أقلام فكرية

بين علم الكلام وفلسفة التاريخ .. مقطع من دراسات في فلسفة التاريخ

raheem alsaidiيتبادر إلى الذهن أحيانا ما هي المشتركات بين كل من علم الكلام وفلسفة التاريخ، وهل يمكن القول بتقاطعهما؟ ربما لا يبدو في ظاهر الأمر ملمح تقارب، ولكن الإمعان في الأمر يقودنا إلى تفاصيل ومقاربات مختلفة، ففي الطرف الآخر من التساؤل ربما أمكننا افتراض فلسفة تاريخ لعلم الكلام، والإجابة على هذا السؤال تعتمد على الجدوى من طرح هذه الآراء وعلى استدراج المعاني التاريخية المرتبطة بالكلام (وهذا ما تحدثنا عنه سابقا) والمتداخلة مع بعضها البعض وإذا أردنا فلسفة تاريخ لعلم الكلام كما نطمح لفلسفة تاريخ لبقية العلوم فيتوجب الفهم ان علم الكلام أيضا هو (فلسفة تاريخ الدين) أو هكذا يمكننا ان نطلق عليه (أو يتوجب)، ومع هذا فالحديث عن المفهوم الأول يعني إننا نتعامل مع سلسلة من الأفكار أهمها:

أولا: ان إدخال علم الكلام إلى دائرة فلسفة التاريخ يعني قراءة سير الأفكار ومناقشتها وإعادة تقيمها وتحليلها وفق المناهج الحديثة ووفق كونها مادة قابلة للتحليل والاستفسار وتسليط أدوات السؤال الفلسفية عليها (وهو العملية الأهم والأكثر صميمية، ومثال ذلك، ان الحديث عن القانون مثلا ليس فلسفيا ولا نطلق عليه فلسفة قانون أو سياسة أو دين ما لم تتدخل أدوات السؤال الفلسفي والتحليل والفتح منافذ الأسئلة، وهكذا يمكننا ان نحول الكلام الإسلامي إلى مادة أسئلة لقراءة تاريخيتها، فالذين يريدون قطع الصلة مع التراث والاتجاه إلى علم كلام جديد إنما (يريدون ان يخفوا الملابس والحاجات القديمة في صناديق حديثة ) وكان بالإمكان إعادة تأهيل تلك الحاجات أو الأفكار (بصورة دقيقة) بفلسفتها تاريخيا، أو فلسفة تاريخها، أو ارخنتها فلسفيا وحلحلتها اما إحالتها إلى التأجيل والإهمال فهو سلوك يضيع الوقت ولا يحل القضية .

ثانيا: ربما يعد علم الكلام الجديد بمثابة فلسفة جديدة لتاريخ علم الكلام أو فلسفة تاريخ الدين أو هو إعادة تلميع الكلام الإسلامي، ومع عدم إيماني الكامل بضرورة إعادة نشر الكلام الإسلامي من جديد إذا كان يتحرك بدافعية الفكر البلورالي ([1]) إلا انه يمكننا ان نمنهج عملنا باعتماد طريقة نبتعد فيها عن الخلافيات ونسأل من خلالها عن الجدوى من هذه البحوث ونتلافى الأخطاء التاريخية لبناء (الصح) من هذه الأفكار وإيقاف (الخطأ)، فالعملية تشابه تلافي أخطاء الدولة في فلسفة التاريخ وعلينا تلافي ضياع الكثير من الوقت التاريخي في علم الكلام والذي جر إلى احتقان المجتمعات وركودها إلا من زاوية الصراع .

ثالثا: الصراع في علم الكلام سار بطريقة ربما تتشابه في الحضارات فدورانية التاريخ والحضارة تقابلها دورانية المشكلة في علم الكلام ولكن لماذا ؟ لان الفعل الإنساني التاريخي وربما الغرائزي واحد، وأحيانا يكون الصراع جماعيا، فالمحرك في فلسفة التاريخ هو المفرد أو البطل و المنظر والمتفاعل هم الجماعة وهكذا في علم الكلام يبرز المحرك هو المنظر أو المفكر والمتفاعلين هم الجماعة التابعة للمنظر أو يكون المحرك هو الفكرة أو الحركة السياسية أو الدينية، وبشكل عام فان الصراع سنة ثابتة في كل من الجدل الكلامي للشعوب الإسلامية وفي فلسفة التاريخ أيضا، والسبب ربما واحد، لان هناك ما يشبه سيطرة البعض على الآخر بطريقة أو بأخرى فيحدث شد وجذب أو تحد واستجابة بين الطرفين لان القضية ترتبط بالهوية التي لا يجب ان يخسرها احدهم (لو تم التنازل عن بعض اسسها وتفاصيلها) وهي ترتبط بنزاع داخلي يصنعه الذاتية الكبيرة التي يتمتع بها كل شخص، ولهذا تجد ان من ينظر ويكتب في الكلام والفقه والقانون انما عبر عن استجابة لاحتياج ملته أو جماعته والمسالة هنا من زاوية ما، لا تتعلق بالإسلام فقط بل بالبلدان الأخرى التي لم تنقطع عن الصراع في جوانب الحكم وفلسفة التاريخ اما علم الكلام فان تلك الدول تبتعد عنه إلا انها تتجاذب السياسة أو الرئاسة بطريقة أو بأخرى وبصورة ذاتية لا يمكن إنكارها .

