أقلام ثقافية
احمد صابر: حفيف النخيل (6): صيد الجراد

قبل غروب الشمس بقليل وهو الوقت الذي تزداد فيه حركة العائدين من الحقول ودوابهم محملة بما جلبوه في مختلف بساتينهم من خضروات... وحشائش لأبقارهم، الكثير منهم يلقي بالتحية على بضعة من الكهول والعجزة الطاعنين في السن وهم ينتظرون آذان المغرب، البعض منهم أنهى قليل من حبات لب القرع [بذور اليقطين] المحمصة، وبعضهم هي فرصته الثمينة ليملأ غليونه بمسحوق طابا، وبعد إيقاد النار في رأس الغليون ومصه بعناية، يخرج من شدقه زوبعة سوداء من الدخان الأسود، يحملها الهواء معه نحو الأعلى، البعض الآخر منهم اكتفى بتمرير حبات سبحته بين يديه، أحيانا تحيل سبحته بينه وبين الانخراط في القيل والقال مع الحاضرين، وأحيانا ينخرط في الكلام ويعرض عن تمرير حبات سبحته الخشبية، وإذا بأحد الجالسين دون غيره قد أقبل على تقشير بضعة جرادات مسلوقة ومجففة قد تم اصطحابها معه إلى عين المكان مخبأة بعناية داخل محفظته[شكارته]1 الجلدية المتدلية على جانبه الأيمن، من خلال حزامها المفتول بخيوط حريرية على كتبه الأيسر، وهي تصاحبه أينما حل وارتحل ولا تفارقه إلا عند النوم... ها هو يقشر الجرادة تلوى الأخرى بعناية، دون أن يبالي بمن حوله، إذ يلف رأس الجرادة ويفصله عن جسمها، وبعدها يرفع القشرة العلوية لصدر الجرادة لتظهر طبقة رقيقة من لحكم الجراد، ومرة أخرى يمسك بذيل الجرادة بعناية ويضغط عليه من كلا الجانبين حتى تنكسر القشرة التي يختفي من تحتها قليل من اللحم...أما أرجل الجرادة فيكسرها ويتم إزالة قليل اللحم العالق بها بأسنانه... مشهد هذا الرجل ورجلاه ممددتان على الأرض وقد انفلتت منه إحدى نعاله... وساقيه تلمعان تحت ما تبقى من أشعة غروب الشمس نتيجة انسدال جلبابه نحو فخديه... عمامته بشكلها المكور مثبتة بشكل جيد من أعلى رأسه وبالقرب منه بالجانب الأيمن [عكازه] أي العصى التي يتوكأ عليها، وهي على شكل هلال من الجانب الذي يمسكها به... الرجل غارق في وجبته الدسمة في أكل الجراد، مشهد يبدوا من خلاله هذا الرجل الذي لا يبالي بمن حوله وبالمارة الذين يلقون التحية بين الحين والآخر أنه رجل بارع في تقشير الجراد، فهو لا ينفلت منه أي شيء يمكن أكله من جسم الجرادة... لا شك أنه اعتاد على هذا الأمر منذ زمن بعيد...
قال الذي يأكل حبات القرع للذي يقشر الجراد بنبرة صوت لا يخلوا من السخرية الممزوجة بنوع من الجد، لا عليك يا صاحبي بوادر وصول أسراب الجراد بدت للعيان وقد ازداد منسوب الجرادات التي تطير هنا وهناك في كل مكان ولا شك أن الجراد سيحل بيننا قريبا المسلوق والمشوي منه... حينها ستسأل عني لأمنحك بعض من حبات لب القرع [بذور اليقطين] نتيجة التخمة التي تحل بك وأنت تقشر الجراد... وقد عرف عنك منذ الصبا، بأنك من أكبر آكلي الجراد إلى درجة الشبه الذي حل بسيقان أرجلك النحيفة التي سارت شبيهة بأرجل الجراد...
عندما تهجم أسراب الجراد يكون أهل الواحة في حيرة من أمرهم، وفي حالة من الخوف والهلع فأسراب الجراد إن تمكنت من المبيت لليلة واحدة داخل مختلف حقول الواحة وهي تعتلي جريد النخيل وأغصان مختلف الأشجار وأوراق مختلف النباتات فذلك يعني لأهل الواحة كارثة كبيرة، لأن سرب الجراد سيأتي على الأخضر واليابس ولا يترك شيئا إلا جذوع النخيل والأشجار التي لا يقوى على أكلها... وقد يأتي على سعف جريد النخيل وعلى أوراق مختلف الأشجار... وإذا بهم طيلة النهار وقبل غروب الشمس يقصدون مختلف حقولهم لمطاردة الجراد بمختلف الأصوات التي تصدرها معاولهم وفؤوسهم وهم يضربون بها على مختلف الأحجار اعتقادا منهم أن أصوات الحديد تطارد الجراد ومنهم من يضرب على مختلف الطبول والبنادر... وهم يرددون "هُوس..هُوس.. أللا مُلك الله" وفي الليل ينتهزون فرصة صيد الجراد الملتصق على مختلف النباتات الأرضية وسط الحقول.
