أقلام ثقافية

علي الجنابي: أنينُ الجِسرِ.. فرَاكُهُم بَجَّاني

(استرَقَ سمعي أنينَ الجسر فكتبتُ النصَّ في مقهى الشَّابندر على ضفاف دجلة)

إِيِهٍ بَغدادَ!  وَيْهاً دَارةَ الرَّشيدِ...

صَومُ العَوَامِ شَهرٌ كُلَّ عَامٍ مُتَوَاكِلٌ مُتَنَقِّبٌ، وصَومُكِ كَوَمُ أعوامٍ متَوَاصِلٌ مُتَعَقِّبٌ!

عُذرَاً بغدادَ، إِذ أُنَاجِيكِ وإذ يَغشَاني غَمٌّ شَارِدٌ مُتَرَقِّبٌ. وَلَئِن كَانَ لِلأفئِدةِ أن تَهوى مَدَائِنَها، فأنَّى لِفؤاديَ ارتِقاءٌ في هواها مُتَيَّمٌ مُتَهَيِّبُ.

أَمَّن يُفتِينِي في رَسمٍ كَرَسمِ بغدادَ مِن لُؤلُؤِ البَحرِ انبَجَسَ وَجهُها فَتَجَسَّم، فَعَلا ثمّ علا ثمّ علا فتجلّى في بأسِ التّبَرُّمِ فَعَرَشَ هنالك فَنَجَم.

"مَن لِي بِبَغدادَ أبكِيها وَتَبكِيني1".

أَمَّن يَأتينِي باِسمٍ كاِسمِ بَغدادَ مِن بُؤبُؤِ الزَهرِ اقتَبَسَ حَرفُها فَتَبَسَّم، فدنا ثمّ دنا ثمّ دنا فَتَدَلى في كأسِ التّبَرعم ففرشَ هنالك ووَشَم.

"قَد عَشَّشَ الحُزنُ بَغدادَ حَتى في رَوَازيني2".

وَيْهَا بغدادَ، مَا بَالُ جَبينُكِ يَتَصَببُ عَنبَراً يَا شَمعةَ الأعيَادِ. أَفَعَليلَةٌ أنت ومَا بَرحتِ تَسخَرينَ منَ عِلَلٍ وكُلِّ ضَمادِ، فَإن غَزاكِ دَاءٌ كَفَرتِ بهِ بِلَمزٍ وإلحادِ. أَم هُوَ ضِغثٌ مَرَّ بغَفوَةٍ، كيف وأنتِ الشَّاهدُ على النّجمِ والأشهَادِ.

تَأَهَّبي بَغدادَ وتَوَثَّبي حِسَّاً يا مَربَضَ الآسَادِ بَينَ الأممِ

تَوهَّجي بَغدادَ وتَأَجَّجي بسَاً يَا سُؤدَدَ الأجنادِ فَوقَ الحِمَمِ

انهضي فادحَضي رِجسَاً يا مَقبضَ الأوتَادِ بَينَ الخِيَمِ.

شُدِّي عَلى الأحزَانِ وَتَبَسَمي يَا هَديرَ الرَّوْحِ وَالأجسَادِ

مُدِّي عَلى الأفنَانِ وتَنَسَمي يَا غَدير الدَّوْحِ والسَّوادِ

شُدِّي ومُدِّي فمَا أنتِ بِرَقمٍ نُكْرٍ عَابِرٍ، بَل أنتَ مَن صَكَّ الرَّقمَ للأفرَادِ وأنتِ مَن دكَّ العظمَ للأوغادِ.

وَيْهَاً بَغدادَ، حَدِّثيني ولا تَذريني أغَمغِمُ يا كبرياءَ والدي وأولادِي. حَدّثيني وبُعداً لصَمتٍ وهجرٍ وإبعاد، فَثَنايايَ لا تَتَبَسَّمُ إلّا بكِ وإليكِ يا بَهاء

نَسبي وأجدادِي، وحناياي لا تَتَرَسَّمُ إلّا منكِ ومعكِ يا رِداءَ الفخرِ للأحفادِ. وعلامَ الصَّمتُ والسَّبتُ يا بغدادي. أفَأنتِ غضوبٌ من خنوعي يا سَماءَ عنفواني وأمجَادِي. فما كانَ سَمتُكَ إلّا نابِضاً بِتَغرِيدٍ وإنشَادِ، وَنَحتُكَ  رَابِضاً عَلى توحيدٍ بإسنادِ، وَنَبتُكَ قَابضاً في عُلُوٍّ على أطوَادِ، وَنَعتُكَ رَافِضاً لسبتٍ وإلحادٍ وَحِيادِ.

وَيْهَاً بغدادَ تَفَوَّهي وأنت المُهَلِلُ للعاكِفِ والمُضَّيفُ للبَادي، ولا تَتَأوَّهي فأنت أمُّ الضّادِ وضادُ الضَّادِ لِكُلِّ ضادِ

تَفَوَّهي وكفى صمتاً وسبتاً يا مَثوى الرَّشيدِ ومأوى السّندباد، فإنَّ صَمتَكِ مُكَمِّمٌ لِأنفاسِ الأجنادِ وَأقبَاسِ الرَّشادِ، ومُوجِعٌ لِخَافِقِي وَكُلِّ جَوارحِي تُبَّعٌ

لهُ بانقيادِ، بل ومُغَمِّمٌ ومُوجِعٌ حَتَّى لِمَن كانَ وإياكِ في تَضَادِ. وهاهمُ أولاءِ أَهلُ الضَّادِ مَا انفَكُّوا يَتَحَسَّسُونَ أَنباءَكِ بارتداد، يَا شَذاهُمُ وَشَذْو العِبادِ والبِلادِ ويا شَداهم وشَدْو المَناقِبِ للضَّادِ وهُدَى المُعاقِبُ للضَّادِ.

فكفى صمتاً يا عَبيرَ الأورادِ ويا نميرَاًلأسيادِ.

وها قد أطبَقَ أنينُ الجِسرِ في صَمتٍ كَظيم، فَتُهتُ في صَحارى أنينُ صَمتَيهما؛ الجِسرِ وبغداد، وبَدَأتُ أتَحَسَّسَ سبيلاً لِأنجَادِي؛

"لعلَّه مِن عارِضِ رِيحٍ صَرٍّ جَاءَ بها زُرّاعُو ضوضاءَ وإلحادِ، وأذنابٌ مِن خَلفِهم غوغاء وأوغَادِ، ولا رَوْمَ لهمُ إلا في إِحرَاقَ "سرجونَ" ومتونِهِ ذا العمادِ، ولا عَوْمَ لهمُ إلا في إغراقَ عرجونِ نخلتي ذاتِ العِنادِ. وإِيهِ بغدادَ...

ألم يأنِ أوَانَ فَتحِ البابِ وصَدِّ الرِّيحِ بتكاتفٍ واتِحَادِ فلا عَزاءَ ولا مراسمَ من حداد 

ألم يأنِ لساحةِ التَّحريرِ أن تقدَحَ؛ نحنُ الأصابعُ على الزِّنادِ وسيفٌ كارِهُ الأغمادِ

ألم يأنِ لساحة الميدانِ أن تمنَحَ مُستَبشِرَةً "سوقَ السّرَايَ" قِلادَةَ الحَرفِ والمِدادِ

ألم يأنِ لرَنّات "سوقِ الصّفافيرِ" أن تجنَحَ لِصُنعِ مَفاتِحَ القيدِ والأصفادِ

ألم يأنِ لِاستكانات "مقهى عزّاويّ" أن تصدَح بِملعقةِ الشّاي لتُضَيّفَ أكارِمَ الخِلّانِ والرّوادِ

ألم يأنِ لشَارعِ "الرَّشِيدِ" وخِلُّهُ "السَّعدَون" أن يتَهامَسا أمرَهم بينَهم؛ "نحنُ المُنتُدى للوِدٍّ ونحنُ المُفتَدى للجَهادِ"

قد آنَ أوانُ "حَجي مُقدَادَ" لينَادي على عُكازَتِهِ المُزَخرَف بتَنادِ: "إنّي لَفي شَوقٍ لخُطوةٍ رُوَيدَاً رُوَيدَاً على "الكورنيش" مُتَأنِقاً بسِدارتي الحَنونِ السَّوداءِ ورفيقتي عُكّازتي من أنفسِ الأعواد".

وقد آنَ أوانُ "جَمُّولِي" صغيرُ الحيِّ المُلَقَّب "قِمبيزَ" لينادي بينَ العِباد: "إنّي لَفي تَوقٍ لِسَطوَةٍ على صَدرِ مَقعَدِ طابقٍ علوِيّ لِحافلتي الميمونِ

الحمراء وأنا على أهبَةِ الاستِعدادِ".

وقد آنَ أوانُ زَغْرَدَةِ الحيِّ "بَسعادَ" لتنادي في تَهَاد؛ "إنّي لَفي جَذوَةٍ لِسُوقِ حَيّنا ذي البَرَكاتِ والإمدادِ، فأعودُ مٍنهُ تَمايِلاً بتَهادِ؛ أَقبِضُ بِشِمالي حقيبَتي على رَأسي وبِيَميني على عباءتي تُشبِهُ المِنطادِ، وبأنفاسٍ مُجتَرَّةٍ لاهِثَةٍ، وخُدُودٍ مُحمَرَّةٍ وبَاعِثةٍ ، وببسماتِ بَسعادَ تتراقصُ الأزقَّةُ بإسعادِ".

