتكرر مؤخرا. آه، حسنا. وماذا في ذلك؟.

عاد. قال: إنه لك.

- من؟

هز كتفيه وقال: رجل ما.

وحينما عادت كان قد نظف الطاولة، وغسل الأطباق، وبدأ بغسل الفاصولياء - فاصوليائه - الموجودة في آخر الحديقة. وقفت عند خزان الماء، تراقبه وتحاول أن تفهم المكالمة. كانت أمسية صيفية طويلة، العصافير تزقزق، وكل شيء في الحديقة على أتم ما يرام. ولكن لم يكن بوسعها أن تؤكد، أو توقعت أنها غير متأكدة، وهل هو يروي الفاصولياء حقا مثلما نظف الأطباق: لتكون محقة دون تحير. وكان بإمكانها تقريبا أن تسمع الصوت الذي في رأسه، اللحن المتفجع. ولكن بضوء الظروف الحالية لا تجد سببا يدفعها للحزن عليه، أو عليها أيضا. ولكنها لم ترغب أن يستمر حتى يخيم الليل ويحين وقت النوم. تقدمت في الحديقة، ووقفت قرب الفاصولياء، التي استطالت وأزهرت ورودها القرمزية. شمت رائحة التراب المبلول. استدار وعاد من خزان الماء ومعه علبة ممتلئة. قالت: جيد. ولكنه لم يحرك رأسه. ورأت أن العمل، الذي يحب، يتملكه. بعد أن أفرغ العلبة قال: أحتاج لعلبة أخرى. وقفت تراقبه، وتفكر بالمكالمة، وحينما انتهى من الأخدود قال من فوق كتفه: من كان؟.

ردت: رجل ما. قال إنه تعرف علي قبل عشرين عاما في أيام الدراسة.

أفلت الزوج العلبة الفارغة ونظر إليها متسائلا.

قال: أي دراسة؟

-درس انت أهديته لي في عيد ميلادي، درس الشعر في منطقة البحيرات. قلت إنني سأسقط في الحفرة إن لم أتبع الحصص الدراسية عن كتابة الشعر في منطقة البحيرات. وكل رفيقاتي قلن إنها هدية رائعة.

قال الزوج: آه، تلك الحصة. والرجل الذي كلمك للتو كان معك، أليس كذلك؟

- حسنا. ادعى ذلك. ولكن لم أكن بعمر يمكنني من تذكره. قلت له ربما كنت معه، ولكن تلك كانت كذبة.

- لكنه يتذكرك جيدا، بما يكفي ليكلمك بعد عشرين عاما.

- لأكون صادقة تماما، أنا لست متأكدة أنه يتذكرني، ليس أنا، إن كنت تفهم ما أقصد.

قال إنه يفهمها، ولكنني لست متيقنا.

واستدار الزوج ليعيد العلبة إلى قرب خزان الماء حيث يجب أن تكون. راقبته، وهي تفكر بالرجل الذي كلمها، وليس بزوجها وأسئلته.

عاد وسألها: هل لهذا الرجل اسم؟.

ردت: نعم. له اسم. قال اسمه ألان إيغليستون. ولكن لا أتذكر أحدا بهذا الاسم من أيام حصة الشعر. أتذكر من هم المدرسون، واثنين أو ثلاثة من الطلاب. ولكن ليس ألان إيغليستون.

ثم قال الزوج: حسنا كانت مكالمة طويلة مع رجل لا تتذكرينه. لا بد أنك وجدت شيئا مشتركا بينكما، لتستمري معه طويلا.

ردت: نعم. وآسفة جدا لأنني تركتك مع غسيل الأطباق. لم أجد طريقة لإنهاء الكلام بسرعة. ولم أكن مستعدة لمقاطعته.

نظر إليها الرجل، لبعض الوقت، كأنه لا يراها كما هي على حقيقتها.

قالت: لا تنظر لي هكذا يا جاك.

