أقلام ثقافية

محمد الورداشي: المطر في حضرة الغياب

أي جمال يبقى لزخات المطر الغاضبة حينما تكسر صلابة وقوة جسد عليل؟ هل للمطر دور غير إحياء الأرض ومن يدب عليها، وما ينبت في تربتها؟

الجواب الذي يحضر المرء دون أن يصرف وقتا طويلا في التفكير هو أن للمطر فوائد وأدوارا كثيرة، ومنافع جمة للكائن البشري. أليس المطر رمز الحياة والتجدد؟ ألا يعد ضيفا عزيزا كلما حل في حضرة الغياب؟ أليس صديقا مفرحا للأطفال؟

كلما هطل المطر تذكرت طفولتي، واستحضرت تلك الابتسامة المشرقة الطاهرة التي تظهر على وجوه سكان القرية كلهم؛ إذ الشيوخ يرون المطر إعلانا على موسم معطاء، والأطفال يعتبرونه لحظة فرح وانشراح، ومدعاة للبهجة والسرور.

إن فرح الوجود والكينونة يتحقق في تلك اللحظة الزمنية التي يهطل فيها المطر على رؤوس الطفولة، تلك اللحظة التي تتحرر فيها الذات من الضيم والغم اللذين يخلفهما الجفاف. وهكذا، أضحت للمطر أدوار سيكولوجية تدخل الفرح والمرح في نفوسنا ونحن أطفال صغار، وتحملنا على تناسي كل الأمراض التي يمكن أن يلحقها بنا الاستحمام بالمطر.. لم نكن حينها ننصت إلى نصائح الأهالي، ولا نلقي بالا لتحذيراتهم ووعيدهم، وإنما كان كل همنا هو أن نسرق هذه اللحظة الثمينة من الوجود؛ اللحظة التي تحن لها الذات كلما طال غيابها، أو لاحت في الأفق غيمة عابرة.

كما أن ما يحركنا للاستحمام والاستجمام بقطرات المطر هو اعتقاد راسخ لدى الأهالي؛ مفاده أن المطر يزيل الأدران من الأبدان، والأحزان من النفوس. بل ذهبوا إلى أن للمطر دورا في إبطال السحر، وما يسمونه ب"العكوسات"؛ أي كل ما من شأنه أن يثبط مسيرة المرء، ويسهم في بعثرة دورة القدر كما يزعمون، ومن ثم، تأتي الحاجة ماسة إلى الاغتسال بماء المطر البارد حتى تتطهر النفوس والأجساد. لذلك، لا غرابة في أن نسمع، ونحن في القرن الواحد والعشرين، من لا يزال يعتقد في هذه المعتقدات والتمثلات؛ فيرى في المطر فرصة لإبطال السحر والشعوذة، ومطهرا للنفس البشرية مما يثقلها.

لكننا لم نعد نستقبل المطر بفرح الوجود، فرح الطفولة والكينونة؛ لأننا تجرعنا علقم قطرات المطر الغاضبة، وتألمنا مما يترتب عنها من نزلات البرد، وارتفاع حمى الجسد العليل. لذلك، لم يعد اهتمامنا محصورا في المطر لذاته، وإنما في الفوائد والمنافع التي يمكن أن نجنيها منه، وسبب هذا التحول هو الجفاف الشديد الذي شاخت معه نفوسنا وأرواحنا.

***

محمد الورداشي

في المثقف اليوم