أقلام ثقافية

صادق السامرائي: كنا خمسة وسادسنا حلمنا!!

كلية طب الموصل، كلية عريقة أسهم في إنطلاقها أساتذة أفذاذ، وهي ثاني كلية طب في العراق تأسست عام (1959)، وكانت تتميز بصعوبة الدراسة فيها، وشدة أساتذتها وإلتزامهم بأمانة رسالة الطب، وضرورات الحفاظ عليها والوفاء الصادق الأصيل لها.

وتخرّج من الكلية أطباء لهم تأثير متميز في المعارف الطبية وطنيا وعربيا وعالميا، وكنتُ أحد طلبتها، وأعيش مع زملاء آخرين في غرفة واحدة في القسم الداخلي التابع للكلية، والذي كان قريبا منها.

وكانت الغرفة تضم تنويعاتنا العراقية (سامراء، الحلة، المشاهدة، الثورة، الأعظمية)، ولا أذكر يوما على مدى سنوات الدراسة أن دار حديث بيننا عن إنتماءاتنا الدينية أو المذهبية، فحواراتنا تعج بالأحلام والتطلعات الدفاقة، وكل منا يشعر بأن الحياة ملكه ويمكنه أن يصنع فيها ما يشاء.

وكان زملائي من الحلة والثورة والمشاهدة والأعظمية، ذوي طموحات فائقة، ويتجهون نحو القدرة على القيادة والتغيير.

وكان زميلي من الثورة، يتيما، طيب القلب، مندفعا نحو المستقبل، بالإصرار على أن يكون، وكم دعاني لمدينة الثورة، فأزوره ونمشي في شوارعها الطينية ودرابينها، وهو فخور بأنه سيصبح طبيبا، وقد عانى ما عاناه، وكان يحلم أن يبني عمارة (هنا)، كان يشير إلى بقعة معينة سوف يتمكن من شرائها، ويفتح فيها عيادته لمعالجة الفقراء من أبناء المدينة.

وكان صادقا في تطلعاته ورؤيته، وحسبته سيحقق ذلك، فأقول له: سأزورك ذات يوم وأنت في أحسن وأثرى حال، فيضحك ويقول : أنا واثق بأنني سأحقق ذلك.

وبعد أن تخرجنا، جاءني نبأ نهايته بإطلاقة في رأسه على جبهات القتال، فغاب ولم يحقق شيئا من حلمه، ولم يتمتع بعمله كطبيب إلا لعام واحد فقط، وهو فترة إقامته، ويُقال أن زميلنا من الحلة قد حرر شهادة وفاته!!

وزميلي من مدينة المشاهدة شمال بغداد، يحمل طباعا عروبية، وعنده روح الدعابة، ويختزن طاقات ثورية، ولا يهادن، ولا يعرف إلا قول الحق، فما في قلبه على لسانه، مما أورثه الكثير من المتاعب، لكنه كان متمسكا بالحق ولا يخشى لومة لائم، وقد أعلن ثورته ذات يوم على حالةٍ لم يتفق معها، وحصل له ما حصل، لكنه تمكن من الثبات والتواصل في طريقه، وكان متواضعا في طموحاته، أن يمارس مهنته ويتزوج ويرعى عائلته، ويتمتع بأيامه.

وزميلي من الحلة، كان في غاية الطموح، ويختزن طاقات وثابة وإندفاعات مطلقة نحو ما يريد، وكان يتسم بخصائص ذات تأثيرات قيادية، وقد مضى في هذا الطريق، ولا يزال متوثبا ومتمسكا بإرادته، فهو لا يعرف إلا أننا أمة واحدة ووطن واحد، ولن يتنازل عن هذه الرؤية، لأنه يؤمن بها إيمانا راسخا.

وزميلي من الأعظمية، كنت قد تعرفت عليه، أيام (مركز الرعاية العلمية) الذي كان يديره (كامل الدباغ)، ووجدته معي في كلية الطب، وكان والده قارئ قرآن معروف، وهو ذو صوت شجي، وبرغم ما يلوح من براءة ونقاء وصفاء في طلعته، لكنه سلك طريق العسكرية، وأصبح طبيبا عسكريا، وتواصل في حياته، وانقطعت أخباره.

أما أنا فكنت أحلم أن أكون جراحا، وأعمل في مدينتي، وأخصص وقتا لكتابة الرواية والقصة القصيرة، فهذا ما كنت أفعله منذ دراستي الثانوية.

كنا نحمل خمسة مشاعل أحلام، ونرى في فضاءات خيالنا بأننا سنكون ونغير، وأن الأيام ستكون أفضل وأروع.

وفي لحظة مباغتة، ذهبت أحلامنا وأصبحنا في مواجهة صاخبة مباشرة مع الموت!!

إنها الحرب، ولا بد من إلقائنا في الخطوط الأمامية، بل وحتى خلف الحجابات، في قرار عجيب غريب، لمدير الطبابة العسكرية آنذاك، فأصبح أربعتنا في جوف الموت أما زميلنا العسكري، فأنه أبعد ما يكون فيه من مواقع هو وحدة الميدان، التي تبعد عن خطوط المواجهة عشرات الكيلومترات.

وفي بضعة أشهر تأسّر من دفعتنا العشرات، وقتل العشرات، وتعوق العشرات، ولا أدري كيف أغفلنا الموت، وتحررنا من أسر الخنادق وحصار القذائف والصولات.

وخسائرنا الخمسة، أن إبن الثورة قد قتل وإبن الحلة أصابه ما أصابه، والآخرون تبعثروا في أرجاء الدنيا، وانقطعت عنا أخبار إبن الأعظمية.

وبعد أن دارت السنون، تساءلت عن تلك الأحلام التي كانت ممكنة، وكنا نمتلك القدرات والمهارات الكفيلة بتحقيقها، وتأملتها، فوجدتها سرابا، أو دخانا في تلك الغرفة التي كادت مدفئتها النفطية ذات يومٍ أن تقضي علينا، بعد أن أطلقت العنان لدخانها في ليلة شتائية موصلية قارصة البرودة.

هل أن الرياح تجري بما لا تشتهي السَفن؟

أم أن الإنسان هو الذي يقرر إتجاه الريح؟

أتمنى أن نلتقي أربعتنا، ويكون الحلم خامسنا، لنتأمله ونحلله وندرسه، ونكتب بمداده رسالة صريحة للأجيال؟!!

تحياتي لزملائي الذين ما عدت أعرفهم ولا يعرفونني، فقد أصابتنا الويلات والتداعيات بألف مقتل ومقتل!!

***

د. صادق السامرائي

14\11\2013

في المثقف اليوم