أقلام ثقافية

علي الجنابي: أَيْنَ اخْتَفَتِ الكَلبَةُ الهَارِبَة؟!

تكادُ تكونُ الطَّائرةُ وحَسْب هي الموضِعُ الذي يَهربُ بي، صوبَ خَلَجَاتٍ مُخجلةٍ في الفكرِ أراها جليَّاً تَشهبُ بي. فما إن أقعدُ ببَطنِها مُنبَهراً، وبلعابٍ سيّالٍ لتقنيةٍ فيها تَحلِبُ بي، حتى أرى تيكَ الخَلَجاتِ تنهمرُ مُجَلجِلةً وتندبُ بي. ثُمَّ ما إن تَقلعُ من مَدرجِها حتى تَختمرُ رُغمَ أنفي تُصَرِّحُ بأنِّي مِن أمَّةٍ عالةٌ على أممٍ، وذيكَ خَلجَةٌ ما فتأت تثلبُ بي. وثَمَّ كلمَّا تصَّاعدتِ الطَّائرةُ في جوِّ السماء تَصَّاعدَت تيكَ الخلجاتُ وتصَاعدَ عويلُها يهتفُ بي، بأنَّه ليسَ لي يدٌ في صنعِ سلكٍ أو جُزءٍ من ذي طائرةٍ وذاكَ عويلٌ بمَعَرَّةٍ تضربُ بي. ثُمَّ تأتيَ خَلجةٌ أمرُّ وأدهى بأنَّ كلَّ أجزائِها صُنِعَت بأيادٍ هي بربِّ السَّماءِ كافرةٌ، وهذا عارٌ يَذهبُ بي، الى خَلجةٍ أخرى هي أعتى وأخزَى بأنَّهُ حتى جهاز ملاحةٍ جَويةٍ في برجِ المَطار قد خَلقَتهُ أيدٍ هيَ كذلكَ مِن ربِّ السَّماءِ نافرة، وذاكَ شَنارٌ يلهبُ بي.

ثُمَّ أرانيَ أتأمَّلُ وُجوهَ بني قومي من مسافرينَ على مَتنِها وذلكَ فضولٌ صبيانيٌّ مَعيبٌ ما فتِأ يلعبُ بي، فأرَى بعضَها وجوهاً تحتَ شَلالِ شَخيرِها غَافيةً، وتيارُ نَومِها يكادُ يَسحبُ بي، وبعضَها وجوهاً جافيةً ورسوماتِ انتفَاخِها بتَنَطُّعٍ وخُيلاءَ يَقطبُ بي، وكأنَّ أحدَهُم هوَ الصَّانعُ لمنظومةِ (هَيدروليك) الطَّائرة وتلكَ خَيلاءُ جوفاءُ الى السَّأمِ تغرُبُ بي، بينَما هوَ في حقيقِ الأمرِ لا يَعلمُ مِن ذي دُنيا دائِرةٍ، سوى الثّريدَ وهزَّ العُرجونِ بعُودٍ من جريد لينالَ تُمَيراتٍ بائِرة، وذاكَ خطبٌ سقيمٌ يَخطبُ بي.

ثمَّ أرانيَ أنظرُ من نافذةِ الطَّائرة بهوسٍ غريبٍ يرغَبُ بي، فأرى مَيادينَ أمتي خربةً وخرابُها بوَجعٍ شديدٍ يقلِبُ بي، وأرَى فَدَادِينَها ثَاويةً وتَثُجُّ بالتَّلافحِ بين مِللِ دينٍ خاطئةٍ ومذاهبَ دَجَلٍ واطِئَةٍ، وجائرةٍ كاذِبةٍ كُلِّها وتحزبُ بي، ماخلا ملَّةَ أبينا إبراهيمَ وتلكَ مِلَّةٌ بمحجَّةٍ بيضاءَ زكيَّةٌ غالبةٌ تَشهبُ بي. وأرى بَساتِينَها خاويةً وتَعُجُّ بالتَّناطحِ بين ثيرانٍ قَبَليةٍ وعُجولٍ عَشائرية ترَاها لأهلِ السَّذاجةِ نَادبَة. ذاكَ تناطِحٌ مجٌّ يصخبُ بي. ثمَّ أرى سَلَاطِينَها عَاويَةً وتأجُّ بالتَّباطحِ بين أحزابِ صَعلكةٍ سِياسيَّةٍ مِن سبلِ الأصالةِ هَارِبَة، ولأهلِ السَّفاهَةِ جَاذِبة، وذاكَ تصعلكٌ يَعصِبُ بي. ثمَّ جَفَلتُ فُجأةً من جليسٍ هولنديٍّ بالجَنبِ في ذيكَ الطَّائرةِ السَّاربةِ، يقولُ وهوَ يَجذبُ بي:

"أظنُّكَ لن تَرى في فَدَادِينَ أمَّتِكَ طَوَاحِينَ، أبداً ولا مَوَازِينَ تَزنُ رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ بمَهابَةٍ". قولُ هذا الهولنديِّ ما إنفكَّ يعشُبُ بي. لكنِ الحقُّ معَه رُغمَ أنَّ قيلَهُ ثقيلٌ ويَقشِبُ بي، لأنِّيَ أبداً لن أجدَ في دروبنا رجلَ عِلمٍ مُحتَرمٍ أفخرُ بهِ ويشهبُ بي، فأذنابُ السَّلاطينَ: إمَّا صَلبوهُ في سَاعةٍ غَاربةٍ، إمَّا حَبسُوهُ في خَرابةٍ غَاضِبةٍ، وإمَّا صَيَّرُوهُ خَبَلاً طَوَّافًاً في الدُّروبِ كمثلِ كَلبةٍ من سَكارى الحَيِّ في لَيلٍ شتويٍّ مَذعورةٍ هَاربَة، فويلٌ لي في أمَّةٍ عالِمُها خَبَلٌ يَحُكُّ استَهُ في الدُّروبِ، ويلٌ لم يزلْ يُكَبْكِبُ بي. فهلّا بحَثْنا معاً بعُيونٍ هيَ للدَّمعِ ساكبةٍ، عنِ كلِّ كَلْبَةٍ عَلّامةٍ لكنَّها مذعورةٌ وهَاربة، فلا نَجاةَ لنا من كُلْبَةِ الدَّهرِ ولا قيمةَ لنا فيهِ إلّا في احترامِ وتقديرِ الكَلبةِ الهَاربةِ.

(ومعنى الكَلْبَةِ؛ الشّدَّةُ مِن كلِّ شيءٍ)، وكانتِ الكُلْبَاتُ في دروبِ أمتي مِن كلِّ حَدبٍ تضربُ بي.

عَوْ ! عَوُوُو!

***

علي الجنابي

 

في المثقف اليوم