  إنَّك بَغدادَ في ذَرى العَافيَةِ، مَا كَذَبتُ أنا ومَا هي بشِيمَةٍ ليَ. فَهَيّا بغدادَ لتَسمَعَ دلدلُ منكِ ولنَستَمتِعَ كلُّنا بِنَبَراتِ صَوتِكِ مُؤَطَّرَةً بألحانِ زِريَاب ومُعَطَّرَةً بِألوانِ الأحسابِ والأنساب، فأمُري "عَزاويّ" بِصَحنِ كاهيّ وقَيمر، وليَعزِفَ بِمِلعَقَةِ الاستكانِ نَغَم "البستنگار" الشَّجيِّ؛ "يا حلو يابو السِّدارة"، ولتَتَهادى مَسابِحِ مقاهينا هُوَيناً هُوَينا، حَبَّةً على حَبَّةٍ، وَلِيَصدَحَ المَقهى عَالياً بمقام البيات؛

"وفراكُهُم بَجَّانِي جالمَاطِليَه بالضِّلع.. بِيك أشتِرَك دَلّالِي يكلُون حُبِّي زَعلان.

آآآآه.. يا كَهوِتَك عَزاوي بِيها المدَلَل زَعلان".

آه.. وإِيهاً بغداد، أَوَمِن رَحلِ استِبدادٍ خَرَجتِ إلى وَحلِ أَوغَادٍ وَلَجتِ!

فَدَتكِ عَينُ العَينِ وَفَلَذَةُ الأَكبَادِ.

***

علي الجنابي

........................

[1] من قصيدةِ (مَن لي ببغداد) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد (1930 -2015).

[2] بحثت على مفردةِ (روازيني) فلم أعثر لها على معنى في معاجم الضاد، لعلها موجودة في المعاجم أو ربما هي من اللهجة العراقية أضطر الشاعر لحشرها بين القوافي فتبعتُهُ أنا فنشرتُها على الخوافي. ويُذكَرُ أن شاعر العراق عبد ألرزاق عبد الواحد قد قالَ وهو على فراش المرض من المهجر في قصيدٍ رفيعٍ رغم أنه موجعٌ:

دَمعٌ لِبَغداد دَمعٌ بالمَلايين    

مَن لي بِبَغداد أبكيها وتَبكيني؟

*

مَن لي ببغداد روحي بَعدَها يَبِسَتْ

وَصَوَّحَتْ بَعدَها أبْهى سَناديني

*

عُدْ بي إلَيها فَقيرٌ بَعدَها وَجَعي  

فَقيرَة ٌأحرُفي خُرْسٌ دَواويني

*

قد عَرَّشَ الصَّمتُ في بابي وَنافِذ َتي

وَعَشَّشَ الحُزنُ حتى في رَوازيني

*

والشِّعرُ بغداد، والأوجاعُ أجمَعُها

فانظُرْ بأيِّ سِهام ِالمَوتِ تَرميني

وغالب ظني أنَّ ألسنةَ العربِ لا تعلمُ شيئاُ عن (الروازين) بل ينطقُونها (رَوَازِن)، [والرَّوْزَنة في "لسان العرب": الكُوَّة، وفي المحكم: الخرق في أَعلى السقْف، وفي التهذيب يقال للكُوَّة النافذة الرَّوْزَن، قال: وأَحسبه معرَّباً، وهو الرَّوَازِن] وهكذا تكلمت بها العرب، ولأني لستُ بمختصٍّ بصنعة الضاد فقد وجب علي التماس النصح من خبير فيها، فأبانَ لي الآتي؛ (الذي أعرفه أن الأمر في (روازين) طبيعي لأن الكلمة معربة فإننا أضفنا إليها صبغة عربية حين أضفنا الياء دليل على تملكنا لها ودخولها في لغتنا لأنها جرت على أوزاننا، ومن المعلوم أيضا أن كل جمع على فواعل يصح فيه فواعيل بزيادة الياء). أنتهى كلام المختص، وفهمتُ منه أنه قد سُمحَ لحرف (الياء) اقتحام فواعل (روازن) لكي تُمنحَ "روازن" نسبٌ وجواز سفر عربي" . ولئن ارتضينا ياءَ "روازيني" فما عسانا قائلين في قول الشاعر في (سناديني) إذ لا وجودَ لها في المعاجم  الا بمعنى الحَدِيدَةِ العَرِيضَةِ يَطْرُقُ عَلَيْهَا الحَدَّادُ الحَدِيدَ، ولا رابط بين المفردة وبين الورود البتة.

 

في المثقف اليوم