أقلام ثقافية

عادل مردان: خواطر في غرفة الموسيقى

adil merdanالى المحرر الثقافي، لجريدة الصباح الجديد، الذي زاول القتل والتنكيل، على المتن، في العدد (20 مايو 2016).

أقدم هنا النص كاملاً، لتروا بشاعة الفعل المشين .

يغطي الغبار النصوص، ثم يمتلكها مستحوذ جاهل، وتُزيّف بغباء، فأساليب الأصل واضحة للعيان . ذلك ما تتمناه العقول، التي لا تغادر الوحل، وهي تنسج أساطير، حول سيرة الشاعر .

1038-ADILتَلّفُ السلسلة الحديدية، بعناية خبير . في ظهيرة لاهبة . يأتي الإسخريوطيون، ويهزّ كليمهم، القفل المحكم: كيف يسمعنا ؟ هو هناك، في الطابق الثاني، حيث تضطجع مخدّرة، غرفة الموسيقى .

تتمدد على السرير بالبرنس، الذي ذبلت أزهاره . بين يديك (تاسو) شارداً، وقد أخذتك، عذوبة (الوترية)، إلى عوالم إخرى . القفل محكمٌ، والكليم يهّز السلسلة: إفتحْ ياحارس الألم، جئناك بفضائح الشعراء .

لا عليك، إذ غادر العبيد بقصائدهم الفلكلورية . (أيّها المستغني، لقد صَنعتْ عزلتك عبيداً).

تطلُّ من النافذة المواجهة، بعد أن توقفت الإسطوانة، وكعادتك تقطع الصمت: عذوبة لا توصف . إنه الموسيقار الأصم، الذي أمطر سماء الصيف .

لماذا هو مستنير، الآخر الذي نتأمل؟: لأنه أنار العقل، ودفن خرافات ظلّه . يأخذك الإندهاش . عبارة خاطفة، إنها من عطايا الكأس الرابعة . لو تسكر مرّة، لرحلتْ أشباح

القلعة، أقصد قصر (المفزوع)، الذي كتبَ، على بوابته يوماً: (دافعْ عن براءتك الآن،

لتربح إتهامك الجديد)

لم تعجبك (آلام بودلير وصلت)، وتعجبك (سعادة عوليس) الصلعاء،(فلتفرح آلهة الحبّ).

لأن مفاتيح الشعر، وُضعت بين يَدَي، سليلك الآشوري . بينما تشن هجوماً على لغته .

لماذا تثور؟ الأجيال تستمر . أما لغته فهي لغة حلم . ثم تسأل: مَنْ سحركَ في حداثة العرب؟

أرشف قليلاً من الكأس: (ماضي الأيام الآتية) .

لنؤجل تحفة (أغاني موت الأطفال) . حدثني عن معارككم الطاحنة، في حانة (علي بابا) .

في الثلاثين من ألمي، كنت أحدّثه عن جيل (الكوارث) . جيل الحروب المتوالية، الكافية لتحويل القديسين الى حيوانات . حسناً نؤجل (ماهلر) الى الغد .

كأني على جناح إشراقة، أصف لك الزمان الجديد . وأنت تعيدُ الإسطوانة الى بيتها، وتذكر  (الرازي) . أتفق معك في حبي له . عقلاني في زمن الخرافات . ثم أعيد عليك،  من أسى   (بشار) الذي تحب .

إرجعْ إلى سكنٍ تقرّ به                مضى الزمان، وأنت منفردُ

ترجو غداً، وغدٌ كحاملةٍ              في الحي، لا يدرون ما تلدُ

أسألك عن (الإشتقاق المعماري للنغم الموسيقي) . فتفيض متفقّهاً في الأنغام . مستفسراً بعد أشهر من السماع . ماالذي تسرّب الى النفس ؟: الكثير لكن  (سترافسكي)،إختصر كلّ شئ.

لو عشت في الصحراء . لكفتني (بشائر الربيع) ... (الريفية) ... (الخامسة المحلّقة) ... (الكونشرتو المؤثر) ... (رقصة النار) ... (الليليات) ... (الدانوب الأزرق) ... (الفصول الأربعة) . مقدمة كارمن ساحرة (المقدمة المرحة) . أعتقد إنّها أذهلتْ (نيتشه)، فجعلته ينقلب على (فاكنر) .

