أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: الصحبة الصعبة فى عالم اليوم

إذا بحثت عن أصعب صحبة فى ظل عالم التقنيات اللاهث ستكتشف أنها صحبة أبنائك!

لا وقت لديك ولا لديهم للحديث الودى وتبادل الأفكار! وفى يد كل فرد من أفراد العائلة جهاز يشغله عن أحبائه ويفصله عن الواقع المعاش إلى الواقع الافتراضي. ولم نخرج من دائرة العزلة القسرية هذه إلا خلال فترات الحظر بسبب كورونا، تلك الفترة التي أظهرت سلبيات اجتماعية كثيرة لم نكن نفطن إليها.

نعم ثمة إيجابيات لا حصر لها للتكنولوجيا الحديثة التي سهلت الحياة  وأمكن من خلالها ممارسة التعليم عن بد والتدريب أونلاين وتطوير أية مهارة مختارة. واستطاع أصحاب الأعمال إنجازها فى وقت أقل كثيراً مما مضي. ثم إن البعض قد يزعم أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية تضمن نوعاً من التواصل مع الأقارب عن بعد فى حده الأدني، وقد يستخدمها بعض الآباء للاطمئنان على أحوال أبنائهم عن بعد فى حالة انشغالهم الدائم فى أعمالهم، خاصة لو كان الأبوان كلاهما يعملان.

وفى إطار المدح والإشادة أكدت منظمة الأمم المتحدة أن الطفرة الحادثة فى استخدام التقنيات فى بلدان العالم النامي خلال آخر عقدين من الزمان أسهمت فى إحداث تحولات كبري فى هذه المجتمعات. وأن أهم مكسب مادي لهذه الطفرة ارتفاع معدلات الخدمات التجارية سريعة الوصول، وأن جزءاً كبيراً من العالم العربي اليوم بات يستخدم الهواتف للطلبات التجارية اليومية والأسبوعية. وإذا كان مثل هذا الأمر قد أحدث منفعة لأصحاب المتاجر الإليكترونية وأصحاب خدمات التوصيل السريع، إلا أنها تسببت فى ضعف أصحاب الخدمات التقليدية وركود التجارة التقليدية فى بعض أنواعها. ثم إن الرفاهية التي ظللت البيوت فى المدن باتت سبباً فى ضعف المهارات اليدوية الشخصية، وأصبحت الأمهات والبنات فى البيوت المحافظة البسيطة أكثر ميلاً للكسل والدعة وعدم القيام بالخدمات المنزلية التي كانت معتادة فى جداول العمل المنزلي اليومية. فلا طبخ ولا غسل ولا تنظيف، وإنما أجهزة مبرمجة وخدمة توصيل سريعة أو فورية.

هناك اهتمام لدي المنظمات الدولية أن يصل الربط الإليكتروني لجميع القطاعات المحرومة منه، وبخاصة النساء وكبار السن وذوي الإعاقة والأقليات العرقية وسكان المناطق الفقيرة والنائية، وهم يستشعرون الفجوة بين استخدام الرجال والبنين للتكنولوجيا بنسبة أكبر بنحو 85% عن البنات والنساء. وهم يرون أن الاهتمام بتعميم التكنولوجيا يسهم فى التقليل من التحيزات الاجتماعية والفروق الطبقية.

هذا وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلي أن الترويج للاقتصاد الأخضر من خلال وسائل التواصل قد يسهم فى توفير نحو 24 مليون وظيفة جديدة حتي عام 2030. وعلى الناحية الأخري قد يسهم تطوير التشغيل الإليكتروني وزيادة الاعتماد على التقنيات الحديثة بدلاً من العمالة البشرية فى فقدان نحو 800 مليون شخص لأعمالهم التقليدية حول العالم! فالتكنولوجيا سلاح ذو حدين فى مجال الأعمال..

الذكاء الاصطناعي أحدث طفرة إضافية خاصة فى مجالات البيانات الشخصية والعامة. ومثل تلك الطفرة لها بعض الإيجابيات، لكن لها سلبيات ضخمة قد تصل إلى حد الكوارث. خاصة إذا ضممنا إلى الفضاء الإليكتروني ذلك الفضاء المظلم فيما يعرف بعوالم الهاكرز وقناصي المعلومات والبيانات، وهؤلاء منهم من يستخدم تلك البيانات فى جرائم سرقة ونصب وابتزاز وربما تجسس وتهديد شخصي أو أمني.

أما نحن الآباء فإننا قد نقف فى حيرة أمام تلك الطبيعة المزدوجة للتقنيات الحديثة؛ حيث يصعب علينا تحقيق التوازن المطلوب بين سلبيات وإيجابيات التكنولوجيا. وفى رأيي أن أهم وأخطر سلبياتها إحداث تلك الفجوة الاجتماعية التي قد تؤدي بأبنائنا لحالات متفاوتة من العزلة والتوحد وربما الاكتئاب.. أخطر من هذا ما ظهر حديثاً من دراسات حول مرض شهير له اسم مختصر هو: (ADHD) والذي اتضح أنه قد يكون من إفرازات عصر التكنولوجيا وتأثيرات الموجات الكهرومغناطيسية على أدمغة الأطفال، فنجد أطفالنا وقد أصيبوا بكوكتيل من أمراض نفسية وذهنية تضطرب فيها أفكارهم ويتشتت انتباهم ويقل تحصيلهم العلمي وقد تزداد لديهم ميول العنف والعصبية والعناد والحدة فى التعامل فتزداد بهذا صعوبة علاجهم من الآثار السلبية للتكنولوجيا! فما عساه الحل الأنجح أمام مثل تلك المعضلة؟!

خبراء علوم النفس والاجتماع يتحدثون عن ضرورة العودة للطرق القديمة فى الدفع بأبنائنا بعيداً عن تأثيرات التقنيات.. وأن تشجيع الطفل على تطوير علاقاته الاجتماعية بأقرانه من الجيران وزملاء الدراسة، وأن يهتم بتطوير قدراته البدنية واليدوية بممارسة الرياضة واكتساب المهارات وإشباع الهوايات، كلها وسائل أثبتت فاعليتها فى هذا المضمار.. ويبقي على الآباء هنا توفير جزء من نفقاتهم على التكنولوجيا وتوجيهها نحو الأنشطة الرياضية والفنية والتدريب على اكتساب المهارات، ثم يبقي على الدولة دور فى تقليل تكلفة مثل هذه الأنشطة، إذ باتت أسعار اشتراكات النوادي باهظة، وقلَّ عدد الحدائق العامة التي تستوعب طاقات الشباب والنشء. ونتمني ألا يستغرق تطوير حديقة الحيوان وحديقة الأورمان زمناً طويلاً فقد كانا متنفساً للكثير من الأسر المصرية المتوسطة .

إننا على أعتاب افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، وهي فرصة للآباء فى استصحاب أبنائهم والاستمتاع برفقتهم للتحدث وتبادل الأفكار معهم، حتي يتسني لهم اكتشاف طريقتهم فى التفكير وسبر أغوار مشاعرهم الحقيقية نحوهم، ثم الأهم أن نبني جسراً للصداقة الأصعب فى هذا الزمان .. صداقتنا مع أبنائنا!

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم