أقلام ثقافية

انفلات ومسافة إبداعية. ما آخر الترحال؟

محمد ايت علوعُزلَةٌ في الدَّاخل وأخرى في الخارج، وكأنَّني مِنَ العابرين السُّراة ليلا، وقد اختَفواْ في أوَّل جُنْحِ الظَّلام مع المَطرِ والضَّبَـابِ الـكَثيفِ، إغترابٌ مُـتَعدِّد، وكَم تُؤَرِّقُني هذه الوحدة والـغُربة الـتي تَـجْتاحُـنِي وأَحْيَـاها، وكـأنَّهُ ليس لي عَنْها مهرب! وأصرخُ في عزلتي، ربما ضاقت الأرض، غريب أينما حَلَـلْتُ، أَدورُ في صَـخبِ الـذَّهاب السَّريع من مكان إلى مكان، غربة إعتدتها منذُ صغري، تنقلات تِلْوَ أُخْرى، وقد ضاقت مَلاعِـبي في آمَـالٍ مُـشَرَّدَة، سفـرٌ في كلِّ حين، ووجوهٌ بلا عدد، ومدن لا تنْتَهي، وضَجر ملازم، وجمر واحتراق، وسلام بلا أحباب، وحاضر فـي الغِـياب، ثم كأنك بلا أثر أو خبر مضخماً بقَـلقٍ بَـال، يأكلني الإغْـتراب حتى أَقْـسى الـتِّيه، يُؤلِمني الإجتـرارُ، فَـأَجـرُّ أَقْـدامي، وحيداً بِـلا أصحاب، وحيداً بلا أحباب، غَـريباً بِـلا أَهْـل، فَـمَا أَضْيَعَني....! ثم تَطول بي الطريق، نحْـوَ الآمال التي قطعتْ أعناق الرِّجال، كالسَّراب خانَ من رآه، وأخْـلَـفَ من رَجاه... ثم أجُرُّ أقدامي مرَّةً أُخْرى مـن سفَـر إلى سفـرٍ، سفر في الحنين، سفر في الأنين، وفي طول الغياب، يأخذني ببهْـجتي يُؤنِسُـني، يُناجِيني، يَهْمِسُ لي: طوبَى للغريب ومَرحى، ثم يَتَسرْبَلُ بي غيابي في هذه الحياة الغَريبة، منذُ حَمَلتْـنا في العربة من بين حقائب ماضيها..فأغيبُ....

أنا الضَّيفُ، أنا الطَّيْفُ، أنَا الغريبُ، أخرجُ كاليتيم ولم أتخيَّرْ واحداً من الأصحاب كيْ يُؤْنِسُني في رِحْلتي، لأبدأَ مِنْ جَديد، فَأُحَاوِرُني: مَنْ أَنْتَ؟ وما تُريد؟ كَمَن يبحَـثُ عن شيءٍ ضائعٍ أولاَ وُجودَ له، أو كمن يبحَثُ عن إِبْرَة داخِـل كَـوْمَة قَـش! داخِلِي يَـرْتَجِفُ بشكْلٍ بارد، أتساءلُ: مَا آخرالطريق؟ وهل عَـرفْتَ أَوَّلَـهُ؟ وفي الأخِير بقايا ذكريات لاَ تبكي ولا تبتسم! سنوات وسنوات بلا عَـدد ولا حِساب، والعمْرُ يمضي مثل السحاب، ولم أُعد أي جواب، فما أَضْيَعَنِي....

وكارْتِـجاجِ صَـدى في بئر، تتلاحقُ المَوْجات داخل جسدك، لترتَديَ إغترابَك منْ جَديد!

أنا الغريبُ، أسألُ نفسي ماذا أفعلُ هنا؟ أحياناً تُوَشوشُ في صَـدْرِي قـصص العابِرين في صَمت، وقد مَرُّوا مـن هُـنا دون أن يَـقولوا كَلاما، أو يصدروا سلاما، أو يَتْركوا وصايا، لكنَّهم كانوا يَـحلمون بحياةٍ جَـميلة، وبمطر دفَّاق، وبالخبـز والـورود، وكانوا يـتمَنَّون، ويودون أن يفضل الناس أطفالاً ضاحكِين للأبد...!لكن، ها نحن مازلنا نموت على الكآبة، ونحيا على الغِلِّ والحِقْـدِ وسوءِ الطَّـوايَا  والنَّوايا...!

أنا الغريب، أسألُ نفسي ومن جديد، ماذا أفعل الآن هنا؟

وما آخرُ التِّرْحال؟ وكلُّ شيءٍ ينهارُ، يذوبُ، يزول، وكأنه لم يكن...! كأنَّـهُ رَسْـمٌ على الـماء، أو نَقْشٌ على الرمال، وهمٌ محْـضُ سَـراب، مُتَـعٌ وحياةٌ مليئةٌ بالتعاسة، والعزلة، ممزوجةٌ بالكدر، وراحَتُها مَقْرونة بعناء، شدة ورخاء، نعمة وبلاء، ولا يدوم نعـيم ولاَ رخَـاء، ثُم هي تَـنْتَهي بسرعة البَـرق، متع مآلها الزَّوال... فمَـا آخرُ التِّـرحال، هذا هُو السُّؤال؟ هذا هُو السُّؤَال؟

أَحْفِرُ في ذاكِرتي...أنفضُ عنها غُبار الأسْفَار الطويلة..ومرَّةً أُخْـرى أَحُـطُ رحالي بشَطِّ الـغُرباء، ولم يكن هناك من وجه لِيُودِّعني يـوم رحلت، حتى يكون هُـنا وجه ليلقاني، ولا منديل يلوح لي...وكأنني سـندباد هذا الزمان، وكأني أكملت الرحلات السبع، وهاهي العـشر على الأبـواب، وكم أريد ...، وما عدتُ أخافُ الطريق، فأنا الغَريبُ...ثم نلتقي بعد سنين، فهل سيكون في العيون وجدها، أم نلتقي كالأصدقاء القُدامى يُودِّعون أو يسلمون في فتور؟!

أشعرُ بانقباضٍ لا أدري له سبباً عند كل رحيلٍ، وفي كل مرَّةٍ يتضاعفُ أكثر، وأشْعُر كأنه الوداع الأخير...! ثم أسأل نفسي: - ما دمت قد اعتدت وألفت الفراق، فلم الحزن...؟!

ها هو ذا هيكلي! فيا وحشة الغربة! ثم هُم قد يسألون: ترى هَلْ عاد من غربته؟ يا طولها من غربة! يا طولها شَوقُهُم المضطرب والألم، رعْشَـة مِـنْ وَهَجِ الجَلالِ، يتساءلون متى افترقنا؟ متى التقينا؟ أَذْكُـرُ ذاتـي، حـينَ أزورها تبعدني في خصام! فأجُـرُّ اغْـترابي، طَـريداً وحـيداً غريـباً ، ثم يطول بي الطريق، من سفر إلى سفر، سفـر في الحنين، سفر في الغياب، يأخذني ببهجتي، يتسربل بي، وقد أغيبُ عنه للأبد...

هذا أنا وهـذه متاعبي، كـما اليوم، كما الأمس، وأنت كما أنت، كـل شيء جاثمٌ مثل وحْـشٍ كاسرٍ حَطَّ على السَّفْح يترقَّبُ نهايته، فيعود للقمـة، ليستريح هناك! كِلانَا شيءٌ من الإحتمال...، قد نَنْزاحُ في هدوء...! وقد حل الأمس محل الغد، والسماءُ رمادية، وهذه الريح العاتية تُدوي بالشتات، تُوَزِّعُني بين مساءات باردة، هي قادمـة لا مـحالة. وما عـلي إلاَّ أن أستبشر...فقد يتناهى الغيث المدرارُ، وتنحث غمامها عند الوقوع على شبابيك النوافذ.

عُزلةٌ في الداخل وأخرى في الخارج، وكأنني من العابرين السُّراة ليلا، وقد اختفوا في أوَّل جُنْحِ الظلام مع المطر والضبابِ الكثيفِ، إغـتراب متعدد، وكم تؤرقني هذه الوحدة والغربة التي تجتاحُـني وأحياها، وكأني ليس لي عنها مهْـرب! وأصرخ في عزلتي، ربما ضاقت الأرض، غريب أينما حللت، أدور في صخب الذَّهابِ السَّريعِ من مكان إلى مكان، غربة تِلْوَ أُخرى، وقد ضاقت أبوابي ودروبي وملاعبي في آمال وأحلام مشردة...وهاهي الأدعيةُ المرضيةُ وها مَدَدُ الصَّبْر، وها هي ذي الإشراقاتُ تكتَنِفُني...

غيرذاك الباب،

مُحاولتي الأخيرة لأن أكون سعيداً!

وقد هيأت للتِّرْحالِ ــ من وجع الفؤاد ــ مراكب،

أَشُمُّ رائحةَ الاخْضِرار،يتَّسِعُ القلبُ،

يسكُنُني النُّورُمن بدايته!

أراه بروحي،وبقلبي أراه ويأْسِرُني!

يَحْملُني إلى آفـاقِـهِ الرَّحْبَـهْ،

ولن أخيب، هو البابُ الحَقُّ، حين تُسَدُّ كلُّ الأبْـوَاب...!

***

محمد آيت علو

 

في المثقف اليوم