أقلام ثقافية

علي الجنابي: إي وَرَبِّي؛ مَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار

(دعونا نستقبلُ حجيجَ العزيزِ الغفار العائدينَ بعدَ أيامٍ بأفئدةٍ مُتألقةٌ بأنوارِ مَكَّةَ ومِمَّا أبصَروا فيها، بل تراهم تركوا قلوبَهم هنالكَ ولم تزلْ نَبَضَاتُها متَعلِّقةً بأستارِ كعبةٍ فيها. وإنَّهُ ما مِن يومٍ أشقُ على الُّروحِ من يومِ طوافِ الوداع فيها، ويا لوعةٍ ويا لأسىً كانَتا في صَدرِ رسولِ اللهِ ﷺ لمَّا هاجَرَ مِنها وفارقَ بَيتَ اللهِ فِيها). ولقد..

هَاجَرَ منها وكانَ هوَ خيرُ خَلْقِ اللهِ فيها وكانَ أقسطُ مَن يوفِّيها. هَاجرَ وكانَ هوَ الأصلُ فيها والنّجمُ فيها وكانَ أمينُها وكافيها. هَاجَرَ ومَا كانَ شائِنَها قطُّ ولا شَانِئَها ومَا كانَ قطُّ جَافِيها. هَاجَرَ صَبرَاً بِشَجَنٍ على حَزَنٍ وَإذ فيها كانَ مَنفِيها. هَاجَرَ ومَا هَجَرَ بل كانَ البَشيرُ فيها وكانَ رمزُ الوَفا فِيها. هَاجَرَ لأنّهُ للهِ كانَ مُوَحِداً وللّاتِ ولملَّةِ الآباءِ نافيها. هَاجَرَ وإذ لعابُ الكفرِ والشِّركِ فيها نَاقِعٌ في غَمْراتِ فِيها. هَاجَرَ وإذ خِطابُ التَّكبَرِ فيها واقِعٌ في ضِغثِ غَافِيها. هَاجَرَ وكانَ هوَ الحِلُّ والحَلُّ فِيها ومَا كانَ لافِيها. هَاجَرَ مِنها وليفُها عن مَوَدَّةٍ في جَنبَيهِ يُخفِيها. هَاجَرَ مِنها خيرُ مَن مَشَى فِيها وبالذِّكرِ كانَ مُشفِيها. هَاجَرَ بَأمرِ رَبِّهِ على مَعَادٍ أن يُزكّيها وأن يُوافِيها وأن يوفِّيها. هَاجَرَ على وَعْدٍ بعَوْدٍ لِنَارِ الكُفرِ يُخمدُها أبداً ويُطفِيها. هَاجَرَ وأبو بَكرٍ لخُطَى النُّورِ خَادمُها وحَاديها وقَافِيها. هَاجَرَ فكانَ ليثربَ البَدرَ، وكانَ فيها نورُ جبريلَ يُضفِيها. هَاجَرَ لطِيبةَ فكانَ هَاديها وبالقرآنِ من سَّوآتِها شَافِيها.

صَلَّى عَليهِ اللهُ ذو رِفعةٍ علياءَ مَالَها مَن يُدانيه. صَلَّى عَليهِ اللهُ ذو شِرعةٍ بيضَاءَ تَسمو في مَعانيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما انْبَلَجَت شَموسٌ في أقاصيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما اعْتَلَجَت طقوسٌ في نواصيها. صَلَّى عَليهِ اللهُ ما أنعَمَ الجَليلُ ببَرَكةِ أرزاقِهِ فيها. صَلَّى عَليه اللهُ ما برعَمَ إِكْلِيلٌ بحَرَكةِ أوراقِهِ فيها. وصَلَّى عَليهِ اللهُ ما سَكَنَت نَفسٌ في تَراقيها.

مَكَّةُ، ما أدراكَ ما بَكَّة، ثمَّ ما أدراكَ ما مَكَّة!

فمَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار. إي ورَبيِّ، فَمَكَّةُ هيَ دِفقُ الأحرارِ رفقُ الأذكارِ أفقُ الأفكار توقُ الأبصَار فلن تَكونَ مثلِها دار.

مَكَّةُ عَلمٌ وعِلمٌ مَعلومٌ لدى الأشرارِ قبلَ الأبرار. فدُموعُ الأبرارِ بشَوقٍ ورَفدٍ تَنبَجِس إن يَمَّمَ شطرَها رَكبٌ وزَار، وجُموعُ الأشرارِ بِطَوقٍ وصَفدٍ تَنحَبِسُ إن كَمَّمَ عطرَها خَطبٌ وثَار.

كلّا واللهِ، ليس مثلَ مكَّةُ دَار، وذلكَ أمرٌ مَفهومٌ لدى الفُجّارِ ومعلومٌ بينَ يدي الأخيار، بأنَّها الدَّارُ التي لا تُعاتِبُ بل تُعاقِبُ على نيَّات السُّوءِ لا على الإظهار، فعِقابُ مَن أرادَ فيها بِظُلمٍ عذابٌ أليمٌ مُتَقَلِّبٌ في مقامع النَّار، بأنَّ مكَّةَ لَيسَ داراً كَمثلِ بقيةِ الدَّيار. فقد نَأى بِها رَبُّها ﷻ عن حُروبِ تَناطحِ الأقطَار وعن كروبِ تلافُحِ الأمصَار. وجَعلَها ﷻ مَقَرَّاً لسَناءِ السَّماءِ لمَن رَغِبَ الهُدى وبهِ استَنارَ واستَجار، وما جَعلَها ﷻ مَكَرَّاً لغَبراء الأمراءِ مِمَّن جَلَبَ الرَّدَى وبِهِ استَسارَ واستَطار.

ولقد أمَرَ ﷻ رافِعَ قَواعِدِها أن يُغادِرَها فما هيَ لهُ بمَثْوىً ولا سَكَنٍ ولا دَار. ولقد وُلِدَ فيها سَيِّدُ الأنامِ ﷺ وأُمِرَ أن يُهاجِرَها فما هيَ لهُ بمَأْوىً ولا وَطنٍ ولا دَار. ولقد أمَرَ ﷻ النَّاسَ جَميعاً أن يأتُوها حَجِيجَاً على ضَامرٍ أو راجلاً قد هَبَّ ثمَّ دَبَّ وسَار.

و "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ"، وكيفَ أغارَ الفيلُ وثَمَّ كيفَ استَدار

"أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ"، وعِبرةً مُزَلزِلَةً في أرجَاءِ الدِّيار

"وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ"، وأولاءِ همُ جُندٌ منَ اللهِ الوَاحدِ القهَّار

"تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ "، ثمَّ لعَذابٍ مًقيمٍ في النَّار، ذلكَ بأنَّ مكَّةَ لَيسَ كَمثلِها دَار.

وإنَّما مَكَّةُ لهيَ العَلامةُ الفارِقةُ بينَ صَباحٍ في أنوارِ الجَنَّةِ وصَياحٍ خلفَ أسوارِ النَّار، فمَن ثَوى في ثَراها طَوَّافاً صَالحَ البالِ، فبينَ أرواحِ أهلِ الجَنّةِ ومِن كلِّ تَّرَفِ يَختار، ومَن ثَغَا في ثَراها خَوَّافاً كالحَ الحَالِ، فبينَ أشباحِ أهلِ النَّار ومن كلِّ قَرَفِ يُضَار.

فبَكةُ لَيسَ كَمثلِها دَار.

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم