أقلام ثقافية

علي الجنابي: همسةٌ في رَمضانَ معَ "أبي عدنانَ"

- مَن ذا أبو عدنانَ، أصَديقٌ لكَ هو أم نديمٌ، أم هو لكَ صَاحبٌ حميمٌ بودٍّ وحنان؟

- ليتني تَحَلَّيتُ بصُحبتِهِ في هذهِ، وتَجَلَّيتُ بصُحبتِهِ يومَ هَولِ صِراط فتَّان، بل أبو عَدنان هذا هوَ شَيخٌ أميٌّ تَناوشَ الثَّمانينَ وعَليها اثنان. ولقد قعَدتُ وإيَّاهُ ولا غيرَنا مَعنا في المَكان، جلَسنا أسفلَ منبرِ المَسجدِ فإصَّعَدنا مُحَلِّقِين في العَنان، فَفَقَدنا ساعتَئذٍ حقائقَ المكان وفَقَدَتنا دَقائقُ الزَّمان. أبو عَدنانَ هذا هوَ رجلٌ عَن عِبادةِ خَالقِهِ لا يَسأمُ ولها مُتَعَطِّشٌ ظَمآن، وتَريْنَهُ عَن بعدٍ بهيئةِ رَاكعٍ وَلهان، فظَهرُهُ مُحدَودَبٌ كعُرجون نخلةٍ في بُستان، ذاكَ انَّهُ يأبى الصَّلاةَ قاعِداً إلّا بهيئةِ قائِمٍ هَيمان، إنَّهُ القائِمُ بأمرِ اللهِ ﷻ المُتَنَسِّكُ الرّهبان. هكذا أحسَبهُ وذلكَ هوَ وصفُ أبي عَدنان.

ثُمَّ إنّي قد قَصَفتُ بسَهمِ سؤالي مُقلَةَ عينِهِ المُفعَمَةِ بالأمان؛

"إيهٍ أبا عدنانَ، كيفَ لكَ أن تَعبُدَ مَعبوداً بذا حَنانٍ، وتناجيَ رَبَّاً مَخفِيّاً فيما وراءَ سُحبٍ ودُخان"؟

فبَرَقَتْ في أبي عدنانَ المٌقلتَان، وردَّنيَ أبو عدنانَ بفزعٍ غيرِ ذي جَزعٍ وافتنان؛3618 علي الجنابي

"ويْسَ مَسمَعي وما سَمِعَ منِ استِبيان! أفلا أعبدُ ربيَ اللهَ، الفاطِرَ أهلَ التَّقوى والغُفران، خَالقي المُهيمنُ الحَكيمُ الرَّحمَن ﷻ".

فرَدَدتُ مِن فَوري بِشَماتَةٍ على أبي عَدنانَ؛

"مادامَ رَبُّكَ مُهيمنٌ حكيمٌ رَحمن، ويرجو منكَ تَعبّداً كلَّ حينٍ وآن، وأرسلَ لكَ رسولاً يَصدَحَ في أُذُنِكَ سبعةَ أيامٍ بخَمسٍ من آذان، فلمَ إذاً كتبَ عليكَ المَوتَ ولم يَجعلْ التَعَبُّدَ بتأبيدِ أعوامٍ رَغدٍ وسَعدٍ حِسان، وما مِن حَاجةَ لقَصِّ قَصَصِ استخلافٍ وشَجرةِ تَخليدٍ وإغواءِ شَيطان"؟

واهٍ!

قد غَمَّتْ غُيومُ سؤالي نَظَرَةً لأبي عدنان نقيةَ اللَّمعَان، وتِيكَ نظرَةٌ من مَنابِع ربِّها مُستَلهِمةٌ لِلمَعَان، بل قد سَمَّتْ سمومُ سُؤالي نبرَةً لأبي عدنان تَقيةَ المَعان، وذيكَ نبَرَةٌ بينَ أصَابِع ربِّها مُستَسلِمةٌ بأمان، وبَدَا ليَ لومضَةٍ أنَّ أبا عدنانَ كأنَّهُ حَيرانٌ بما أملَيتُ عَليهِ من تِبيان، وللمضةٍ كأنَّيَ أفحَمتُ فؤادَهُ بما أقحَمتُ فيهِ من غثاءٍ وغَثيان. ثُمَّ مُتَبسِّماً هَمْهَمَ أبو عدنانَ بخَلجَاتِهِ بعدَما لَمْلَمَ دَمعتَينِ من مُقلتَيهِ على وجنتَيهِ نَزلَتا بإيمان، ثمَّ مثلُهُ أنا مِن مُقلَتيَّ على وَجنَتيَّ نَزَلَت دَمعَتان...

لاريبَ أنَّهُما مِن أبي عدنانَ دمعَتا خُشُوعٍ وإيمان، ولكن أكانت دَمعتايَ عن تَعاطفٍ مَعهُ أم كانتا عن إيمان. لستُ أدري يا نُمَيلَتي ومُحالٌ عليَّ أن أحيطَ بما في نفسي مِن شَأنٍ وشَنآن. وأظنُّ أنَّ التَّعاطفَ هو الأقربُ فلومَا دمعتاهُ لمَا نزَلتْ من عينيَّ الدَّمعَتان...

وهل يَتَنَزَّلُ الدَّمعُ من فُؤادٍ رحَّالٍ ما بينَ بينَ خوضٍ وبُهتان.

