أقلام ثقافية

مجيد ملوك السامرائي: الربـيع.. للحُب والعشق

الربيع مفهوم مناخي – جغرافي يقع بين الفصل البارد والفصل الحار ويتميز بالتغير مابين درجات الحرارة الشتوية ودرجات الحرارة الصيفية في نصف الكرة الأرضيّة الشمالي وتوقيته بأشهر أذار/ مارس ونيسان/ أبريل ومايس/ مايو، مابين 1 أذار و 31مايس، أما في نصف الكرة الأرضيّة الجنوبي فتوقيته من  1أيلول/ سبتمبر إلى 30 تشرين ثاني/ نوفمبر، وفلكيّاً يبداء مع الاعتدال الربيعيّ الذي يكون عادةً  في 21 أذار في نصف الكرة الأرضية الشماليّ وفي 22 أيلول في نصف الكرة الأرضيّة الجنوبيّ ويستمرّ حتّى وقت الانقلاب الصيفيّ، حيث يكون محور الأرض في فصل الربيع مائلاً نحوَ الشمس لذلك يزدادُ طول النهار ويقلّ خلال فترة الليل.

تحدث ظاهرة الاعتدال مرتين في السنة حيث تصطف الأرض مع مدارها حول الشمس مرة في 20 أذار ويسمى الاعتدال الربيعي ومرة أخرى في 23 أيلول ويطلق عليه الاعتدال الخريفي حيث تكون الشمس مباشرة فوق خط الاستواء ويتساوى نصفا الكرة الشمالي والجنوبي في ساعات النهار والليل، وكل كواكب النظام الشمسي لديها هذه الاعتدالات عندما يؤدي مدار الكوكب وميله بالنسبة للشمس إلى تلقي كلا نصفي الكوكب كميات متساوية تقريبا من الضوء، والأعتدال ظاهرة فريدة يكون خلالها نهار وليل الأرض متساويين في الطول مما ينتج عنه 12 ساعة من ضوء النهار و12 ساعة من الليل في كل جزء من أجزاء الأرض وهذا ليس بحال الأيام الأخرى من السنة، حيث يتسبب ميل محور دوران الأرض حول الشمس بزاوية 23.5 درجة؛ في اختلاف طول النهار والليل وذلك حسب فصول السنة والموقع الجغرافي – الفلكي لأقسام الأرض.3641 الربيع

في الوقت الذي يبدأ فيه الربيع بفعل الدفء الناتج عن ميل محور الأرض نحو الشمس يتأثر الطقس في كثير من مناطق العالم بظواهر غير مستقرة ويرتبط ذلك بمجموعة من الاتجاهات المتعلقة بدورات وظواهر جوية طويلة المدى تحدِّثها التيارات القادمة عبر المحيطات والمرتبطة بتغير درجة حرارة المحيطات ذاتها كظاهرتي (النينو، والتذبذب الجنوبي) اللتين تم بصددهما إجراء العديد من الأبحاث العلمية الجغرافية والجيوفيزيائيه، ويشهد الطقس خلال فصل الربيع حالة من عدم الاستقرار وذلك عندما يبدأ الهواء الدافئ في الهبوب من وقت لآخر من المناطق القريبة من خط الاستواء بينما لا يزال الهواء البارد يهب أيضاً من المنطقة القطبية وهذا ما يؤدي الى حدوث الفيضانات في المناطق الجبلية وبالقرب منها بفعل مياه الثلوج الذائبة، وفي الولايات المتحدة وتحديداً في المنطقة التي يطلق عليها زقاق الأعاصير تكون أعاصير (التُرنادو) أكثر نشاطًا في هذا الوقت من العام لأن سلسة جبال روكي في الغرب تمنع الكتل الهوائية المتدفقة سواء الباردة أم الدافئة من التدفق شرقًا وتدفعها بدلاً من ذلك إلى التصادم المباشر مع بعضها البعض، كما تهب رياح عاتية للغاية وعواصف رعدية عملاقة.[1]3642 الربيع

الربيع تجديد لكل المخلوقات

يرتبط مفهوم فصل الربيع مناخيا بمجموعة من الظواهر مثل تفتح زهور العديد من الفصائل النباتية، وتزايد الأنشطة الحيوانية كالهجرة والتزاوج، ويُنْظر للربيع على أنه وقت النمو والتجديد والنشاط والحيوية لكافة المخلوقات بما في ذلك النباتات والحيوانات وهنالك ارتباط وثيق بين جميع الكائنات الحية في هذا الفصل كالتكاثر وأُزهار النباتات، كما أن خروج الإنسان من الظروف التي يواجهها في الشتاء واستقباله للربيع يمنحه الكثير من الراحة النفسية لتعرضة لأشعة الشمس في الربيع والتي تؤثر إيجابيا على الدماغ من خلال تحفيز إفراز هرمونات السعادة والشعور بالراحة النفسية، لذلك ارتبط الربيع بالحب عبر التاريخ من خلال الأدب والرسم والموسيقى، وكانت أسباب هذا الارتباط مجهولة؛ فهل لما يحدث علاقة بتفتّح الأزهار وانتشارها أم بسبب أشعة الشمس الساطعة؟ وهل يدعو الربيع الانسان للحُب والعشق فعلا أم ان ذلك وهما؟ أم أن هناك علاقة سحرية تربط بينهما، ان مشاهد تفتح أزهار الأشجار وعودة الطيور المهاجرة وزيادة ساعات النهار وزرقة السماء وغروب الشمس الرائع مع انعكاس أشعتها؛ تبعث الأمل والطاقة والحيوية في النفس البشرية ولهذا يصبح الربيع بطبيعته الخلابة بمثابة أرض خصبة للمحبة بمعناها الواسع، ويعد فصل الربيع فصلَ الراحة والجمال والحياة حيثُ تكثر فيه الرحلات والنزهات والسفر لكونه معتدلاً بين الحرارة والبرودة.

الربيع والحضارات

نظرا لأنتشار ما يقرب من ثلاثة ارباع سكان العالم في النصف الشمالي لكوكب الأرض بسبب سعة اليابسة لتعدد القارات؛ فأن ابتهاجهم بقدوم الربيع اكتسب أهمية عظمى لخروجهم من قسوة الشتاء نحو الحياة المتجددة، لذلك فأن سكان العالم القديم لم تكن أحاسيسهم وعواطفهم وأفراحهم تختلف عما لدينا اليوم من مشاعر حين قدوم الربيع والخضرة والزرع والورود والثمار والنسيم المُعطر بروائح الزهور البرية التي تملأ الوديان والجبال والسهول والمراعي الخضراء التي ستطعم كل الكائنات الحية، لذلك فأن كل شعوب العالم قد إحتفلت بقدوم الربيع بشكل من الأشكال وهذا كان معروفاً منذ الأزمنة القديمة لبلاد ما بين النهرين؛ فقد إحتفل السومريين بأعياد الربيع منذ عصر (أريدو-5300 ق.م) باسم (زاكموك) وكان يُحتفل به مرتين خلال العام الواحد في الربيع والخريف، أما الساميون الذين سكنوا العراق القديم فقد إختاروا له تسمية (أكيتو) وتعني (الحياة) في اللغة السريانية الآرامية، كما إحتفل بالربيع في مدن (أريدو، أور، لكش، كيش، أوروك)، لقد كان (زاكموك و أكيتو) عيدين رئيسيين؛ فالاول هو عيد الإحتفال بحصاد الشعير، وكان الثاني في جذوره القديمة الأولى عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام ويُمثل رأس السنة الجديدة (الإعتدال الربيعي)، وهكذا راح البابليون يحتفلون بعيد الأكيتو في اليوم الأول من شهر نيسان (نيسانو) والذي يعني بالعربية (نيشان) بمعنى الأشارة/ العلامة على حلول فصل الربيع والإعلان عن ولادة الحياة ورمزاً للخصب.

ربط الانسان تأريخيا فصل الربيع بمناسبات أحتفالية محلية وعامة قد تمتد لأكثر من يوم ولكل بلد طريقته الفريدة في الترحيب بالموسم الجديد سواء كان ذلك من خلال مهرجان أو موكب أو وجبة جماعية، ومن مناسبات الربيع؛ يوم الأمّ الذي يأتي في أول يوم من أيام فصل الربيع من كلّ عام أي يوم 21 أذار، وعيد الربيع، وعيد النوروز، واليوم العالمي للمياة  يوم 22 أذار،  ويوم العمّال الذي اختيرَ بأنْ يكون في اليوم الأول من مايس لأعتبار هذا اليوم بمثابة مرحلة انتقاليّة بين فصول السنة، وعيد الفصح المجيد الذي يعتبرُ من أهمّ الأعياد الدينيّة المسيحيّة.

عيد شم النسيم: يرجع الإحتفال بعيد شم النسيم المصري إلى (2700 ق.م) وبالتحديد إلى أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، ويرمز إلى بعث الحياة لاعتقادهم بانه أول الزمان وبداية خلق العالم، وترجع تسمية (شم النسيم) إلى لفظة شمو الفرعونية، وقد أجمع المصريون باختلاف معتقداتهم على تعظيم شم النسيم ولا يزال الجميع في مصر يحتفل به حتى يومنا هذا، كما ارتبطت تسمية شم النسيم بالتقويم الزراعي المصري.

عيد الربيع الصينيّ: يعدُّ من أشهر الأعياد التقليديّة، ويطلق عليه أيضاً رأس السنة القمريّة الجديدة، وعيد لم الشمل، وتعود جذوره الى ثلاثة الاف سنة، كما يحتفل به في الكوريتين وتايلاند وميانمار ولاوس. أما عيد الربيع الياباني سيتسوبون فيكون أيام 2و3و4 شباط.