رابعا : كان يجدر بالتاريخ تبني القيمومة على نفسه وتجاوز دوره التاريخي كوسيلة وأداة وان يخرج من دائرة الهيمنة الخارجية لتكون علاقته مع العلوم الأخرى التي منها علم الكلام أو العقيدة وهي علاقة إفادة واستفادة وليست علاقة تحديد غاية أو غرض أو نتائج مسبقة ([2]).

خامسا: ان النتائج السلبية لآثار المذهبية في التاريخ قد حرم المسلمين من الوعي التاريخي . فصراع الفرق حدد غاية مسبقة تتعلق بانتصار كل فرقة لرأيها وإلغاء الآخر فتصارعوا ضمن منظومة تاريخ داخل الإنسان (الجبر والتفويض) دون الوعي لمشاهدة النتائج من خارج الصراع بنظرة شاملة عامة ([3]). وهو ما ينتمي لفلسفة التاريخ .

سادسا: في القران الكريم لا يمكنك غض النظر عن الكم الكبير من الأفكار التي لها مساس بفلسفة التاريخ ([4]) وهي تختلط بالآراء الكلامية والفلسفية والاجتماعية وغيرها، وقد ركن المسلمون إلى علم الكلام، فعمدوا إلى البحث الدقيق والجاد بغية إثبات ما يدافعون عنه، فكان بمثابة الحاجة التي دفعتهم إلى تقديم الكلام على فلسفة التاريخ ولم يكن الدافع لديهم معرفة الأفكار التاريخية المهمة في القران فقط، ويمكن تعليل ذلك بان دولتهم أو بلداتهم كانت مترفة إلى درجة انهم لا يحتاجون النصح التاريخي أو الأفكار التاريخية تلك، أو ربما وصفت تلك الأفكار في القران بأنها مشبعة بالصعوبة والضبابية أو حتى القول بان لا تاريخ مطول لديهم ليكتبوا عنه، وبالتأكيد ان ذلك غير صحيح فالإمامة كانت الشغل الشاغل لهم وهي قضية حكم (عند بعضهم) قبل ان تكون عقيدة، وما حال بين وعيهم المباشر لتأسيس فلسفة تاريخ هو الرغبة الذاتية أكثر من غيرها والصراع من اجل إثبات الذات المعنوية الفكرية والدينية والوجودية . وهذه وجهة نظر سايكلوجية أكثر منها نفسية

سابعا: يتحتم هنا القول بان هناك كتابات مبكرة حول فلسفة التاريخ تمثلت بفكر الإمام علي في نهج البلاغة الذي ينشط بموازات الجانب الديني والفقهي والعقائدي لديه . وذلك يعني بان الوعي بالتاريخ والسؤال التاريخي وحكمة التاريخ وجدت قديما في الفكر الإسلامي كما وجدت الإشكالات الكلامية أيضا .

وباستثناء الإمام علي (في بداية ظهور الإسلام) فإننا لا نلاحظ اهتماما كبيرا بحكمة التاريخ المفلسفة أو التاريخ المنتقد أو ذلك الذي نسلط عليه السؤال والاستفهام والتعليل والتفسير والمقارنة وهذا الأمر ربما تدراكه المسلمون عندما امتدت الفترة الزمنية للحكم الإسلامي وهي الفترة التي يمكن لنا ان نسميها، فترة التجريب السياسي (الذي يحاول الإفلات من القواعد التي أسست عليها دولة المدينة وهي مرحلة الحكم الوراثي) .

ففي زمن الإمام علي تبرز أفكار عديدة تتصل بحكمة التاريخ كما يدونها الكتاب الاستراتيجي (نهج البلاغة) ([5]) ومنها:

1.اثر الحمية (تتصل بالعصبية والتنظيير المعاكس لكلمة الإمام علي) في تغيير مصير الأمم الماضية (خطبة 190).

2.حديث عن سنن التاريخ (خطبة 190)

3.دورانية التاريخ (الدهر) خطبة 157

4.القران مصدر الأحاديث التاريخية خطبة 158

5.دعوة لمنهج معايشة الماضي ( كتاب 31)

6.الرخاء وطول الحكم سبب نهاية الطغاة خطبة 88

والكثير من الأفكار المتصلة بفلسفة التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة وفي كتاب العبر لابن خلدون تضمينات كثيرة لآراء الإمام علي .