هَمَسَ ليَ أبو عدنان بلهجةِ قُرويٍّ من ريفٍ وبِوِدٍّ وحنان؛

"لا أدري يا أُخَيَّ، بيدَ أنّيَ أعلمُ أنَّ رَبِّي ﷻ غَنيٌّ رَحيمٌ بالإنسَان، وأنَّ ٱللَّهَ یُرِیدُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡنا وَیُرِیدُ ٱلَّذِینَ یَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَ ٰ⁠تِ أَن نَميلَ مَیۡلًا عَظِیمࣰا بِخُذلان. یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنَّا وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا ما بينَ هَوانٍ وطُغيان، وما مِن أحدٍ على ظَهرِها إلّا وهوَ فقيرٌ لِرَحماتٍ مِنَ الغَنيِّ بهَديٍ ودَرْس، ولبرَكاتٍ مِنهُ حين يَضُنُّ الغَرْس، ولعَطفٍ بشفاءٍ حينَ يأنُّ الضِّرْس، ولِلُطفٍ منهُ بوجاءٍ حينَ يَرنُّ التَّرْس بعُدوان. أنا لا أدري يا أُخيَّ بيدَ انّي أعلمُ أنَّهُ هوَ الغَنٍيُّ ﷻ عن شَجرٍ وحَجَرٍ وعنِ حَيوان، وعنِ مَلَكٍ وجَانٍّ وإنسَان". ثُمَّ تَنَهدَ أبو عدنانَ..

"أوَتُسائلُني أخيَّ لمَ إذاً كتبَ ﷻ عليَّ المَوتَ ولم يَجعلْها ألفَ ألفَ عامٍ رَغداً حِسان. لا أعرفُ أُخيّ، رُبَما رَحمتُهُ ﷻ صَيَّرتِ الالفَ ألفَ مِئةً بنقصَان، لكيلا يَجعلَ في الدِّينِ من حَرَجٍ وفينا العاجِزُ والمُستَضعَفُ والكَسلان. ثُمَّ يَتَوفانا ﷻ فيَجعلُها عندَهُ هنالكَ سَرمداً في الجنان، فيرويَنا ﷻ مِن كَوثرٍ رَيّان، ويأويَنا على سُرُرٍ مَرفوعةٍ مع حُورٍ حِسان، في غُرَفٍ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٍ عاليةِ البُنيان، ويُمْدِدَنا من لَدنهُ بفاكهةٍ ونخلٍ ورمَّان، وقبلَ كلّ أولئكَ سَوفَ يَهَبُنا ﷻ نعمةَ عَفوٍ وغفرانٍ، ثمَّ تأتي منهُ سبحانَهُ المِنَّةُ الكبرى وتلكَ هيَ مِنَّةُ الرِّضوانِ، ويَومَئذٍ وحَسب تَسعدُ النَّفسُ المُطمَئِنةُ السَّعادةَ الحقَّ بأمان، ولسَوفَ نَعبدُهُ جميعاً هنالكَ عبادةَ أنبياء أخيارٍ بإمتِنان، لا عبادةَ أغنياءَ تجّارٍ بإفتِنَان، وستَعلمُ النَّفسُ أنَّ السَّعادَةَ في الأولى ما كانَت إلّا هَوسَاً وهَلسَاً وطَلسَاً أسوداً في حالكٍ من دُخان".

- قد أتاكَ أبو عدنانَ بجَوابٍ يا سَيِّدي من القُرآن. ولقد سَمِعتُ المذياعَ في غُروبٍ يصدحُ بآيةٍ في جَوِّ هذا البستَان، يَشرَحُ فيها الرَّحمنُ بلطَيفِ البَيان؛

"مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "،

ولعمري إنَّ هذا لخِطابٌ كَريمِ منَ القرآنِ، قد أتَى هُنا ليَنفيَ شَنَّةَ العَبادةِ ويَضفيَ مِنَّةَ اللهِ ﷻ عليكُم بإحسَان، وما بَدا هَهُنا أنَّهُ خِطابُ أوامِرَ مِن عباداتٍ بل كتابُ بَشائِرَ مِن رَحماتِ تُضفي بهَديٍ مُنيرٍ وشَرحٍ للدَّرْس، مثلما أَنبَأَكَ مِن قبلُ أبو عدنانَ بنَبيلِ هَمْس، كي تَتَكاثَرَ فيكمُ البرَكاتُ والقطفُ بهناءٍ حين يَضُنُّ الغَرْس ، وتَتَناثَرُ العافياتُ والعَطفُ بشفاءٍ حينَ يأنُّ الضّرْس، وتَتَواتَرُ الانتصاراتُ بلُطفٍ وبهاءٍ حينَ يَرنُّ التَّرْس. بينَما أمَدُ ما فُرِضَ في الكتابِ عَليكم من نُسُكٍ لا يَستَغرق في اليومِ إلّا كعَطسةِ رَضيعٍ في طَستِ غَطْس. نُسُكٌ عَفيفٌ أنزِلَ من فوقِ سَمواتٍ ذاتِ حُبُكٍ وحَرس. نُسُكٌ خَفيفٌ لكنَّهُ شَريفٌ ومُفَصَّلٌ عَلَىٰ عِلْمٍ، وهو هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالحقِّ وينأوْنَ عمّا هو عَكْس.

***

علي الجنابي

.....................

* النص هو صفحة مقتطعة من كتابي "حواري مع صديقتيَ النملة".

 

في المثقف اليوم