آراء

مصطفى غلمان: إعلام بنظارات سوداء

النظرية المثالية الوحيدة في منظومة قيم الإعلام، التي تتأبى الخضوع لبروبغندا السياسات الموجهة، أو الملغومة، هي نظرية "الأخلاق التاريخية" و"أنسنة المعرفة الإعلامية". فما دام المثال النابض لصيرورة هذه المعرفة واستمرارها في الوعي الجماعي العالمي، يلتقي مع الفطرة البشرية السليمة، والاحتذاء بمقومات العمل والسلوك الحضاري والعمراني السليم، فإن جزءا كبيرا من نظام الشكية حتما يسقط تحت ضغط القلة، مهما كان حجم عطائها وتواصلها. إنها ديمقراطية الأقلية، التي تعدل في مسلكياتها، وتبتغي الرسوخ والتجذر في تربة المستقبل.

مناسبة هذا القول، لا تخرج عن دائرة تعاطينا مع منظومة تغطيات الإعلام الغربي لأحداث الحرب الوحشية على غزة. وأمثلة ذلك متعددة، حاصرتنا طيلة 200 مائتي يوم ونيف من القتل والتدمير والحرق والتهجير والتجويع ..إلخ، ولم يكن آخرها ثورة الجامعات الغربية في كل بلدان أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

 كانت لهذه الفورة الأخيرة، ردات أفعال متقدمة من قبل نخب أكاديمية وطلبة العلم وبعض مديري الجامعات والمعاهد الكبرى، وكان لذلك، أثر حاسم في إعادة تأويل أحداث غزة وتصنيفاتها في وسائل الإعلام المغيبة أو الغائبة، بفعل قوة السلطة الغربية واختياراتها الأيديولوجية والسياسية، وتأسيساتها التاريخية والوجدانية والدينية والقومية.

وقاوم الطلبة والأساتذة المحتجون المناهضون للحرب في غزة وللدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، كل التهديدات انطلاقا من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، لتتسع رقعة الحركة الاحتجاجية والتي اندلعت بعد اعتقال أكثر من 100 شخص في جامعة كولومبيا، حيث باتت تشمل جامعات تكساس وأتلانتا وبوسطن.

وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، اعتقل مئات من المتظاهرين من كاليفورنيا وتكساس إلى أتلانتا وبوسطن أثناء قيامهم بمحاكاة المخيمات التي استخدمها طلاب جامعة كولومبيا للفت الانتباه إلى الأزمة الإنسانية في غزة. كما هو الأمر بالنسبة لفرنسا في السوربون وإسبانيا والسويد ...

تحت عيون كاميرات الهواة ومواقع التواصل الاجتماعي، بدا الإعلام الغربي خارجا عن السياق، متخرصا لا يلوي على أثر، أصابت ديمقراطيته لوثة الكيل بمكاييل، والنظر بمهماز التحايل والمؤامرة والاستقواء؟، حيث انتقلت "الديمقراطية الإعلامية" من مجرد خرصة في أيدي مدبري "البروبجندا المعكوسة" إلى بوصلة غير شفيفة، تحيق بنظارات دركي العالم الذي ينظر لكل ما يحصل في غزة بلون واحد هو الأسود الداكن؟.

نفس أدوات الدعاية التي وصفها غوستاف لوبون في إحدى نظرياته الاجتماعية، لا تتناسب البتة مع حالات غير مناسبة من الأسلحة القيمية الهدامة، تصير الدعاية بمثابة تواطؤ وعقيدة مصطنعة، مثلما هي الأقفاص المهيأة لاستحضار أبطال في عالم موهوم بالديمقراطية، وغريب عن منطقها وتدافعها ..

قرأت مؤخرا خبرا مهما، يصلح أن يكون نموذجا لإشكالية توجيه الأخبار وتقييدها بالأحداث، على مسار سياسات الدولة الحاضنة. حيث أشرفت شبكة الأخبار “بريكينغ بوينتس” الأمريكية على موقع يوتيوب، على دعم وتمويل استطلاع، ينطلق من فكرة أن "تويتر ليس واقعا حقيقيا" أو "لا أحد يشاهد أخبار القنوات الفضائية"، ويسأل عن "من أين يحصل الناس على معظم أخبارهم".

الاستطلاع الذي شمل 1001 من البالغين الأمريكيين ، قال إن هؤلاء المستطلعون قد حصلوا على أخبارهم من القنوات التلفزيونية، وهم الأشخاص الوحيدون الذين يعتقدون أن إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية في غزة، وفقا لما تم رصده في مسألة "العلاقة بين المواقف تجاه الحرب وعادات استهلاك الأخبار". كما وقدم الاستطلاع أرقاما حول التوجهات التي أصبحت واضحة بشكل متزايد، وهي أن مشاهدي القنوات الإخبارية هم أكثر دعما للمجهود الحربي الإسرائيلي، وأقل احتمالا للاعتقاد بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، وأقل اهتماما بالحرب بشكل عام.

في حين أن الأشخاص الذين يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي أو اليوتيوب أو نشرات البودكاست، يقفون عموما إلى جانب الفلسطينيين، ويعتقدون أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية، ويعتبرون القضية ذات أهمية كبيرة.

القراءة الأولية لمخارج هذا الرصد الاستطلاعي، يثير مسألتين هامتين، في سياق الحديث أبعاد وخلفيات تنميط الإعلام:

الأولى، استحقاقات قيم الإعلام وإوالياته المعرفية والأخلاقية، على الرغم من حدوث قطائع وارتدادات في طرق استعمال أدواته وتوظيفها.

الثانية، استئثار وسائل التواصل الاجتماعي أو اليوتيوب أو نشرات البودكاست، بواجهة المتابعة والصدقية، لدى جمهرة عريضة من المتتبعين، وهو ما يؤشر حتما على انتقال الوعي بالإعلام واتساع سلطاته الرمزية، من مجرد موقع للتشاكي والافتئات والمراوغة، إلى هوية ثقافية تتمأسس على مختلف تمفصلات المجتمع وقضاياه المختلفة. وهنا يمكن التنبيه، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، تتعلق بعلم الاجتماع وعلم النفس أكثر من تعلقها بالتقنية والتكنولوجيا (بريان سوليس).

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

في المثقف اليوم