عيد الربيع في الدولة العربية الأسلامية العباسية:

أعتبرت الخلافة العباسية ببغداد يوم الربيع/ نوروز بداية لسنة جديدة من النواحي المالية والإدارية وأسناد المناصب وتعيين القادة ومنح الأوسمة والخلع والهدايا وعموم التكريم. وكانت المظاهر الجميلة لعيد الربيع في بغداد زمن العباسيين جلية للعيان وتمثلها زينة البيوت بمختلف أنواع الورد والرياحين وقد ملأت الأرجاء بعبق رائحتها الزكية، ومثل ذلك أعلى دلالة لمعاني الود ومشاعر الأخاء والمحبة، وكانت عادة التألق والتأنق في الأزياء ظاهرة ملموسة لدى الاسر البغدادية، كما كانت حدائق قصور الخلفاء مزهوة بحدائق الورد الجميل، لقد كان عيد الربيع في بغداد خلال العهد العباسي اكثر الاعياد جاذبية ورونقا فقد غدا الاحتفال بالعيد عندهم كارنفالا عظيما وتمتد ايامه نحو أسبوعين وكانت مظاهره متجلية في افراح الناس وتزيين بيوتهم بالوان مختلفة من الورد والأزاهير التي تملئ الاجواء بعطرها الفواح وهذا ما مثل باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال ولذلك أنشد ابن الجهم صادحا؛ (لم يضحك الورد إلا حين أعجبه.. حسن الرياض وصوت الطائر الغرد).

في عاصمة العباسيين الثانية سرمن رأى/ سامراء؛ وأثناء خلافة المتوكل على الله و ولده المعتز(869-841 م)؛ أنشد البحتري قصيدة الربيع مبتهجا ومسرورا بحلول فصل الربيع في سرمن رأى ومطلعها؛ (أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا . . من الحسن حتى كاد أن يتكلما).

عيد نوروز عند الفرس المجوس:

كان (نوروز) عند الفرس متجليا طبقا لتقاليدهم المتوارثة منذ القدم في الخروج الى الغابات الكثيفة قبل يوم لجمع الاحطاب ليشكلو منها اهرامات عالية وعندما تشتعل النيران تبدأ جماعات المجوس في هذا الجو الساخن والوهج الساطع بالرقص بملابس العيد الزاهية حول الكتل المشتعلة مغتبطين مبتهجين. أما عيد (نيروز) الفارسي في 21 أذار فعد العيد القومي ويوم الإعتدال الربيعي ورأس السنة الفارسية في إيران، حيث تُعطل فيهِ كل الجهات الحكومية والأهلية إعتباراً من 20 آذار ولمدة خمسة أيام،  كما تُعطل لمدة أربعة عشر يوماً كافة المدارس والجامعات.

في مصر أطلقوا عليه تسمية نيروز القبطي، كما يحتفل به الأكراد يوم 21 أذار عيدا قوميا، وفي سورية عيد الربيع الشامي، ويحتفل به اليزيديون في شمال العراق تحت تسمية سري صال في الأول من نيسان، ويحتفل بهذا العيد سريان العراق المسيحيين في الأول من نيسان وكذلك الصابئة المندائيين في العراق. أما نوروز دول آسيا الوسطى؛ فيُحتفل به بالتزامن مع الاعتدال الربيعي 21 أذار، ويرمز هذا اليوم إلى حياة جديدة وتختلف أٍساليب الأحتفال به من بلد إلى آخر.  في سنة 1935 تم تأسيس مهرجان الربيع السنوي (24 نيسان) بمدينة حماة/سوريا،  كما أسس سنة 1969 بمدينة الموصل/العراق مهرجان الربيع السنوي (10 نيسان).3643 الربيع

من الأمثال الشعبيًة المتداولة عالميا عن الاعتدال الربيعي؛  بالإنكليزية/ تأتي الأمطار في أبريل لتجلب زهور مايو،  وبالألمانية/ أبريل يفعل ما يريد،  وبالفرنسية/ في أبريل لا تخلع خيطًا،  وبالإسبانية/ حتى مايو لا تخلع ثوبك، وبالبرتغالية/ في أبريل آلاف المياه، وبالإيطالية/ الربيع هو موسم الحب،  وبالهولندية/ ربيع جديد صوت جديد، وباليابانية/ نصف ساعة في مساء الربيع تساوي ألف قطعة ذهب، وبالروسية/ للحروف الحسنى صوت مثل يوم ربيعي، وباالصينية/ في الربيع يكون هناك أوركيد، وبالكورية/ البرد يحسد الزهرة.[2]

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي - جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

1.https://web.archive.org/web/20171222051209/

2.https://www.alaraby.co.uk/6-

 

في المثقف اليوم