 

د. رحيم الساعدي

 ...........................

[1] - وجهت نقدا الى الفكر التعددي البلورالي ومنه بعض الاسئلة التي تحاول معرفة،هل يريد هذا الفكر ان يفسر النص الديني بمجمله على أساس انه نسبي . الجواب سيكون انه يجب عليه ان لا يجزم - بحسب العلم وتطوره ونسبية العلم اليوم - بعدم وجود الإطلاق والمطلقية في النص .

 ايضا هل يعتقد الفرد -أي فرد- مع وجود نمط لا متناهي من المعارف، بان لديه المعرفة الكافية لفهم خارطة الدين والنص الديني . الجواب ان النسبية التي ينادي بها أصحاب التعددية سوف لا تقدم حلا ناجحا يتوافق مع الامتداد اللامتناهي للأفكار والعلوم والمعارف، وايضا لماذا الحديث عن الدين في منهجية التعددية، هل هي الدعوة إلى دين عالمي أم إلى تغليب دين على دين أم نقل أخطاء دين ( ما) وقياسها على دين آخر أم تحطيم المرتكزات الأساسية والثوابت الخاصة بالدين الإسلامي.

ثم هل نحن بحاجة إلى تحريك بحار الدين، وما الأهداف التي سنحصل عليها، والجواب ان ما نحصل عليه هو تشغيل اسطوانة قديمة لا يعتقد الفكر الغربي (ذاته) بأهميتها وهي الاسطوانة الكلامية التي غالبا ما يحركها وفقا لمحاولة الإسلام الالتفات إلى الأكثر أهمية من المعارف أو الالتحاق بالأفكار الحديثة على الساحة العالمية، فلماذا لا تأخذ هذه الأفكار الحيز المماثل في الفكر الغربي ؟ الجواب أيضا لأنها قضية دورانية يكون القصد منها التشكيك الذي يتبناه من يفتقر إلى نموذج مفيد آخر للتطور ومناقشة أفكار مختلفة، والغرب يمتهن التطبيق والعمل، وهو لا يقف طويلا ليحلل القضايا الدينية أو انه لا يؤمن بمطلقية النص الديني، وهو يعلم تمام ان المدخل لتبديل افهام المسلمين هو تبديل الثابت الذي يعارض الكثير من اهدافه .وانشغالهم بما يتلائم وميولهم الجدلية .

 وعلى هذا الأساس ألا يوحي مفهوم علم الكلام الجديد بهذه الصورة بأنه تحريك للغرائز وتنمية للجدال الذي ربما لا نحتاجه أكثر من حاجتنا إلى الفكر الفلسفي والتطبيقي منه .انظر د.رحيم الساعدي، نقد الفكر البلورالي، موقع النور http://www.alnoor.se/article.asp?id=216231

 [2] - حسن سلهب، علم الكلام والتاريخ، 57 .

 [3] - حسن سلهب، علم الكلام والتاريخ، ص70 .

 [4] - يمكن القول بهذا الصدد، ان ابن خلدون لم يهمل القصص القرآني، وعاقبة كل أمة، كما فصلها الوحي الكريم، بل إننا نراه - في المقدمة وفي العبر - على وعي كامل بالقصص القرآني، والعبر المستخلصة منه، سواء في جانب الرخاء، والنعمة، والأمن، والنصر، وغيرها من ثمار الإيمان، والالتزام بشريعة الله، أم في جانب الترف، والظلم، والانحلال، وغيرها من مظاهر البعد عن الشريعة والكفر بنعمة الله، والعواقب الحتمية الوخيمة - مهما طال الزمن - لهذه السلوكيات الجالبة لغضب الله، والمدمِّرة للحضارة، بل إنني أرى أن ابن خلدون قاس الدولة (أو الدورة التاريخية ) قياسًا كاملاً على عمر الفرد، ومراحل تطوره، على ضوء الآية القرآنية الكريمة: ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54) انظر د.عبد الحليم عويس، الأصول الإسلامية لنظريات ابن خلدون،شبكة الالوكة http://www.alukah.net ومع هذا نجد من يشير الى ان ابن خلدون يطرح تصورا يقوم على اساس الخضوع للضرورة الطبيعية من جهة والنظام الدوري من جهة اخرى فهو لا يعتقد بان التاريخ تجل للقدرة الالهية انظر حسن سلهب، علم الكلام والتاريخ،ص68.

 [5]- حول هذا الموضوع ينظر محمد عبده، شرح نهج البلاغة للشريف الرضي وهو المختار من كلمات الامام علي، 4 أجزاء، بيروت .

في المثقف اليوم