أقلام ثقافية

فرات المحسن: بقعة الدم

هذا ما جاء في رسالة وضعت في مظروف داكن السواد تحت باب احد المفجوعين بولده في صباح يوم لم تشرق فيه الشمس بعد.

يوم تشريني. الشفق الأحمر يغطي الأفق البعيد ودخان كثيف يلف المكان. حسب الإحصاء الرسمي وهو دائما ما يجانب الحقيقة ويخفي قدر المستطاع وقائع الأحداث ونتائجها، ولكن اليوم اضطرت السلطة  في نشرة الأخبار المسائية، الإعلان  وعلى لسان ناطقها الرسمي ، عن عدد الشهداء الذين سماهم بثلاثة  قتلى، وأكمل جملته الصماء اللئيمة بكلمة لا غير.

ولكن ما أعلن رسميا عنه، ما كان ليطابق إحصاء من وقف وشاهد الواقعة عند ذلك المساء الكالح. فجميع من حضر الواقعة تبادل الروايات مع البعض ودون في ذاكرته ، خمسة شهداء دون نقصان.  جميعهم كانوا يتحلقون حول عربة التك تك ذات اللون الأصفر البراق، وتدلت عند مقدمتها قطعة قماش بيضاء صغيرة كانت موضوعة تحت مصباح الإنارة، كتب عليها بخط مرتبك، أريد وطن.

***

كانوا يتراقصون جذلا ونشوة على أنغام موسيقى أغنية كاظم الساهر " وين أخذك وين أنهزم بيك.. بضلوعي لو بعيوني أخليك " فجأة باغتهم سيل رصاص وقنابل دخان. سقطوا جثثاً هامدة جوار عربة التك تك،كان ذلك في ساعة نحس عند نقطة قريبة من مفترق نفق ساحة التحرير الذاهب نحو شارع الجمهورية .

بقع الدم التي خلفتها أجسادهم الغضة إثر عربدة سيل رصاص ما سمي بالطرف الثالث، راحت تسيح فوق الأرض الإسمنتية .ما كان بمقدور احد أن يحدد اتجاهات انسيابها، ولكن الدم  كان فواراً قانيا أحاط بعربة التك تك من جميع أطرافها، ثم أنحدر ليتجمع أمامها، فاختلط مع بعضه ليكون بقعة دم كبيرة قانية.

بين هؤلاء الشهداء من جاء العاصمة من قرية قريبة من بلدة الرفاعي في الجنوب، وهناك من أتى تاركاً وراءه محلة الطويسة في البصرة، وثمة آخر يسمي نفسه بالمعيدي كان قادما من مدينة الشعلة،وحده أبن الأعظمية كان الأنيق بين هؤلاء رغم اتساخ ملابسه خلال عشرة أيام مضت دون رغبة تساوره في الذهاب إلى أهله والاغتسال بحمام دافئ. بينهم من هو دون دالة أو هوية، ولكنه كان أكثرهم مرحا وإفراطاً بالهزل، وكان وفي كل مرة يروي شيئا عن قسوة ما كان يلقاه على يد صاحب العمل، ينهي حديثه بضحكة طويلة شبيه بكركرة طفل. أما ذاك الصغير المقصب الشعر صاحب البشرة الداكنة، الضاج بذكر مغامراته العاطفية، وما كان ليتوقف عن سردها حتى وإن تلقى تشويش واستهزاء رفيقه المسمى المعيدي. بينهم من يرفض اليقين بتاريخ ولادته المدونة في الهوية التي يحملها. صاحب الكنزة البنية يقول إن حياته تخلو من أي أهمية يود ذكرها لرفاقه، فقط الشيء المهم الذي ممكن أن يبعث في روحه الفرح هو منظر عربة التك تك التي يمرر عليها صباحا برقة متناهية قطعة القماش المبللة وهو يصفر لها بأغنيه كان يعشقها.

صباح الخير يالوله.

لوله، اسمها الذي أطلقه عليها حين أبتاعها له خاله صاحب بسطة الملابس المستعملة.لم يكن يدري السبب الذي دفعه لإطلاق أسم لوله على عربة التك تك، ولكن الأغنية كانت تستهويه لذا علقت بذهنه ذلك الصباح البلوري المبهج، وحان لها أن تكون أسما لعربته، فاخذ يغني لها مزهوا.

يعز من يبات قانع من الرحمن يتطلب

يذل من يبات طامع يبات الليل يتقلب

على الجنبين يالوله ولا يرتاح يا لوله

صباح الخير يالوله  صباح الخير.

ثم يروح بموجة من التصفيق والقفز راقصا حولها كالهنود الحمر، يشاطره فرحه  بحمية وصخب بعض أصحابه.

***

حين أنبلج ضوء الصباح كان شاحبًا رجراجًا مغبرا، وثمة أصوات أنين وبكاء خافت تتسرب من جوف نفق التحرير. في البعيد تختلط نداءات تحذير وتحوط  ترافق أصوات رشق رصاص وانفلاق قنابل الغاز. ثمة ضحكات صاخبة وضجيج مزاح يأتي من الطابق الثاني للمطعم التركي.

عند ذاك الفجر الندي، جلست خمس نسوه مصفوفات متراصات بسوادهن حول بقعة الدم، يحطنها مثل السِوار، نائحات مفجوعات، يغطينها بعباءاتهن الكالحة، كان دمعهن مدرارا يخالط بقعة الدم الخاثر الذي يلتصق بثيابهن فيأخذنه ويهيلنه فوق رؤوسهن.هكذا كان الحدث وسوف يتكرر.

لكم الصبر والسلوان ولأرواحهم السلام والذكر الخالد.

***

فرات المحسن

في المثقف اليوم