رد: ولكنني لا أنظر لك بطريقة مشينة. فقط لا أعلم عما كنت تتكلمين مع شخص غريب كل هذا الوقت. ربما كنت في ذهنه منذ عشرين عاما. وربما كتب لك القصائد لعشرين عاما.

ردت: أشك بذلك.

وشعرت بالتعب، ليس من الكلام الذي دار عن المكالمة، ولكن من كل شيء يحصل بين حين وآخر. ولا شك أن جاك لاحظ ذلك. فهو واضح جدا. لم يفقد أحد من معارفه صبره فجأة، وبشكل ملحوظ، مثل زوجته.

قال: أنا لا أفهمك يا كريس.

لست مضطرة لتخبريني بأي شيء لا تريدين أن تخبريني به. كنت أتساءل ماذا لدى السيد إيغليستون هذا ليقوله لك طيلة هذه الفترة.

بسبابة يدها اليسرى جرت كريستين شفتها السفلى عدة مرات وأفلتتها. ولا تفعل ذلك إلا إذا كانت بحالة عصبية أو محتارة أو الاثنين معا. وهي عادة سيئة، وتثير حفيظة الآخرين، وغالبا ما تلقت التوبيخ بسببها من أمها حينما كانت بنتا صغيرة.

قالت: أخبرني أنه مصاب باللوكيميا. وقال إنه ربما بقي لديه ثلاث أسابيع في هذه الحياة. ونظرت إلى جاك كما لو أنه يعلم كيف ينفق هذا الوقت. ولكن جاك هز رأسه. وقال: لا تكذبي علي. لا أحد يتصل بإنسانة غريبة تماما ليخبرها أنه سيموت في غضون ثلاث أسابيع.

ردت: لم أقل إنه غريب تماما عني. قلت أنا لا أتذكره. ولو أنه غريب عني، فهو لا يعتقد أنني غريبة عنه. وقال إننا كنا معا في حصة الشعر في منطقة البحيرات. واسمي موجود في دفتر أرقام الهاتف الخاص به.

- هل اسمك مدرج في دفتر هواتفه؟.

- -حسنا. لا شيء عجيب في ذلك. لماذا لا يتبادل الزملاء في الدراسة العناوين في نهاية الفصل إذا شعروا أنه كان وقتا ممتعا؟ وحقيقة أنني لا أستطبع أن أتذكره لا يبدل من الأمر شيئا. ولنكن صريحين بهذا الشأن. هو لم يخصني بالمكالمة. بل اتصل بكل الأسماء الموجودة في دفتره، وأخبرني بذلك منذ البداية.

قال جاك: لا بد أنه وصل إلى حرف واو، ولم يبق أمامه الكثير.

ردت كريستين: كلا. لم يشارف على حرف الواو. وهو لا يزال في حرف الباء.

- هل يمكن أن أسال إذا لماذا اتصل بك أولا؟

- لأنني أثناء الدراسة كنت أستعمل اسم العائلة. لا أقصد أنني لم أخبر الآخرين أنني متزوجة. ولكن استعملت اسم العزوبية لأنني كنت أعتقد إنه الاسم الذي يجب أن أنشر به إن نشرت أي شيء.

قال جاك: لم تخبريني بهذا على الإطلاق.

ردت: متأكدة أنني أخبرتك. ولكن المسألة ليست إن أخبرتك أم لا.

قال جاك: لم تخبريني فعلا.

ومنحها نظرة أخرى وتراجع عمدا إلى داخل المنزل. مكثت كريستين في الحديقة. كان الجو سارا هناك بالنسبة لمنطقة في الضواحي، كأنها تعيش في الريف. الثعالب تأتي مع جرائها في بواكير الصباح من أيام الصيف، وتسمع أصواتها، وكذلك الكلاب وإناث الذئاب، تعوي وتصيح في ليالي الشتاء. والبوم أيضا أحيانا، وتعشش في أشجار المستشفى الضخمة. بقيت في الخارج، تدغدغ شفتها بأصبعها. وطال بقاؤها حتى لف كتفيها إحساس بالبرد. في الداخل كان جاك يتابع الأخبار. سمعت بمجزرة أخرى.

قالت كريستين: أعتقد أنني مزمعة على الإخلاد للسرير.

أغلق التلفزيون وقال: أنا حزين لهذا السيد، المسمى إيغليستون. بكل تأكيد أشعر بالأسف له. ولكن لا أرى مبررا ليخبر كل الأسماء المذكورة في دليل هواتفه أنه مشرف على الهلاك. ألا يكفي تمرير النبأ لعائلته وأصدقائه المقربين؟. أتساءل: كم من الأغراب يتوجب عليه الاتصال بهم كل يوم، يصعب أن يخبر الجميع، أليس كذلك، فكل ما بقي له ثلاث أسابيع.

في منزل آل ويكلين أصبحت كريستين المرجع فيما يتعلق بإيغليستون الذي يحتضر.

قالت: له عائلة. من ثلاث بنات على وجه الدقة. ولكن هجرته زوجته، وأخذت معها البنات وهن طالبات صغيرات في المدرسة. وعلى ما يبدو كانت تدعي أنه أناني. ولذلك نادرا ما يجتمع بعائلته، ولم يخبر أحدا عن حالته الصحية. وربما لا يوجد الكثير من الأسماء في دليل هواتفه، وربما نصفهم من الأموات. وهذا هو حال دليل هواتفنا. وربما هو دليل هاتف قديم تركته زوجته حينما غادرت وبدأت بدليل جديد، ومعظم العناوين القديمة، التي يتصل بها الآن، تخصها هي، أسماء عائلتها وأصدقائها على وجه العموم، وهذا هو الحال في دليل هواتفنا كذلك، يجب أن تعترف بذلك، ولن يبقى أحد منهم على قيد الحياة إن انتظرت إضافاتك. فأنت لا تضيف أسماء جديدة.

- ولكن كيف لي أن أعلم بأحواله. أصلا لم أقابل الرجل وإن قابلته لا أستطيع أن أتذكر كيف يبدو أو أي شيء آخر عنه.

- أخبرني أنه تبقى له ثلاث أسابيع من حياته، وهو يتصل بالأسماء الواردة في دليل هاتفه بالترتيب الهجائي، وأنه وصل إلى حرف الباء، ووجد اسمي فيه. هل بمقدورنا الآن أن ننسى هذا الموضوع.

في السرير استغرقت كريستين بالتفكير. ورأت أنه من غير المستحب أن تغرب الشمس وهي حانقة لأن الموت قد يخطف واحدا منهما في الليل فلا يتبقى وقت للتسامح. ثم قررت أنه لا ضرورة الغضب، وليس بينهما شيء للتسامح. وفي كل حال كان جاك قد غرق بالنوم. استلقت كريستين مستيقظة تحاول جهدها أن تتذكر أي شيء مهما كان عن ألان إيغليستون، ولكن لم يخطر لها شيء. وعوضا عن ذلك وبلفتة مفاجئة تذكرت شخصا آخر كان معها في حصة الشعر تلك في منطقة البحيرات. اسمه ستيف الفلاني، أو اسم آخر، ولكنه شاب هادئ، على الأقل أصغر منها بشكل ملحوظ. ولم يردعه ذلك، واقترح أن يشتركا بنزهة في فترة بعد الظهيرة من أحد الأيام، ولم يكن لديهم حينها ورشة عمل والمفروض أن الجميع مشغولون بقصائدهم دون مزيد من الصخب والضجة.

كان يعلم ما ينتظره في طريق التابوت القديم حتى بحيرة ألكوك وما بعدها، وحتى التلال، المعروفة باسم تل مايكل، والمذكورة في قصيدة ووردزورث، وهي عن رجل عجوز كان يبني حظيرة للخراف، ولكن ساء حال ابنه، وفطر قلب والده، وفي أحد الأيام تسلق التل وجلس خامدا قرب عمل قيد الإنجاز 'ولم يرفع حجرة واحدة'.

غرغرت الدموع في عيني كريستين بسبب بيت الشعر من القصيدة المشهورة، عن الأب المسكين، والابن المسكين اليائس، والشاب المدعو ستيف الذي وجدها كما هو واضح بمنتهى الجاذبية ودعاها لنزهة برفقته إلى أماكن لا تفكر بزيارتها إذا كانت بمفردها.

تناول جاك في اليوم التالي إفطاره كالعادة. فكرت كريستين: ليس هناك ما يقلق كثيرا، وبحثت بغوغل عن ألان إيغليستون، لتتأكد إن كان معروفا في السنوات الأخيرة. ولكن لم تجد شيئا، يمكن أن يكون له به أي علاقة. بعد الإفطار، وإن شئت الحقيقة وهي تغادر البيت لنوبة عملها الصباحية في أوكسفام، أخبرت جاك أن غوغل لم يتعرف على ألان إيغليستون.

قال جاك: هذا يعني أنك أهدرت نقودك من أجله.

ورأت كريستين أن جاك علم فورا أنه لا يجدر به أن يقول ذلك. ولكنها تركت البيت بوداع بسيط قبل أن يعتذر.

في الشارع كانت تمشي بسرعة، وهي تفكر أنه لا يجب مغادرة البيت بسخط، فهذا مثل أن تستدير وتنام غاضبا مع احتمال أن تموت تحت عجلات حافلة، والخطأ الذي يحتاج لتصويب، سيبقى خطأ إلى الأبد.

ثم في نهاية الدكان مع سيدات يوم الثلاثاء، اللواتي كن ترتبن أطنانا من اللوازم لترسلها العائلات إلى أوكسفام، أو لتعين بها المسنين بعد وفاة أحدهم، تعمدت أن تفكر بهدوء بأحوال ستيف وبحيرة ألكوك والسفح الصاعد نحو تل مايكل.

كان الوقت في مطلع حزيران، والمياه حول ضفاف البحيرة سوداء تماما وراكدة، وفيها ضفادع كبيرة جدا. عادت إليها كلمة "أطراف" من قصيدة لهاردي كتبها لزوجته بعد موتها واستيقاظ الحب الذي مات. أطراف البحر الأبيض، وأطراف البحيرة السوداء.

نطق ستيف ذلك بلهجة كثيفة، ولكن كل كلمة منفصلة عن غيرها، وكل منها في السياق احتمال منفصل عن حياة تالية، وكل منها تتحرك منعزلة باتجاه الطور اللاحق من حياتها، وهي تشبه النطاف، أطراف البحيرة كانت نطافا. ولم تجد في ذلك شيئا غير محترم أو يسبب الارتباك. عالمها وعالمه مثل شيء يخطر لك فجاة إن رأيت دون إنذار شيئا جديدا أمامك. وحينما شرعا بتسلق تل مايكل، برزت من وجه الصخرة أشجار غبيراء، برزت وارتفعت فجأة، من الصخور، دون مهلة، وإلى أعلى، كما لو أنها ترغب بذلك، وكانت مزهرة بغزارة، وذات لون كريمي، ولها رائحة عطرية غريبة، عالية في الفضاء، إلى الأعلى والأمام لتخيم على الفراغ، في الفضاء الرقيق، ولتشرف على هاوية سحيقة، وهي ترتفع. وأصر ستيف أنه قبل أن يبدأ التسلق، إلى التل، عليهما الاقتراب بقدر الإمكان إلى مكان نمو الأشجار أفقيا من صخرة تغطيها السراخس، لحين يمكنها أن تنمو نحو السماء.

أمسك بيدها، وساعدها، كان الأمر مثل تسلق الصخور، وحينما وصلا إلى المكان المقصود، نفس مكان الأشجار في المرتفعات، ركزت على المشهد، على الشيء، على الطبيعة الظاهرة، وشعرت بمشاعر مريحة، كانت قد نسيتها تماما، وهي مريحة لأنه كان يفكر بها مبتهجا وسعيدا. أصبحت أمام وجوده ووعيها الشديد بنفسها، وأشجار الغبيراء التي تأثر بها.

في البيت كان جاك قد حضر الطاولة للغداء، ولم يسبق له أن فعل ذلك. كان يبدو مثل كلب ينتظر وقال فورا: أنا آسف يا كريس. ما كان يجب أن أقول ما قلت.

-وأنا أعرف دروسك جيدا، لم تكن هدرا للنقود.

-استمتعت بها أليس كذلك. أليس كذلك، وهذا كل ما يهم.

ردت: نعم. استمتعت بها. وأفادتني. وكل صديقاتي النساء لاحظن التبدل الذي طرأ علي. وشعرت بالتحسن بعدها لحوالي سنتين. هل تذكر.

ابتهج جاك وسأل: والآن ماذا علينا أن نفعل مع الأحمق المسكين إيغليستون. هل نفعل شيئا أم نهمله.

قالت كريس: لا شيء. وماذا يمكننا أن نصنع؟. لا شيء.

-أقصد أنه لم يذكر أنه سيتصل بك ثانية. ليخبرك عن أحواله؟. وأنت لم تقولي إنك ستتصلين به.

قالت كريستين: كلا. كلا هو لم يذكر شيئا و أنا كذلك.

وهكذا تابع جاك وكريستين ويكلين طريقيهما البطيئين نحو نهايتين منفصلتين. وتابعت المكالمة الهاتفية، في نفس الوقت، عملها في رأسيهما، كل على حدة. كانت كريستين لا تستطيع إخراج صوت ألان إيغليستون من رأسها. ويوما بعد آخر أصبح أعلى، وأكثر إلحاحا. وكانت مكرهة للإصغاء للرعب واليأس الذي يأتي بعد كلامه. وتذكرت كيف كان كلامها محدودا معه، وكيف لم يسمح لها إلا قليلا بالكلام، وما وفر لها كلامها من فائدة أو راحة؟. ماذا أراد، بالإضافة إلى أن لا يلقى حتفه؟.

هل الاتصال حسب الترتيب الأبجدي في دليل الهاتف الشخصي ساعده ولو قليلا؟. وكل ما سمعته الآن هو كلام رجل وحيد مع إنسانة لا تذكره. ومع أنها أشفقت عليه، ولكن الإحساس المسيطر عليها كان الرعب فقط. ورأت أن جاك يراقبها. وعلمت أن ألان إيغليستون أصبح مشتركا بينهما، وهذا ما تسبب لها بالغثيان.

اثناء الطعام أو النوم في السرير أو الوقوف معا لغسيل الأطباق، أحدهما دون مقدمات، وكان هذا هو الموضوع المحتمل الوحيد الذي يستحق التفكير أو الحوار، يتساءل بصوت مرتفع عن مصيره، ويقترح سؤالا، بلغة خطابية، دون أن يتوقع ردا. أو يصدر عن جاك أو كريستين تكهن.

قال جاك: ربما يأمل بمعجزة. وهذا مفهوم تماما. لنقل في دفتر هواتفه خمسون اسما، وقد يكون أحدهم سمع بشخص أوقف أثر اللوكيميا قبل النهاية، جمدها، بأساليب خارقة، وجعلها على الأقل تتأخر بمفعولها، وربح للشخص المحتضر خمس سنوات إضافية، أو عاما، أو حتى ست شهور؟.

قالت كريستين: ربما أنت محق. ومع أنه لم يسألني إن كنت أعرف أحدا من هذا النوع. ولاحظت أن هذا الكلام جعل جاك يتساءل لماذا خابرها ألان إيغليستون أساسا.

ثم فجأة بعد يوم أو اثنين قالت: صدمني أنه ربما كان يتابع بتلك الطريقة المنهجية ليتأكد أنه لا يوجد أحد في دليل الهواتف يدين له باعتذار أو هو مدين له باعتذار، وخابره ليقول له أنه لم يبق وقت طويل له لتصويب أخطائه.

وعند ذلك وبشكل واضح قال جاك والشك يخامره: هل قال لك ذلك؟.

- كلا، لم يفعل. ولكن تبادر ذلك إلى ذهني.

ولاحقا في نفس اليوم، قاطعت جاك الذي كان يتكلم عن أمر آخر وقالت: أرى أنه أخطا لأنه لم يخبر زوجته وأولاده بحالته الصحية. لا شك أنه يريد أن يتألموا بعد أن يكتشفوا أنه مات.

قال جاك فجأة: ولكن لا أحد يكون ساخطا ويفكر بالانتقام وهو يلفظ أنفاسه. اتصلي به، وأخبريه.

- لا أعرف رقمه.

- توجد طرق لمعرفة رقمه.

- لا أريد. ولا أود أن أتكلم معه مجددا. ولا أريد أن أسمع صوته. وطيلة الوقت صوته يرن في رأسي يا جاك. ولا أريد أن يزيد من متاعبي بنفسه.

مرة أو اثنتين قال جاك إن السيد إيغليستون هراء لا معنى له. ولا يجوز مكالمة الناس هكذا وإفساد حياتهم لأنه شارف على النهاية. قال جاك: الجميع يموتون. فلماذا موته له طعم خاص؟.

ونظر بمزيد من الشك إلى كريستين، فتوقعت أنه يعتقد بوجود أشياء لم تخبره بها عن حصص الشعر اللعينة.

وفي المدينة في أحد الأيام وهو يتبعها أثناء التسوق، سأل بطريقة عادية إن كان لديها شيء من تلك الحصص، رسائل قديمة، قصائد، صور، أية ذكريات لها معنى، وفهم بدوره لماذا خابرها السيد إيغليستون ليقول لها إنه يموت.

ردت: لا.

ووضعت الكبد والنقانق في سلتها، وأضافت: إن كنت تريد أن تعرف حقا، أنا ألقيت كل شيء في النفايات في أحد الأيام بعد سنتين منه حينما تعكر مزاجي. كل شيء بقي لي من ذلك الأسبوع - وكان كل شيء في مغلف مربوط بشريط - ألقيت كل شيء في النفايات، واحتفظت بعيني على سلة النفايات حتى جاء رجال التنظيفات ووصلوا إلى بيت الجيران، وهناك غادرت وألقيت المغلف في النفايات لأتأكد أنهم حملوه معهم، ولا مجال لتبديل رأيي. هذا ما فعلت بذكرياتي عن حصص الشعر.

قال جاك: لم تخبريني بذلك.

قالت كريستين: كلا. لم أخبرك بذلك.

ويوما بعد يوم لاحظت كريستين أن جاك ينظر بمزيد من الشك إليها.

قالت لنفسها: أعلم بماذا يفكر.

ثم بعد ثلاث أسابيع من الاتصال الهاتفي مرت أمسية جميلة، وذهب إلى الفاصولياء، وبدأ يسقيها، فوقفت بطريقة مريبة إلى جانبه، تراقبه بنصف وعيها. ونصفها الآخر مشغول، وكانت تلهو بشفتها بطريقة لم تكن تتبعها في السنوات السابقة.

أفلت العلبة الفارغة وقال: كريس، لا تلعبي بي مجددا، هل هذا ممكن؟.

***

..............................

دافيد قسطنطين David Constantine: مترجم وشاعر وروائي إنكليزي. ولد في سالفورد ويعيش في أوكسفورد. له روايتان هما "دافيز" و"كاتب مدى الحياة"، وسيرة أدبية هي "حقول النار: حياة السير وليام هاملتون". وعدد من المجموعات القصصية ومنها "في الخلف عند الشوكة" و"تحت السد" و"حفل شاي في الميدلاند" و"الحظيرة" و"صندوق الملابس". اشترك مع زوجته هيلين في تحرير كتاب "الشعر الحديث المترجم". ترجم أعمال هولدرلين وبريخت وغوتة وكلايست وميشو وجاكوتي.

 

 

في نصوص اليوم