أقلام ثقافية

العقل بين قوة المنطق ومنطق القوة

akeel alabodيموت المترهلون والمتخمون، ولم يبق من اثارهم الا ما تنخره الديدان، بينما في الوقت ذاته تنبت اثار المتفانين من العظماء والعلماء، وتفوح رائحة الأحرار والكرماء لكانها حدائق عطر في بساتين الطيبين والمبدعين.

هي حكاية رجل اختار طريقة موته، أراد ان يؤسس له عرشا قبل نعشه، ترك الاخرين، انصرف تماماً لمتابعة مشروعه الصغير، وذلك يقتضي ان يكون جنديا ومجاهدا للمضي على نهج ما ابتدأه أولئك الحكماء. لقد وضع نفسه محلهم وراح يحارب.

ما يقوم به ويسعى لتحقيقه لا يبدو ذا أهمية تذكر بالنسبة لهؤلاء، فجميع من معه من الأقربين والمحيطين ينظر الى الحياة من وجهة نظر واحدة.

فالقوي وصاحب الجاه، هو من يمتلك القدرة لتحقيق حاجياته المعيشية، والثروة هي الطريق الى الكسب لتحقيق السعادة والرفاه.

فهي تساعد صاحبها على امتلاك الأشياء وتطويعها، وتوفير ما يريد من مسكن وملبس ومأكل وجميع مفردات الحياة الاخرى، بما فيها ابرام العقود مع الشركات والبنوك، ما يتناسب وقوانين المجتمعات التي تحكمها قيود الاحتكارات ورؤوس الأموال.

والقوة هنا تعني الإمكانية المادية للتعامل التجاري والقدرة على تحقيق الثراء بالسرعة المطلوبة، وذلك يتناسب طرديا مع معدل ما يحصل عليه الفرد، ونسبة الأرباح الداخلة في الحساب المصرفي، ومساحة تشغيل واستغلال الدخل بالاتجاه الأفقي والعمودي، باعتبار ان الدخل الوفير يحقق الربح الكثير على نطاق المستوى الخاص والعام، ما يحقق للفرد مكانة اجتماعية واقتصادية وقوة مؤثرة حتى مع مجالس أولئك الذين يتبنون النشاطات الدينية والسياسية بحسب نظام المصالح، فقد استطاع بعض اصحاب رؤوس الأموال مثلا شراء مساجد بغية تحقيق أغراض ومصالح معينة.

اما بالنسبة له، فان القوة ليست موضوعا للكسب، بل للعطاء، اي ان يواصل الانسان طريقه الشائك، لعله يحض بذلك القدر من الامتياز؛ وذلك بحسبه يتطلب مقدارا من المشقة والصبر والعناء، اضافة الى تحمل أوزار العوز بما فيها تسديد نفقات الاقساط الدراسية الخاصة باستكمال دربه الأكاديمي، وذلك يفرض عليه إنجاز موضوع أطروحته التي تحتاج الى جهود مضنية ومتواصلة من البحث خاصة ما يتعلق منها بموسوعاته الصغيرة الخاصة برسائل اخوان الصفا، وفلسفة المشائين حيث (أرسطو) واتباعه.

هنالك حيث تنتظره تعليقات تحتاج الى تفان في باب المعرفة وما يتبعها في علم العرفان والحكمة، وتلك مسيرة اخرى تحتاج الى حقبة من الزمان لإتمامها.

وهذا كله يفرض على الرجل ان يكرس ما تبقى من عمره بعيدا عن أضواء لقاءاتهم ومجاملاتهم، بعيدا عن مفردات ذلك النمط من الكبرياء والعلاقات المتشعبة، فهو صاحب غاية تقتضي ان يضحي بوقته وصحته لأجل ان يحقق بعض شروط هدفه المقدس.

فبين شروط ما تمليه عليه صحبتهم وبعض شروط هدفه الأسمى، هنالك فجوة تفصل بين بيئتين مختلفتين تماماً من الالتزامات والتطلعات رغم انهم جميعا يعيشون في محيط واحد ومناخ واحد وبيئة واحدة.  

هنا يصبح للترابط الاجتماعي شرطا اخرا غير تلك الشروط التي بحثها قدماء فلاسفة الاجتماع، كونه منوطا بنمط ما يفكر به صاحب العقل والجبروت، ذلك الكيان الذي لا تحده عن العالم الفسيح سوى خارطة تفكيره التي تأبى ان تحاط بحدود وحواجز ما يتطلع اليه الآخرون.

فالأفراد غير العامة، وما يميز الانسان عن غيره هو ماهيته التكوينية وحقيقته النوعية، وذلك (كيف نفساني) بحسب صدر المتألهين، وهو مصدر القوة والضعف التي بها تتميز الكيانات البشرية عن بعضها البعض، فبه تتالف وتختلف وتسمو وتضمحل.

والانفصال عن قوانين الغير هنا يمثل اعلى درجات الاتصال اوالارتباط مع قانون الذات، هذا الذي به يتحد الوجود الإنساني مع اعلى درجات جبروته ليصبح ساميا متعاليا وفقا لمنطق العقل.

لذلك فان قوة المجتمعات لا تقاس بمساحة وحجم ذلك المقدار من الانتشار في التفكير، بل بنوع ما يتمتع به أفرادها المتفانون والمبدعون من ثراء، اذ الثراء ليس مفردة للغنى، إنما هي مفردة للعقول المبدعة تلك التي بها تبنى أنظمة الحياة.

 

عقيل العبود

في المثقف اليوم