أقلام ثقافية
يونس الديدي: الإنسان يموت عندما تختفي مكتبته

في قصته الرمزية “الفونوغراف الأزلي”، كتب خورخي لويس بورخيس جملة تختزل مصير الإنسان في العصر الحديث: “الإنسان يموت عندما تختفي مكتبته”. لم يكن يتحدث عن اختفاء مادي لرفوف الكتب، بل عن اندثار كينونة الإنسان المفكّر، عندما تُسلب منه أدوات الذاكرة، والتأمل، والربط، والتأويل. المكتبة عند بورخيس ليست أثاثاً ثقافياً، بل جهازاً وجودياً يصنع المعنى، ويمنح الذات هويتها التاريخية والرمزية. حين تختفي المكتبة، لا يغيب الحبر والورق، بل يغيب الإنسان بما هو كائن متسائل.
2- من الذات المفكّرة إلى الكائن المُدار
لقد دخل الإنسان، من دون وعي، عالماً تُديره خوارزميات، وتُسيّره آليات لا مرئية تتعقب سلوكياته، وتعيد تشكيل رغبته، وتُعيد برمجته وفقاً لمعطيات السوق. لم يعد الفرد كائناً يفكر، يقرّر، يتخيّل، بل صار يُدار عن بُعد بواسطة تقنيات التتبع والتحليل السلوكي التي تديرها شركات التكنولوجيا العملاقة. أصبح الإنسان مجرد بيانات رقمية، مادة قابلة للقياس، يتم التلاعب بها لأغراض تسويقية وسياسية. وهنا يموت الإنسان كذات حرّة، ويُبعث كـ”مستخدم” ضمن نظام تشغيل رأسمالي.
3. اقتصاد الألم وإدارة الجسد
التحوّل الأكبر لم يقف عند حدود الفكر والرغبة، بل تجاوزهما إلى الجسد ذاته. شركات الأدوية الكبرى لم تعد تسعى إلى علاج الإنسان بقدر ما تسعى إلى إدارة ألمه واستثماره. فالأمراض المزمنة تدرّ أرباحاً أكبر من الشفاء، والألم المستمر أكثر نفعاً من الراحة. نحن أمام اقتصاد مبني على وجع الإنسان، تتلاعب به شركات تسعّر الأدوية، وتتحكم في الإمدادات، وتنتج علاجات مؤقتة تبقي المريض في حالة استهلاك دائم. وهكذا يتحوّل الجسد إلى سلعة، والألم إلى عملة، والحياة إلى معمل تجاري مفتوح.
سحق الذاكرة وتحويل الروح إلى خوارزمية
في هذا السياق، لا يُمحى الجسد فقط، بل تُسحق الذاكرة. الإنسان لم يعد بحاجة إلى أن يتذكّر، أن يحلم، أن يتأمل؛ فالتقنيات الجديدة تعرض عليه كل شيء جاهزاً: ملخصات، إشعارات، مقاطع قصيرة، ترشيحات أوتوماتيكية. أصبحت الروح عبارة عن ذاكرة خارجية مخزنة على خوادم ضخمة، يحدد الآخرون ما يبقى منها وما يُمحى. وهكذا، تحوّلت الروح من كونها مجالاً للتجربة والعمق، إلى خوارزمية تُملى عليها اهتماماتها، وأذواقها، ومواقفها.
المكتبة: آخر معقل للمقاومة الرمزية
في مقابل هذا الانهيار الرمزي، تظهر المكتبة كملاذ لا غنى عنه. ليست المكتبة، في هذا السياق، مجرد مكان تُخزَّن فيه الكتب، بل هي معمار روحي ومعرفي يقاوم ابتذال الوجود، ويدفع الإنسان إلى التأمل، والمساءلة، والتخييل. في المكتبة، يعود الإنسان إلى ذاته؛ إلى الأسئلة الأولى، إلى الأنساق الكبرى التي تُفسر العالم. إنها الفضاء الذي يسمح له بالخروج من فقاعة الاستهلاك، والتفاعل مع نصوص لا تخضع للّحظة الرقمية، بل تُمثّل تراكمًا تاريخياً وفلسفياً يُغذّي المعنى.
القراءة فعل حرية… لا استهلاك
القراءة هنا ليست نشاطاً ترفيهياً، بل موقف وجودي. من يقرأ لا يُدار، لأنه يملك أدوات المقاومة: العقل، الخيال، اللغة، والذاكرة. القراءة تُبطئ الزمن، وتفتح نوافذ على احتمالات غير مفروضة، وتعيد للإنسان قدرته على قول “لا”. من يقرأ لا يكتفي بالتمرير، بل يسأل ويُعارض ويعيد ترتيب المعنى خارج حدود السوق.
أن تحيا بمكتبة… أن تبقى إنساناً
حين تختفي المكتبة، لا تغيب الكتب فحسب، بل يُمحى الإنسان ككائن رمزي، مبدع، متأمل. حين تُستعاد المكتبة، تُبعث الذات من جديد. المكتبة، بما تحمله من مخزون لغوي وفلسفي وأخلاقي، تُعيد للإنسان صورته التي شوّهها التسليع الرقمي والتفاهة المنتجة على نطاق واسع. إنها الحصن الأخير في معركة المعنى، وهي السبيل إلى النجاة من العدم الناعم الذي تفرضه الخوارزميات.
خاتمة: لا خلاص بلا ذاكرة
في زمن تسحق فيه الرأسمالية الرقمية الإنسان بين شاشات تُلهيه وأدوية تُبقيه ضعيفاً، تبدو العودة إلى المكتبة ليست فعلاً ثقافياً فقط، بل ضرورة وجودية. الإنسان الذي لا يتذكّر، لا يقرأ، لا يتأمل، لا يمكنه أن يكون حراً. وحين يموت المعنى، تموت الذات. وحين نحيي المكتبة، نمنح أنفسنا فرصة أخيرة لنكون بشراً، لا مجرد رموز في قاعدة بيانات عالمية
***
يونس الديدي - كاتب مغربي