ترجمات أدبية

كريس أباني: الطريق

 بقلم: كريس أباني

ترجمة: صالح الرزوق

***

"في البداية نهر. والنهر تحول إلى طريق، الطريق تشعب في كل العالم. ولأن الطريق كان في سالف الزمان نهرا فهو جائع باستمرار".

* بن أوكري- طريق المجاعة

في هذا الصباح البارد كانت نزهتي بجوار البحيرة ساحرة، هناك خصل من الضباب الذي يتلوى ويغيب في العدم، وأسراب من طيور البحر الصامتة تطير بتشكيلات عديدة، كأنها خفر سواحل طبيعيين. في البيت جهزت إبريقا من شاي إيرل غراي من أجل العمل الذي ينتظرني. الشاي الساخن يترك ضبابا، ورائحة زيت البرغموت تشعرني بالدفء، وتخلق إحساسا قديما بالراحة والأمان. على طاولتي صورة فوتوغرافية نظرت إليها. رأيت صبيا بالعاشرة أو الثاني عشرة، ويحمل صبيا آخر أصغر منه. كانا يتقدمان في طريق ترابي ريفي، وأشجار كثيفة على الطرفين. ومن بعيد أمامهما أربع بنات مراهقات تتقدمن بعرض الطريق، وتتمخترن عليه. إحداهن التفتت برأسها إلى الخلف لتتأكد من مكان الأولاد.

صورة بسيطة في إطار أنيق، وفي خلفيتها حقل رائع، لكنه بسيط أيضا. ويمثل صورة ست أولاد أفارقة يمشون على طول طريق ترابي ريفي. ولا تلاحظ أي خطر داهم، ولكن هناك جو متوتر يحيط بالأولاد، ولا يستوجب رفع راية حمراء. ومع ذلك لفتت الصورة انتباهي فورا، وتخلل أنفاسي إحساس عصبي، وعلى الفور وقفت أمامها وشردت بها. وهذا رغم حقيقة أن الصورة لفنان نيجيري اسمه فكتور إكبوك، وقد وجدتها في صفحتي على إنستغرام. ورأيت فيها مباشرة شيئا مألوفا ويسبب الارتباك، وهو مشهد منخفض أرضي غريب تماما.

وأؤكد مجددا أنني لا أعرف المشهد، ولا أعرف أي شخص في الصورة، ولا يسعني معرفة المكان. لماذا؟. فالصورة ملتقطة قبل عدة أيام، وعلى وجه الدقة في سورينام. ولكن كان أثرها مقلقا، بسبب الانفصال عن الفترة والمكان وحتى الذاكرة. ثم لمعت في رأسي فكرة. وربط دماغي الصورة بصورة في عقلي. وأنا أقول "صورة"، ولكن بالمعنى البصري الدقيق لا يمكن وصفها بذلك، وستتضح الأسباب لاحقا.

الصورة هي لأخي الأكبر مارك، عمره بصعوبة ثماني سنوات، ويحملني وأنا بعمر ست شهور، وكنا نهرب من بيتنا الكائن في ريف أفيكبو، فقط قبل ساعات من توغل الجيش النيجيري إلى مدينتنا من جهة شاطئ نديبي، حيث حطوا للتو، على بعد ثلاث أميال. هذه ليست صورة بالمعنى الدقيق جدا لأنه وأنا أتذكر الحادثة فعليا في أعماق وعيي الباطن، وحينما كان بمقدور ذاكرة من هذا النوع أن تسجل بشكل دائم حتى وأنا في هذا العمر المبكر، فإن قدراتي للتعامل معها قد تكون موضع تساؤل. لأنه لا يمكنني "رؤية" شيء تورطت به. وكما اخبرونا لا يمكن أن نكون "مشهدا" و"ننظر" بنفس الوقت إلى ذلك المشهد من الخارج.  ولذلك ما أتذكره عمليا، وهو ليس أقل وضوحا بكل النواحي من الصورة التي أنظر لها، لا يمكنه أن يكون حقيقيا. ولكن هذا قد جرى. وهذه حقيقة. وهنا نكون لحظيا بمواجهة شيء بمنتهى القسوة عن تجربة اللاجئ - أن تكون لاجئا شيء لا هو اسم و لا فعل. ولكنه تأرجح في الوقت -المكاني، وهو ما يتكرر باستمرار.  أنت دائما بوقت واحد لاجئ حتى بعد أن تكون قد فقدت هذه الصفة. وما أن تصنف بها حتى تحمل دائما هذه "الرائحة" الوجودية المرافقة للانزلاق من موضعك. وتدرك أنك تعايشت مع الحالة وحملتها معك دائما، لكن التجربة نفسها لا ترتبط دوما بما تعتقد أنه حقيقي، أو ما هو مقبول في الذاكرة. وهكذا، أنت دائما وحدك مع حالة تالية مزعجة ناجمة عن الصدمة والجرح المتكرر دون امتلاك الكلمات الضرورية الكفيلة بالتعبير عن التجربة التي مررت بها. وتتبدل التفاصيل مع كل سرد وإعادة سرد، حتى تشك بخبراتك الأصلية عنها. وتفقد اليقين بما لك، وما يعود لخبرات عائلتك، وما يعود لإعلام تلك الفترة، وما يخص الذكريات المستعادة. هل لاحظت أن صورة اللاجئ الواضحة، هي الصور التي سنتعرف فبها على حالات وظروف لاجئ هارب بشكل دائم؟. اللاجئ دائما على الطريق في مكان ما، على قارب في مكان ما، ولا يصل على الإطلاق. بعضهم يحمل مظلات، وحقائب، وأولادا، حتى أن بعضهم يربط توابيت بمؤخرة الدراجات، وآلات خياطة. وهناك أشياء، على رؤوسهم، وفي العربات، وعلى الدراجات، وتراهم تيارا طويلا مزدحما من الناس، نهرا بشريا يائسا. هناك بيت مفقود وبيت لا يمكن ترميمه أواستعادته. أنت دائما على أهبة الرحيل وغير قادر على العودة وغير قادر فعليا على الاستقرار أو الانتماء إلى أي مكان آخر.  

الجغرافيا ليست عاملا حقيقيا هنا، بل هي تتجاوز فكرة وحقيقة الرحلة. وتجربتي باللجوء هي نتيجة الحرب الأهلية بين بيافرا ونيجيريا منذ 1967 حتى 1970. وباعتبار أنني إغبو، ما يسمى العرق المتمرد، وحتى بعد انتهاء الحرب، وحتى بعد خطاب "لا منتصر ولا مهزوم" الذي ألقاه رئيس نيجيريا، الجنرال يعقوبو غاون، لا يزال الإغبو حتى يومنا هذا لاجئين وفي بلد أسلافهم. الحرب دائما هي الشبح وستبقى دائما شبحا يستحوذ عليهم. هناك شيء ما يتعلق باللاجئين، أكثر من أي نوع آخر من الناس النازحين، وهو ما يخيم على وهم الاستقرار الذي تطمح له الدولة الحديثة. ربما لأن هذا الجسد دليل على تطور أقل مما نريد أن نعتقد ضمن شبكة "إنسانيتنا". ربما لا يوجد جسد آخر يسبب كل هذا القلق مثل جسد اللاجئ. اللاجئون يطورون مجموعة من العقد أينما رحلوا في العالم، وأينما حاولوا أن يستقروا. ولا أعتقد أن هذا ببساطة نتيجة الخوف الأصلي من أن يجتاحك قطيع من المهاجرين البرابرة. وربما هو جزئيا نتيجة الذنب - معظم الأمم التي تقبل اللاجئين هي غالبا مضطرة أخلاقيا لذلك، لأنهم أكثر ثراء والاقتصاد مستقر بعد نهب خيرات بقية الأمم عبر التاريخ. أو أحيانا لأنهم مسؤولون مسؤولية مباشرة عما يجري. خلق حالة انهيار الدولة يخلق معه جماعة من اللاجئين. وهذا بشكل طبيعي يولد مشاعر المهانة، وألما عاطفيا. وربما كان أعمق أشكال الخوف موجودا في جسد لاجئ يلتقي فيه ضعف الأمة واستقرارها حتى يحصل توازن بينهما.

بعد أن أدركت أننا حين ننظر إلى وجوه اللاجئين نحن ننظر مباشرة إلى إمكانية خاصة بنا.  ولا يوجد هناك شيء ما عدا بركة وبهاء غريبان، وكيان آلي لا يرحم، واصطدامنا به، هو ما يجعلنا بمأمن من التحول إلى لاجئين. هذا الإدراك سائل، وتلك الهوية سائلة، لذلك يمكن أن تتحقق أو تستقر، وإنكارنا لهذا، هو في قلب الوضع البشري. نحن نخاف، وأحيانا نمقت، اللاجئين، لأن وجودهم هو مصدر رعبنا العميق: فنحن لم ولن ننتمي لأي مكان. وبالضد من كل الاعتراضات، أمريكا ليست فعليا أمة مهاجرين ولكنها أمة لاجئين.

