أقلام ثقافية

علي الجنابي: شُعاعٌ حَذوَ مِحرَابِ الإيمان

(النصُّ من واقعٍ وليس من خيالٍ في عنان، وكُتِبَ لمناسبةِ تلبيةِ ضيوفِ الرَّحمنِ؛ «لبيَكَ اللّهُمَ لبيَك» مِن كلِّ فجٍّ ولونٍ ولِسان)…

إنَّ للهِ أهلينَ أعرفُهمُ أنا ولستُ منهمُ بالوجدان، بيدَ أنّي كجليسٍ لهمُ أرنُو وأطمعُ بامتنان.

ولقدِ انهَارَ بينَ يديَّ سَدُّ الذِّكرياتِ الآنَ، فتَفَجَّرَ تَيَّارَ الذَّرف ليفصحَ عن حرفٍ حبيسٍ وأسيرٍ للسَّدِ كانَ. إذ قعدَ حَذوي «بنغَلاديشيٌّ» يتلو مِن آي القرآنِ ما تَيسرَ لهُ مِن وردِهِ مَا كانَ. الزَّمانُ كانَ مِن بَعدِ صَلاةِ العَصرِ، والشَّهرُ شَهرَ رمضانَ كان. وكانَ المكانُ محرابُ الحَرمِ النَّبويِّ العَامِرِ بالإيمانِ المَعمورِ بالأمَان وكانَ، الاطمئنانُ يَغشَانا، وكنتُ أنا غَارقاً بِهَيبَةِ المَعانِ وكانَ، مَسمَعي بِتِلاوَةِ الآياتِ بلَكْنَةٍ بنغَاليةٍ ولهانَ وهيمانَ وكانَ، البَنغَاليُّ يَتلو لنفسِهِ دونَ الجَهرِ مِنِ القَولِ باستِمكانٍ وبعُسرَةٍ في اللسَان وكان، الحَشدُ مِن حولِنا منصِتاً ناظِراً لحظاتِ إفطَارٍ ونغمةِ الأذانِ وكان، جَمالُ تِلكَ الدَّقائق قد تقَيَّدَت حُرُوفُها بينَ تلكَ الأركانِ فكانَ، أن أمسى وَصفُهُ عَسيراً على قلمي واللِّسَان ثمَّ كان، أن وَصَلَ البنغَاليُّ لتَرتيلِ "كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّستَنفِرَة * فَرَّت مِن قَسوَرَةِ" وكان، أن تَنبَّأتُ أنا أنَّ تغريدَ تلاوتِهِ سيَصطدمُ بتراكمِ هذهِ الأغصان؛" مُّستَنفِرَة، قَسْوَرَة" فَصدقَت نبوءتي وكَانَ الوقفُ وكان، أن جَاهَدَ ثمَّ جاهَدَ لنطقِها وينفذَ من بينِ  تلكَ الأفنان، وَلكن هَيهَات على لسانِهِ فَصاحَة التِّبيان وكانَ، أن خَشيتُ أنا عَليهِ من جهادِهِ أن تَتَفَكَّك لَديهِ الفَكَّان فكانَ، أن تَبَسَّمتُ أنا بَسمَةً مَسمُوعةً ما كتَمتُها رُغم هَيبَةِ المَكانِ فكان...

أنِ انفجرَ الحَشدُ من حَوالينا ضَاحِكينَ بخفاءٍ بلا بهتان وكانَ، تَبسُّمي وكَأنَّهُ لهمُ كانَ إشارةُ إطمئنَانٍ بالضحك ثمَّ كَانَ، أن عانَقتُهُ توَدُّداً فَعانَقني تَفاخِراً بِي أنيَّ العربيُّ ذو العِقالِ الناطِقُ بلسانِ القرآن ثمَّ كانَ، أن أسررتُ في نفسي بحضرةِ نورِ هذا المكان ما كانَ، منَ ندامةٍ على ما كانَ مني من تفريطٍ خفيٍّ مخزٍ مُهانٍ فكانَ، أنِّي أعلنتُ لهُ؛ بل أنّي بعناقِكَ لفخُورٌ يا أرقَّ لسانٍ في إنسَان، ثمَّ كَان، أن قَرأتُها عَليهِ مَرَّتينِ مُعَلِّمَاً إيَّاهُ فنَطقَها سَلسةً بعِرفان وكانَ، العَجَبُ قد أذهَلني مِمَّا حَدَثَ من سلاسةِ نُطقٍ في فيهِ كان.