في الوقت الذي اقتربت فيه الشمس نحو الغروب بشكل أكبر، وهي تظهر على شكل نصف قرص من وراء جريد النخيل، حلت قافلة صغيرة في عين المكان، فحالة أصحابها توحي بأنهم قادمون من مكان بعيد، وبأنهم قطعوا طريقا طويلا في جوف الصحراء بين مختلف الواحات، وصول القافلة كان سببا في أن ينفض مجمع الجالسين إذ التفوا واقفين من كل جانب حول القافلة ومنهم من مد يد العون في فك حبال حمولة العير والدواب بعد أن تبادلوا التحية والسلام، فرجال القافلة ليسوا غرباء عن المكان، وقد تعودوا عبوره ويعرفون البعض من أهله... كان هم الجالسين الذين فضوا مجمعهم وحاموا حول القافلة ورجالها من كل جانب وقد انفرد بعضهم ببعض رجالها، يدور حول استقصاء ومعرفة ما بحوزة الرجال من أخبار ومستجدات قد علموا بها وهم في طريقهم... وقد عمت المكان ضجة من الأصوات والتحيا والضحكات... فبعد أن حط الرجال رحيلهم قصدوا الساحة الخلفية التي من وراء الباب الرئيسي للقصبة، وقد أشار بعضهم بأنهم تركوا من ورائهم أسربا قادمة من الجراد فوصولها من عدمه يتوقف على حركة الرياح، فمن يدري هل لحسن الحظ أو لسوئه أن تقذف الرياح بأسراب الجراد في البراري البعيدة عن الواحة، والكل يعلم أن حركة أسراب الجراد تتوقف بالليل وتحط على سطح أي مكان حلت به، والخبر اليقين أن مبيتها قريب من عين المكان وهي فرصة ثمينة لأهل الواحة بهدف اصطياد الجراد، وقد علمتهم الأيام أن اصطياده يكون بالليل عندما يكون الجراد مكدس بعضه فوق بعض على الأرض.
انتشر خبر احتمال أن تحط أسراب كبيرة من الجراد بالقرب من القصبة، بين الناس وقد أكد أحد رجال القافلة للجميع أن بعض أسرابه قد حجبت عنهم أشعة الشمس عند الظهيرة، لكن هبوب رياح معاكسة لطريق القافلة جعلت الجراد يتجه في اتجاه معاكس ولا شك أن بداية الليل ستجعلها تفترش الأرض ومختلف النباتات القصيرة في البراري القريبة من الواحة ... وهي فرصة ثمينة لصيد الجراد.
قبل آذان العشاء، تجمع الشباب والكهول وبعض الأطفال، وقد اتجهوا نحو البراري المجاورة و رافقهم أحد الرجال الذين قدموا مع القافلة ليدلهم على اتجاه المكان الذي من المحتمل أن تفترشه أسراب الجراد وهي مهمة ليست بالسهلة... وقد تاه الجميع في ظلام الليل لبعض من الوقت وسط البراري المنبسطة التي تنتهي بهضاب منعرجة قبل وصول سفح الجبل، وهم على يقين أن المكان المناسب لصيد الجراد هو البراري المنبسطة، أما سفوح الجبال فيتعذر معها أمر الصيد إن لم يكن مستحيلا في بعض من جنباته الوعرة ... اختار الكهول ومعهم بعض الأطفال أن يتجمعوا في وسط البرية على سطح مرتفع منبسط من الأرض، وتركوا مهمة البحث إلى الشباب في أجواء المكان المتسعة، في انتظار أن يبصروا شعاع شعلة لهيب النار الذي يوقده من ظفر بالهدف... لوقت ليس بالقصير عم الصمت في المكان ويكسره بين الحين والآخر عويل ابن آوى القادم من بعيد لترد عليه الكلاب بالنباح ... وقد أخذ النوم يدب في جفون الكهول أما الأطفال فقد استسلم بعضهم وغرق في نومه وأحلامه التي تحدثه أنه يطير في الهواء مع الجراد ويمسكه بكلتا يديه...
في الوقت ذاته بالقرب من عشرات شجيرات السدر والطلح في أحد شعاب البرية التي تتجمع فيها مياه السيول لوقت طويل، ولا تنفد إلا مع مرور أشهر طويلة... وقد يحيط بها نبات [الديس وأم ركبة وسمار...] تفاجأ أحد الشباب وهو يقرب المصباح ليبصر الشجيرات التي تحول لونها من اللون الأخضر إلى لون شبيه بلون التراب، بفعل أسراب الجراد الذي غطاها من كل جانب... وإذا به ينظر إلى الأرض ووجد نفسه يسير فوق طبقات من الجراد المكدس بعضه فوق بعض... ابتعد قليلا وإذا به يوقد النار علامة بأنه قد أصاب الهدف ليلحق به الآخرون ...
انغمس الجميع في عملية كنس الجراد وسحبه من على سطح الأرض ومن أعلى شجيرات السدر والطلح المليئة بالأشواك وإقحامه داخل مختلف الأكياس والقفف وسلال القصب التي تغلق بإحكام ولا تترك منفذا لهروب الجراد... فعملية السحب هذه قد تصحب معها بعض الأعشاب الملقاة على الأرض وأحيانا تصحب معها بعض الكائنات التي تتغدى على الجراد نتيجة سرعة السحب التي تتطلبها عملية الصيد، فالجراد سريع القفز من نقطة إلى أخرى، فعليك أن تستبق قفزاته... إنه ينتظر نفاذ الليل ليطير أسرابا في السماء...عندما تسحل الجراد من أعلى سطح الأرض وأنت تدفع به داخل الكيس تجد نفسك محتجزا داخل زوبعة من الجراد وهو يحط على رأسك وظهرك وكل جسدك وقد يصطدم بوجهك أحيانا... وهي حالة تفقدك التركيز في عملية الصيد التي تعتمد على سحل الجراد ودفعه بداخل قعر الكيس أو القفة أو السلة... في أسرع وقت ممكن.
قبل طلوع الفجر عاد صيادي الجراد محملين بأكياسهم على ظهورهم، وسلالهم وقففهم المحكمة من أعلى رؤوسهم، فضلا على ما حملوه على ظهور دوابهم... إنها لحظة رخاء صيد الجراد وقد حالفهم الحظ إذ عثروا على أسراب مكدسة بعضها فوق بعض في مجال ضيق... مع شروق الشمس بقليل دخلوا القصبة وكل منهم عينه على بيته وعلى قدر الماء الساخن من فوق النار لسلق الجراد مع الملح...وهي مهمة تتولاها النساء والفتيات.
وقد عمت الدروب والأزقة وأسطح القصبة رائحة الجراد فضلا على بضعة من الجرادات التي تطير هنا وهناك ومن أعلى أسطح القصبة وداخل أزقتها، إذ تمكنت من الهرب من داخل الأكياس... لقد تكررت حالة الصيد هاته لأيام، وبعدها حلت أسراب الجراد بالواحة، لتصطاد بدورها النباتات والأشجار التي كد أهل الواحة من أجل اخضرارها وقد ازداد أهل الواحة خوفا من أنها ستعمر طويلا لكن لحسن عجلت في الرحيل... وبعد أسابيع من رحيلها ظهر في الواحة من يبيع الجراد الذي يزداد سعره شهرا بعد شهر من لحظة رحيل أسرابه.
حالة انتشار الجراد ووفرته بين أيدي الناس حفزت ذاكرة الجدات لتحكي للأطفال عن حكاية الجرادة المالحة[2] وهي تحدثهم عن رعيها في بستان السيدة الصالحة، عما أكلت فيه وما شربت وما شمته من روائح طيبة... وكيف كانت علاقة صاحبة البستان بالقبيلة التي تنتمي إليها، وعن طبيعة وما واجهته من مكر وحيل من لدن السحرة الأشرار، وفي الأخير تغلب خيرها وصلاحها عن كل ما تسبب فيه الأشرار...
بعد أيام التقي مجددا الذي يأكل حبات لب القرع مع صاحبه الذي اعتاد تقشير الجراد وقد ادعى أن مجيء الجراد يجلب معه الخير للواحة وأهلها... أي خير يا آكل الجراد وأنت ترى أن الجراد لأيام قليلة قد أتى على كل شيء بما فيه سعف النخيل ولم ينجو منه إلا القليل... وقد تعبنا من مطاردته صباح مساء وقد اصدنا منه الكثير... قشر جرادتك التي بين يديك وألزم الصمت...
***
بقلم: د. صابر مولاي أحمد
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
.......................
[1] الشْكارة: وعاء جلدي لنقل وخزن الأشياء تصنع من جلد ناعم، غالبا من جلد الضأن، ارتبطت قديما بحمل المال والنقود، ومختلف المستلزمات الضرورية الخفيفة جدا مثل المنْقاش لإزالة الشوكة إذا دخلت في الرجل... كلمة شكارة قريبة فعل "شكر" وهي تدل على الشكر والخير والنعمة والبركة.
[2] أجْـــرَادَة مَـــالْــحَــــــة
فِــي كُـنْـتـِـي سَـارْحَـــة
فِـي جْـنَـانْ الصَالْـحَـــة
آشْ كْلِيتِي آشْ شْرَبْتِـي
غِيرْ التْـفَـاحْ وْالنَّـفـَـاحْ
وْالحَـكْـمَـة بإِيــدِيـــكْ
يَاالْقَـاضِي يَا بُـو مْفْتَـاحْ