صدمة، نزوح، وأمل متهور هو كل ما يحمله الأمريكيون من علامات أخذوها عن ركاب سفينة ماي فلاوير بعد وصول الجماعات المتلاحقة منهم، أو أن هذه العلامات أدخلت إلى هنا عنوة. وهذا أحيانا هو الرعب غير المعترف به والصامت، والحقيقة التي تجعل الأمريكي أمريكيا. هذا يعني أن هذه الأشباح من ماضينا عدائية، وأن هذه الأطياف المجردة من النفس والأمم السابقة لن ترحل ببساطة وستسكن في حواراتنا اليومية عن الهوية. وهي حوارات معقدة لأننا نشعر جميعا بنوستالجيا غامضة تتغلغل فينا وهمها تعريف كل أجزاء ماضينا التاريخي، ونحن ممزقون عمليا لأنه علينا أن نستوطن أي جزء من تلك المراحل الماضية. وكلمة نوستالجيا بمعناها الأصلي تحيل إلى ألم ناجم عن جرح قديم. وهذه الروح العاطفية التي ترافق غالبا النوستالجيا هي أسلول فقط لتحمل الألم حينما نتذكر الجرح. ولهذا السبب اللاجئ هو الجسد الرومنسي الذي يتحدى أكثر من سواه الحساسية الحديثة، فهو يحمل كل علامات الظل الذي دفناه أو خففنا حدته، وبنفس الوقت كل احتمالات وضعنا الحالي.

ونحن ندرك حينما نواجه اللاجئ أننا نحدق في مرآة ذكرياتنا الشخصية عن النزوح. ونتذكر الألم الناتج عن فقدانها، فهي لا تزال مقيمة في أعماقنا من الداخل، وهي تكلم معاناتنا وبالتالي تضعنا في شبكة من المصاعب القصوى: كيف نوازن عاطفتنا مع احتياجاتنا لتعريف حدود الضيافة - وكلاهما ضروري إن كان علينا مساعدة أصدقائنا النازحين حتى يستعيدوا كرامتهم مجددا.

يتعرف اللاجئ على كل أشكال الحنق والاضطراب والخوف غير الواعي. ومثله أولئك العاملون بالنيابة عن مجتمعاتهم. وتنبع هذه المشاعر من قلق تشعر بها الثقافة الأعرض والأوسع.  وهذا ليس جديدا، كما أنه ليس وقفا على أمريكا، ولكن تتفرد أمريكا بشعور الخزي والسكوت على هذه المشكلة. وإن كان علينا تحقيق أي تطور في هذا الشأن، علينا أن نتعلم كيف نعترف، وأن يكون كلامنا خارج أرض الصواب والخطأ، والأهم أن نتعلم كيف نفاوض مخاوفنا والشعور بانعدام الأمان.

***

مارك ذو الثماني سنوات، يمشي في طابور طويل من اللاجئين وهو يحملني، وهذه الصورة لا تفارقني وتخيم على علاقتنا. وحقيقة أن وزني وأنا ابن ثماني شهور ترافق مع وزن صدمة الحرب التي شردتنا، وأصبح ذلك من وجهة نظره شيئا لا يمكنه التخلي عنه ربما خشية الموت، ومعه ظهر شيء خاص به وله أهميته. أن تكون بعمر ثماني سنوات وعليك حمل أخ أصغر لعدة أميال، وأنت خائف من التعب الذي ينالك فقد يتسبب بسقوطه، وخائف من الرصاص، وخائف من الموت، وهو شيء حقيقي، لكنه غير واضح في عقل ابن الثماني، أو أنه لا يمكن تصوره. والحرب، بغض النظر عن المسافة التي تعلن عنها الأخبار والتلفزيون، نشبت فجأة وغالبا دون سابق إنذار بالنسبة للناس الذين أثرت بهم. و لا يهم كم عدد حالات الطوارئ التي تعلنها الدولة، وعدد منع التجول المفروض، وما تخبرك به الأخبار المحلية. للبشر قدرات لا محدودة لتطبيع العالم كي يعيش ويزدهر. وفي الشهور التي أفضت بنا إلى مرحلة بيافرا، تم ذبح مئات ألوف الإغبو الذين يقيمون في شمال نيجيريا خلال حملات تطهير عرقي، وتم تشويه أجسادهم وأعيدت إلى أراضي الإغبو الشرقية بشكل جثامين مبتورة الأطراف ومحزومة بعربات القطار. أضف لذلك حاول زعماء الإغبو التفاوض على السلام، وحاولوا التمسك بأمل هو البلد المولود حديثا والمسمى نيجيريا. وهكذا قاد والدي عائلتنا من مدينة إغبوغو الخاصة بالإغبو حيث كنا نعيش، وحيث كان هو عضوا سابقا في البرلمان، ولكنه في حينها كان مدير مدرسة، إلى مدينة أسلافنا وهي بلدة أفيكبو، فقد كان يعتقد أن المكان آمن ويمكننا انتظار "المشاكل" ونحن بأمان نسبي منها. ثم في أحد أوقات ما بعد الظهيرة، حينما كانت أمي تجهز الغداء، وصل أحد الأقارب وأخبرنا أنه بقي معنا نصف ساعة لنجتمع ونفر بحياتنا. وكان حزم الأمتعة في يوم عمل يحتاج لأكثر من ذلك. وغالبا أفكر بصعوبة ما جرى على الوالدة، وهي امرأة بيضاء فيرظرف حرب نيجيرية. كان عليها أن تحمل أربع أولاد، وهي حامل بولد آخر، وأن تفر على الأقدام مع طابور طويل من اللاجئين. وأن تواجه احتمال الموت المرعب كل يوم وسط واقع المجاعة والخسارات والخوف. وأن تحاول الهرب من بلد إلى آخر.  وأن تعبر عدة مئات من الأميال، مسافة تستغرق بالسيارة أربع ساعات في زمن السلم، ولكن في واقع الحرب والموت، استغرق الأمر سنتين، لأن الطريق لم يكن مستقيما على الإطلاق. فالرحلة كانت إلى مطار وحيد يعمل، وهو طريق سابق. وخلالها ولدت ابنتها في مستشفى تعرض لقصف الأعداء. ثم تركت كل أبنائها باستثناء أصغرهم وديعة عند لاجئين آخرين كي تسبق القصف وعلى أمل جمع الشمل مجددا.

احتفظت بأصغر صبي، وهو بالكاد بعمر عام، وفي ذلك المستشفى كانت القنابل تسقط عليك وأنت تحاولين الولادة. ولم يكن معك غير ممرضة خائفة وراهبة إيرلندية هادئة تشغل منصب قابلة، وهي من ساعدتك بولادة الابن على فراش قرب حلوياتها وشاي إيرل غراي. وكانت تدحرج كليهما من جناح إلى آخر لتسبق القنابل، وفعلت الممرضة نفس الشيء مع الأم. ثم كنت تقفزين من بلد إلى بلد آخر حتى يسمح لك بلدك بالدخول وبشماتة.

كل هذه الذكريات لا تفارقك. أحد أصدقائي، وهو لاجئ سابق، أخبرني أن الشعور قليلا يشبه التنقل عبر نظام دور للرعاية، أنت تشعر دائما أنك خارج أرضك، ودائما تشعر أنك عبء، ودائما تشعر أنك خارج كل شيء.

وأنا، مثل كل لاجئ، أعرف مئات القصص عن المصاعب والمخاطر واحتمال خسارة الحياة والرحلة الدائمة للشفاء. وهناك أشياء كثيرة تشعل هذه الذكريات الحلوة المرة. وبالنسبة لي رائحة شاي إيرل غراي قوية جدا. يتخللها راحة وصراع. ومعرفة مفادها أنني دائما أنفصل عن لاجئ. ولو أن الطريق متعاطف ذات يوم سوف أصل.

***

.................... 

* كريس أباني Chris Abani روائي وشاعر وكاتب مقالات وسيناريو ومسرحي. مولود في نيجيريا لأب من الإغبو وأم إنكليزية. ترعرع في أفيكبو النيجيرية، وتلقى إجازة في الأدب الإنكليزي من جامعة إمو الحكومية، والماجستير في الأدب والجنوسة والثقافة من كلية بيركبيك في جامعة لندن. ثم الدكتوراة في الأدب والكتابة من جامعة جنوب كاليفورنيا. استقر في الولايات المتحدة منذ عام 2001. من أهم أعماله السردية: "التاريخ السري للاس فيغاس"، و"أغنية من أجل الليل". من أشعاره مجموعة "سانتيفيكوم"و"لا يوجد أسماء للأحمر". أباني صوت دولي في مسائل الإنسانوية، والفن، والأخلاق، والمسؤولية المشتركة في السياسة. وهو أستاذ اللغة الإنكليزية في جامعة نورث وستيرن وعضو مقرر في لجنة الجامعة.

 

 

في نصوص اليوم