بمنتهى الرقة والدماثة، تصنف الأعمال الشعرية . (لست إبناً لإيثاكا) قصيدة ساخرة  .

(الرجل الأخضر) مقطوعة صوفيّة  . (الأخضر بن يوسف ومشاغله) ديوان جميل .

ثم تغير الحديث: إعلمْ أنّ الصورة تقتل (الخيال السمعي) .

أيام لا تُحصى أحاديثها تتشعب، وهي مملّة بعض الأحيان . حين تتفكّر بالأدب الحديث، هارباً من مفهومَي (السيمياء واللسانيات) . وبقيت أنهل من تلك المكتبة الكريمة، التي تضمُ كنوز الموسيقى العالمية .

في حوار عن الفلسفة، يقف الرائد الذي يوصف بالخارج عن السرب، عند (شوبنهاور) .

لا يبارح تلك الإرادة . فكأني به يقاوم (حداثة مقبولة) . إذ أحببت أن تستمر تحولات الرائي، كقراءة فعّالة، الى رموز حاضرنا . كان يتضجّر حين أخص (فيلسوف الإختلاف) . سطرٌ أتوسّع به دائماً . فلكي يحطم الشاعر أصنام سلطته،التي تجعل منه (بطل المأساة التاريخي).

يتوجب أن يسافر في فكرة (الريشة) . عندها يكون ريشة خياله .تأخذه (اللحظة الشعرية)، الى حيث لايدري . وفي المناطق الخطرة يولدُ فكر شعري . يشحن النصوص الساحرة . عند قَدمي الخيال تتبدد السلطات الغاشمة . لأنّه السلطة الشفافة التي تجسّد إرادة الحياة . هنا

تشحب أساطير السيرة، وتقرأ (المتون) بلا وصايا . حيث النصوص بأجناسها، تحاول أن ترقص، وتحلّق مثل الشعر . لم يحلم المطعون (حارس الفنار) إلا بقائد الأوركسترا الحزين.

فكم كان يبجّل (كارويان) . ظلّ (محمود البريكان)، وفياً لعلمانيته، عاشقاً مشرقياً (لباسترناك)، عزلة وموسيقى .

 

هوامش لابد منها:

1- سُرقت بعض النصوص، ثم كُتبتْ بصورة رديئة . هذا مافضحه الناقد حاتم العُقيلي، في جريدة الأخبار .

2- تاسو: مسرحية غوته التي كانت تُجسد مأساة شاعر، هي من الأعمال التي كان يحبها . مُعيداً قراءتها بإستمرار، كذلك (هكذا تحدث زرادشت)، (مذكرات من بيت الموتى) .

3- سوناتا 14: من أعمال بتهوفن (ضوء القمر) . أتذكر بعد المغيب بقليل، بدأت أنغام البيانو بالسيطرة على الغرفة العلوية تماماً . كان الجو غائماً، فتحَ (البريكان)

النافذة ضاحكاً: (مطرّهه بتهوفن) .

4- (دافعْ عن براءتك، لتربح إتهامك الجديد): العبارة (لفرانز كافكا)، الذي كتبَ في المحكمة حين كان قاضياً (من أين يأتي هذا الدوي) .

5- (آلام بودلير وصلت): قصيدة سركون بولص التي أُشيدُ بها أمامه . أما السر الأعظم الذي بقي مخفياً لديه، مايتعلق ب (إنشودة المطر) .

6- (سعادة عوليس): قصيدة سامي مهدي، وهي إحتفاء عوليس، حين يعثر على سعادته في جبهات القتال . كان (البريكان) يقبل بعض شعره بتحفظ  .

7- (ماضي الأيام الآتية): ديوان (انسي الحاج) .

8- (أغاني موت الأطفال): عمل غنائي ل (غوستاف ماهلر) .عبارة عن ست أغنيات، ألفه في ذكرى رحيل إبنته الصغيرة . وهو العمل الأروع الذي حظي بسبق طلبي للإستماع إليه .

9- (بشائر الربيع): أبرز أعمال (سترافنسكي)، إذ كان محايداً معه، حيث يدعو إلى سماع الموسيقى بكل مستوياتها .

10- (الكونشرتو المؤثر): تسمية شخصية لعمل (جايكوفسكي). مرة في المحكمة، والرواية للشاعر بينما طال إنتظاره أمام باب القاضي . في هذا الجو البوليسي كتب قصيدة . .. حين إلتقينا في المساء، قال لي ذلك مسروراً . هذا تأكيد، ان القصيدة تقتحم الشاعر إقتحاماً .

11- (الريفية): السمفونية السادسة (لبتهوفن)، إذ يذكّرني الشاعر بموقف الأخير من غوته، الذي إنحنى للأمير، بينما إكتفى بتهوفن بمسك قبعته .

12- (الخامسة المحلّقة): السمفونية الخامسة ل(غوستاف ماهلر)، التسمية خاصة من الشاعر . يعتبرها من أهم الأعمال القريبة إلى نفسه . عموماً يعتبر هذا الموسيقار النمساوي بعوالمه الميتافيزيقية، هو الأقرب إليه . يهوّم (البريكان) مع هذا العمل ناسياً صحبتي . في إحدى الحركات عميقة الألوان الموسيقية ومذهلة، لحن بطئ حزين، رائع أكثر من الروعة . يدعوني إلى الإنتباه (تأملْ ... تأمل)، وهي لازمة جميلة في كلامه .

13- (رقصة النار): عمل موسيقي للإسباني (دي فايا) . للتذكير فإن حارس الفنار هي قصيدة الشاعر الأشهر، صار العنوان أكثر دلالة، عندما نتحدث عنه .

14- (الدانوب الأزرق): عمل ل (ريتشارد شتراوس) . مضت شهور لم أكتب حرفاً، فأصابني القلق، فطرحت عليه ذلك، فأكد لي: بإنه ظلّ ست سنوات، لم يكتب إلا ثلاث مقطوعات قصيرة ... يومها تعلمت منه، بإن الشاعر يكتب الأروع، في حالات اليأس التام، من الأنقطاع .

15- (الليليات): للفرنسي (ديبوسي) .

16- (الفصول الأربعة): فيفالدي .

17- (لست ابناً لإيثاكا): قصيدة (حسين عبد اللطيف) . حين سألته: من تقصد ؟

قال ساخراً: جميعنا .

18-(الرجل الأخضر): قصيدة (عبد الرحمن طهمازي) . وهنا يطول الحديث، من كتابة (طهمازي) عن (البريكان) في مجلة (الكلمة)، إلى إعادة الكتابة ونشرها كمقدمة في الكتاب، الذي طُبع في دار (الآداب)، مختاراً بعض قصائد الشاعر .

أما الملف الشعري الذي ظهر 1994 م، في مجلة (أسفار)، فكان يصف طريقة التقديم بالمعقّدة جداً . أما عن النصوص، فإنه كان يميل إلى القصيرة منها . نبهني (البريكان) إلى المرح المبثوث في بعضها، وكيف يمكن إستثماره .

19- حين وضع إسطوانة (أغاني موت الأطفال) . إنشرحت أساريره، حيث أشاد بقابليتي في الإستماع ... ثم غبت عنه مدة، كتبت فيها قصيدتي (من لا تحضره السكينة) .

20- حين مُنِحَ (البريكان) درع الإبداع، من جامعة البصرة، وإنتهى كل شئ في القاعة، حيث كلمة الشكر موجزة جداً ... خرجنا إلى الكورنيش يتقدمنا (رياض إبراهيم) الناحل العذب، والموعود منذ سنتين من التأجيل، بملف شعري إلى مجلة (الأقلام) راكضاً مع إبنه (ماجد)، وهو يحمل درع الجامعة . ليسلي الولد النزق، واضعاً الدرع على قاعدة تمثال (السياب) الرمادية . إذ طلبت مازحاً من رياض أن يرفع الدرع، (لأن بدر ما يقبل) . ضحك (البريكان) معنا بطريقة خجولة،واضعاً يده على فمه ... ثم تقدمنا إلى مصطبة كونكريتية، لإلتقاط صورة فوتوغرافية . لم أرها إلا بعد سنوات، عندما وقف أحد الأصدقاء المولعين ب(الأرشفة)، وأخرج حاسوبه الشخصي من الحقيبة، وأراني الصورة، كان (البريكان) يتوسطنا بنظاراته السوداء .

 

في المثقف اليوم