أقلام ثقافية

علي الجنابي: الشَّيخُ محمدُ الغَزالي وأنا

لَجَّت مواضِعُ التَّفاصلِ، وثجَّتْ مَواقعُ التَّواصلِ، بتأويلٍ للدّاعيةِ "محمد الغَزالي"، ذَكَرَ فيهِ معاني {عربيٌّ، عُرْبٌ، أعرابٌ)} في الإستعمال، فأوردَ أن لفظةَ {العربيِّ} هي {الخلوُّ من النَّقصِ والعيب بالتَّمامِ والكمالِ}، وليسَ هي العرق والنَّسب بإشتمال، كأعراقٍ من هندٍ وسندٍ وإفرنجةَ وإسبانٍ ومن برتغال، ولذلكَ -والكلامُ للغزالي- فقد وصفَ الحقُّ ذو الكبرياء والجلال قرآنَهُ (قُرْآناً عَرَبِيًّا): أي قُرْآناً بتمامٍ وكمال، مثلما وصفَ الحورَ العين (عُرُبًا أَتۡرَابࣰا) أي حوراً تامَّاتٍ كاملاتٍ غوالي، وهنَّ من العيوبِ خوالي ، فلا فكوكَ في فيهنَّ بارزاتٍ عوالي، ولا فيهنَّ عيونٌ جاحظاتٌ ولا فيهنَّ عرجٌ ولا دوالي.

ولا أرى تفسيراً لهكذا تفسيرٍ مُتعسفٍ من مفكّرِنا الغالي "الغزالي" إلّا أنَّهُ جاءَ ليمدحَ القرآنَ وليبعدَ عنهُ شُبهةَ ذَمِّ الْأَعْرَابِ {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} فقدحَ بإستماتةٍ وبإنفعال، فتراهُ يقولُ :"حاشا لله أن يَذمَّ النَّاسَ مِن مُنطلقٍ عرقيٍّ وبمَنطقٍ عنصريٍّ"، وفاتَهُ أنَّهُ دَرَأَ شُبهةً صُغرى بشُبهةٍ كُبرى وضِيزى بإختلال ورُبَّما عن إستغفال، وأنّ عيونَ {العربيَّةِ) قد عَمِيَتْ بعدَما إرادَت أناملُ الغزاليّ لرموشِها الإكتحال.  وما كان لعَربيٍّ أبداً أن يأتيَنا وَارِداً مشتملاً بسؤال، فيسألَ عن معنى (عَربَ يعربُ) أو (نامَ ينامُ) أو (شَرِبَ يَشْرَبُ) بإنفعالٍ أو بتَعَسّفٍ وإيغالِ؟ لأنَّهُ أبداً لن ينالَ جوابَاً عن ذا سؤالِ. ذاكَ أنَّ لفظةَ (عربَ، نامَ، شَرِبَ) وكذا مَثيلاتِها في سائرِ ألسنةِ الأمَمِ والأَنْجال، هنَّ لبناتٌ وآياتٌ من آياتِ اللهِ في اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِنَا وَأَلْوَانِنا، وعلاماتٌ لقدرةٍ قائمةٍ مدى الدَّهرِ لهدايةِ الأجيالِ، ولقد عَلَّمَ اللهُ آدمَ اللبناتِ كلَّها وقَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ بتبيانٍ وبإجمال.

ولو أنَّ ذا صَنعةٍ بلسانِ الضَّادِ جدَّ السَّيرَ بجوابٍ عن هكذا سؤالِ، فسوف يأتي جوابُهُ كمَن فسَّرَ الماءَ الزّلالَ بعدَ جهْدٍ جهيدٍ بالماءِ الزّلالِ، ولكنَّ لا حرجَ على ذي الصَّنعةِ لو أنَّهُ جالَ وصالَ في مشتقّاتِ (شَرِبَ)، فقالَ: المِشْرَبةُ إناءٌ يُشْرَبُ فيهِ على إستمهالِ، وكذا الشَّوارِبُ شُعيراتٌ (سالَتْ) على الفَمِ بأَسدال، ولكن إياهُ أن يقربَ اللبناتِ فيُحَلِّقَ بنا في عنانِ عجاجةٍ على أجنحَةِ فيلٍ من الأفيالِ، فيَتَقَوَّلَ بمَجاجةِ من أقوال، بإنَّ الشّرْبَةَ: قِرْبَةٌ، والشَواربَ تاتي بمعنى الرجال، وبلا تبصرةٍ منهُ وعلى إستعجال، وكذا يقول بسذاجةِ مَن قال: السّلطانُ تأتي بمعنى الحجَّة والبرهان بأعلال.

كلّا فألفاظُ: السّلطانُ، والحجَّةُ، والبرهانُ، وكلٌّ لفظٍ من ألفاظِ الضَّادِ يتمخترُ في مضارب الضَّادِ عن أخيهِ بأنَفةٍ وبإستقلال، ولا يُجيدُ إستحضارَهُ إلّا أهلُ المعاني والكَلم العَوالي، و(إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَا) أي: من حجّةٍ وبرهانٍ مُتسلّطٍ مُبينٍ ومهيمن على ما أنزلَ الكبيرُ المتعال، أم قلوبُكمُ غُلْفٌ أقفِلَت بأقفال.

وبعيداً عمّا رَوَتْ نواميسُ اللسانِ العربيِّ مِن نَثرٍ وشِعرٍ ومن أمثال، وبعيداً عمّا ما طَوَتْ قراطيسُ مُعْجَمِ بيانهِ من تحصيلٍ لمَعانٍ بتَأصيلٍ وإبدَال، وذلكَ بيانٌ أسرٌ نفيسٌ ساحرٌ ونيسٌ وَحدهُ ذلكَ اللسانُ مَلَكَهُ في حلٍّ وفي تِرحال، وكانَ اللسانُ العربيِّ (كَأَنَّ كَلاَمَ النَّاسِ جُمِّعَ حَوْلَهُ فَأُطْلِقَ فِيْ إِحْسَانِهِ يَتَخَيَّرُ) بإمتثال. أقولُ فيما ههُنا بعيداً عن ناموسٍ وقاموسٍ وبتؤدَةٍ وبلا إستعجال، وبوجيزِ حرفٍ وبلا أزيزٍ في الإسترسال، وبلا تطريزِ مافي المَعاجِمَ من شَرْحٍ لسردٍ نفيسٍ وبسطورٍ طوال، لكيلا أثقِلَ على ضيوفِ ذَرْفيَ بِغَرْفيَ ممَّا حوى نفيسُ التُّراثِ بمِكيالي:

" رغمَ أنَّهُ لا ثّمةَ لشُبهةِ ذمٍّ عرقيٍّ في آيةِ (الْأَعْرَاب) البتّة بل منَ المُحال، فإنَّ محاولةَ الغزاليّ لكنسِ الشُّبهةِ بإستبسال، قد أحالَتهُ لشُّبهةٍ كُبرى إستناداً لفهمِهِ للفظة (العربيِّ) بإفتعال. شُبهةٌ صيَّرَتنا نحنُ العَرَب دونَ سَائرِ الأُممِ الجِنْسَ (التَّمامَ والكمَالَ والخَاليَ مِن النَّقصِ والعَيْبِ) على مدى الأجيال، وعنواناً للخَلْقِ الكامِلِ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، ومعصومينَ مِن كلِّ عيبٍ وإختلال، وغيرَ ملزمينَ بآيةِ (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) في سائرِ الأحوالِ، ذاكَ أنَّ التَّمامَ والكمالَ فينا هو جِبِلَّةٌ فلا حاجةً لنا لتَضَرّعٍ وإبتهال، وإذاً فنحنُ العربُ وبفهمِ الغزاليّ (شَعْبُ اللهِ المُختارِ) بلا تعجرفٍ ولا إستفحال، وذلكَ لَعمري فهمٌ سمجٌ ماتَداوَلَتهُ فَصاحَةُ الأعرابِ قطّ في بَدوٍ حذوَ كثبانِ التِّلال، وعِلمٌ مجٌّ ماتَنَاولَتهُ بلاغَةُ العَرَبِ قَطُّ في شَدوٍ بينَ أحضانِ الظِلال، وإنّما أهلونا العَرَبُ والأعرابُ هُمُ أهلُ بيانٍ هوَ أصفَى وأوفَى مِن أن تَتَخَطَّفَهُ طُيورُ التَّكَلّفِ بإغتيال، وأحلى وإعلى مِن أن تَتَقَطَّفَهُ بثورُ التَّعسُّفِ بشَذَرٍ مَذَرٍ في إدبارٍ وإقبال. ذاكَ شَذَرٌ مَذَرٌ ما سَلِمَ منهُ مُفَكِّرٌ من مفكّري أمَّتنا المُعاصرينَ بإخختزالٍ أو إعتزال.

و[إنَّما جُمْعُ الأعراب أعاريب، والنسب إلى الأعراب: أعرابي، وقال سيبويه إنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى، وليسَ الأعرابُ جَمعاً لعَرب، وإنَّما العربُ اسم جنس] فتأمَّلْ يا ذا عزٍّ في ذا طويلاً فهيَ المفتاحُ وحسب لإستيضاحِ كبوةِ الغزالي.

فإن قيلَ لكَ إنَّ {العربيَّ} هو لسانٌ وليسَ عرقاً وهكذا قصدَ فقالَ الشيخُ الغزالي، فعلامَ التّجني ودفعُ الكلامِ الى تهي ترهاتٍ بجهالةٍ أو بتَعال، فلهُ قلْ؛

"وهلِ اللسانُ إلّا إنسانٌ محمولٌ على قدمينِ بتجوال، فإن كانَ اللسانُ ذا كمالٍ كانَ الإنسانُ منعوتاً بالكمال، وإن كانَ اللسانُ ذا جهالةِ كانَ الإنسانُ موصوفاً بالجهال". ثمَّ قلْ لهُ إنَ الله جلَّ في علاهُ قال {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}وهل تذكرنيَ الأمم إلّا بنعتِ (العَربِيِّ)على مدى الأجيال والأحوال.

وأمّا قيل الغزالي أنَّ (ألفَ التَّعدي في كلمةِ الأعراب قد نَقلت المَعنى الى النَّقيضِ (ألفَ السَّلب) كما في قَسَطَ: ظَلَمَ وأقسَطَ: عَدَلَ، وعربَ: تمَّ وخَلا مِنَ العَيبِ، وأَعرَبَ: نَقَصَ وشَملهُ العَيبُ، والأعرابُ جماعةٌ تَتَّصِفُ بصفةِ النَّقصِ في الدَّينِ)، فذاك قيلٌ لا يُرَدُّ عليهِ ولا يستحقُ إشتغالي، وأولى تركهُ بإهمال، إذ لن تجدَ صبيّاً عربيّاً ينطقُ مثلما فهمَ الغزالي:" لُعبتيَ كانت {عَربيةً} وأنيقةً، لكنَّها قد {أعربَتْ} وباتَتْ عتيقةً بإبتذال" . ذاكَ هو لدى الصبيانِ خبالٌ وضربٌ منَ ضروبِ المُحال.

ثمَّ مالي من خاتمةٍ بعدما خُضتُ فيما ههُنا في قيلٍ وقال، إلّا أن أستَعيرَ نًصحَ الشَّيخِ (أبن باز) في قضيةٍ ما للداعيةِ الغزالي:

(أنْ هذا لو عدَّلتهُ، وهذا لو قلتَ فيهِ، وهذا لو ما قلتَ، وفي هذا بعض المؤاخذة)، حتى خرجَ الشَّيخُ الغزاليُّ وهو يقولُ: جئتُكم مِن عندِ رجلٍ من بقيةِ علماء السَّلف بأتصالٍ بلا إنفصال.

***

علي الجنابي

في المثقف اليوم