عجبي!

أنا ما جِئتُ البَنغاليَّ بسِحرٍ من التِّبيانِ إلّا أن قَرأتَها مرتينِ  فَقَرأهَا فَصيحةً باحتِضَان ثُمَّ كانَ، أنِ انطَلَقتُ مُتَأمِّلاً أسِرُّ القَولَ في خَافقي بكتمَان؛

«حمداً مباركاً لرَبِّيَ العزيزِ الرَّحمن! أن جَعلنا نَحنُ العَربُ مَادةَ الإسلام في بدوٍ وحَضرٍ وفي كلٍّ بيتٍ وبنيان».

أجل، نحنُ حَملةُ رِسالةٍ قَسْوَرةِ، والكَافِرونَ هم حُمُرٌ مستَنفِرَة، وهكذا قَضَى اللهُ وهكذا قدَّرَ فَكان، وَلَسَوفَ يَظلُّ الدِّينُ ظَاهِراً على الدِّينِ كُلِّهِ رُغم كلِّ مكرٍ مظنونٍ مُظان، مادامَ زَمزمُ نَضَّاخَاً بالأمانِ وهَذهِ القبَّةُ الخَضراءُ تَتَلألأُ بالإيمَان، وإنَّما «اللَّهُ أَعلَمُ حَیثُ یَجعَلُ رِسَالَتَهُ»، «وَاللَّهُ یَختَصُّ بِرَحمَتِهِ مَن یَشَاء وَللَّهُ ذُو الفَضلِ العَظِیمِ »، «كَذَ لِكُم قَالَ اللَّهُ مِن قَبلُ»، فسُبحانَ خَالقِ الأكوَان مُنْزِلِ القرآن. ثُمَّ..

   بعدَما أكملَ البَنغاليُّ التِّلاوةَ طَلبتُ منهُ بتَوَدُّدٍ وعرفَان، تلاوةَ الآيةِ هَوناً دُونَ عَونٍ مني بل وتحتَ إغراءِ الرِّهانِ فكانَ، أن عَجزَ لسانُهُ عن نطقِها بِاستِحسانٍ وتبيانٍ ثمَّ كَانَ، أن نادَى المُنادِي «اللهُ اكبرُ» فَنَبَضتِ العُرُوقُ بمَاءِ زَمزمَ ومَضَغَت عجوةُ المَدينةِ وكانت للعُرُوقِ هيَ الدِّهان وكانَ، أن ثَبَتَ الأجْرُ عندَ العزيزِ الرَّحمن وكان، أن تَلألأتِ الوجُوهُ بعدَ الإفطارِ بنورِ التَّوحيدِ والإيمان وكانَ، ذلكَ الحَدثُ في تلكَ الرِّحَابِ الطَّاهِرَةِ يَعدِلُ باريسَ وبرجَها ولَندنَ ومَرجَها وما فيهما مِن عُنوان وكانَ، يعدلُ بَرلينَ وخَرجَها وروما وفَرجَها وما فيهما مِن مَبان.

لأنَّ عَبَقَ عطرِ تلاوةِ ذاكَ البنغَاليِّ المُعدمِ البائس كإنسان، كان اعْطَرُ مِمَّا مَلَكَتْهُ قُصُورُ باريسَ من عُطُورٍ على مرِّ حقبِ الزَّمان.

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم