أقلام ثقافية

قدرة الروائح على استدعاء الذكريات

hamid taoulostكالكثير من الناس، لم أفكر قط في أهمية حاسة الشم وتأثيرها على الإنسان، وما مدى ارتباطها بعاطفته وسلوكياته، وكنت كغيري كثير، أقلل من الدور الكبير الذي يلعبه الأنف في حياة البشر، عدى عملية التنفس التي يتيحها لهم، رغم تأكيد الباحثين على أثره الكبير والواضح على صحة ونفسيته، وعلى قدرات التأثير على ذاكرته، من تهدئة الأعصاب والشعور والمزاج، وتأجيج العواطف ورفع المعنويات وتنشيط الجسم، وبث الطاقة والحيوية فيه، إلى إنعاش الذاكرة، لارتباط الروائح -في عموميتها أو في خصوصية روائح معينة - بحوادث وأماكن وأشخاص معينين، كما أثبتت الدراسات والتجارب العلمية أن للحوادث والأماكن والأشخاص روائح خاصّة، تظلّ عالقة في الروح، مغروسة في الذاكرة، متعلّقة بالنفوس، مهما تنقّل الفؤاد حيث شاء، والتي كلّما اشتمّها المرء، عادت به إلى ماض بعيد، مستدعية ذكرياته القديمة التي تعود لسنوات الطفولة الأولى التي غادرها ، وكأنه لم يتركها للحظة، حتى لو مرّ على ذلك سنوات، وعقود عديدة ، فيذكر على الفور بالكثير مما عاشه خلالها من المواقف المرادفة والذكريات السابقة، ويدخل فورا في مزاج جديد يؤجج عواطفه وينشط جسمه، ويرفع معنوياته، ليس بفعل الذكريات التي تمثل اللحظات السعيدة فقط، بل حتى تلك التي كانت تبدو مريرة وقاسية ساعة حدوثها، والتي يتدخل العقل في تصفيتها مما يكدرها، فتبدو أجمل مما كانت عليه في الزمان البعيد ..

فعلا، لم أهتم قط بقدرة جزيئات الروائح الذائبة في الهواء على استدعاء الذكريات القديمة، وإعادتها إلى الحياة، كلما تسربت إلى الأنوف، ولم أربط بين استيقاظ ذكريات الأشخاص الذين عرفتهم بحينا الشعبي فاس الجديد، وأحداث الطفولة والصبا التي عشتهما به، وبين بعض الروائح المميّزة التي أشتمها هنا أو هناك، فتذكرني بتلك الشخصيات والأحداث التي ارتبطت بنكهات الروائح المميّزة للأكلات الشعبية الشهية المختلفة التي كان يستقبلنا بها فاس الجديد، والتي كانت تشدنا توابلها التي تملأ الأماكن العتيقة، بسحر شذى "القزور"، وفوح "المعدنوس"، وعبق لحبق والنعناع، وروائح أخرى زكية نفاذة للأطايب والمآكل اللذيذة، المنبعث من مطابخ المنازل الأحياء والحواري الشعبية، والتي كانت تقتحمنا أينما توجّهت أنوفنا..

 

حميد طولست

في المثقف اليوم