أقلام فكرية

بين منطق أرسطو ومنطق العالم الآخر (2)

raheem alsaidiتحدثت في مقال سابق عن تشابه واختلاف بين منطق أرسطو ومنطق العالم الآخر مستندا الى نصوص أرسطو التي وردت إلينا والى نصوص القران الكريم التي تزخر بجانبها الميتافيزيقي الأخروي، وهي محاولة يمكن تنميتها لتشبه ما قام به الغزالي باستنباط أشكال القياس وصوره من القرآن الكريم، وتبين ان بعض المقولات أو الأسس المنطقية بين الجانبين تختلف ويتشابه بعضها الآخر .

ان الحديث عن العالم الآخر هو أكثر الأشياء واقعية ولا ينتمي الى جانب الطوباويات، وحتى مع تجنب احد أهم الشذرات العرفانية التي تقرر ان الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فان الواقعية التي يسحبها العالم الآخر من لحظتنا الراهنة، تتمثل بوصفها واقعية بعيدة المدى أو واقعية الغاية أو واقعية الحتمية أو الهدف أو النتيجة أو فهم التجربة التاريخية وكلنا ننتظر العبور الى تلك الواقعية، فان طلقناها أو سخرنا من حتميتها فذلك يعني لا واقعية التعامل مع المصير الذي جربه غيرنا منذ آلاف السنوات واستعد بعضهم له بغض النظر عن نوعية الاستعداد من بناء قبور الأهرام أو التعبد الحقيقي أو الزائف .

أظن بان الاعتراض الذي قد يساق في هذا المجال والذي يُتَصَوَر منه أن لا جدوى من مقارنة بين المنطق الواقعي والمنطق المفترض (عالم الآخرة الخلاب) أو الذي يشار إليه بالنص والتغير والاختلاف ونحن لم نجربه بعد، ويحطم قوة هذا الاعتراض هو العالم الواقعي الآخر والشبيه بالعالم الأخروي والمتعلق بالفضاء الخارجي الذي تختلف بعض مقولاته ومنطقه أيضا لخروجه عن أسس الطبيعة التي نعرفها بعالمنا الأرضي، والذي أصبح أمرا ملحا بعد محاولات غزو الفضاء ولهذا فان منطق أرسطو ببعض الأجزاء يعجز عن التعامل مع ذلك العالم، هذا بالإضافة الى العالم المنطقي الالكتروني، الذي لم يتحقق بعد والمتمثل بالتطور العلمي المدهش والذي يحول الاستحالات الى حقيقة مدهشة والى تكثيف الزمن وتداخل الأمكنة وتبدل منظومة الإضافة والملك وسواها من المقولات المنطقية باعتماده على آلية الأخلاق التطبيقية التي بدأت بالنظر الى تبني الآلة للإنجاب أو الى إيجار الأرحام بالإضافة الى التغيرات الأخرى بسبب العلم . وما يهمني هنا هو إكمال اختلاف المقولات بين منطقي أرسطو ومنطق العالم الآخر، ويمكن القول :

إن مقولة الاين الأخروية هي غير محدودة، وتبدو في منطق أرسطو بشكلها الجزئي محدود اما في المنطق الآخر فهي شاملة، والاين هو هيئة تعرض الجسم بسبب نسبته الى المكان وكونه فيه، وهو سؤال عن مكان ويسمى أينا مثلما يكتب أصحاب المنطق لوقوعه جواب الاين، وفي المنطق الأخروي سوف تختلف النقلة بشكل عام لذا سيختلف الاين بشكل جذري فالنقلة هناك بشكلها الأولى تعد مقيدة ومسيرة ثم لا تلبث ان تصبح فيما بعد مفتوحة وسوف تختلف عن آلية أين المنطق الأرضي لخضوعها لامتيازات العالم الإلهي الخالد . والاين الأرسطي إذا كان بنوعيه الأول مثل وجود الماء في البحر والثاني غير الحقيقي مثل وجود سالم في البيت فانه سيختلف عن (أين) يمثل وجود اللبن في الأنهار والأشجار وسط كثبان المسك أو طيران الإنسان في عالم الجنة أو نقلته المهولة بشكل سريع، أو تداخل الأزمنة والأمكنة أو (أين العقوبة) المتمثل بالنار و(أين الجائزة) المتمثل بالجنة، ويبدو ان للأمكنة في العالم الآخر نفس الملامح التي نراها في ديكور المنطق الأرضي فهي تجسيدات يمثل اغلبها الطبيعة ولكن بلمسات تركيبية اعجازية أو غير مألوفة .

ويمكننا فهم بقية المقولات على هذا النحو كما في مقولة المتى، الوضع، الملك، الفعل، الانفعال والتي يمكن مقارنة تشكيلها بتشكيلات الآخرة المختلفة .

وبشكل مختصر وعجول يمكن الإشارة الى بعض الاختلافات بين منطقي أرسطو ومنطق العالم الآخر أو توافقهما .

1. إن أحداث (تجميع ذرات الأجساد وإحياء العظام وهي رميم التي تنتمي الى العالم الآخر، ويوم تبدل الأرض غير الأرض التي بينها القران و تجمع الأرواح في أماكن معينة وبعث من في القبور)، لا تنتمي الى منطق العالم الأرضي الأرسطي . خذ مثلا قوله سبحانه (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ . وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ . وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ . وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (التكوير – 29) هل يمكن لمنطق أرسطو التعامل مع هذه الصور المتعلقة بمنطق العالم الآخر أو ما تعلق به .

2. العلل الأربع الأرسطية المادية و الصورية و الغائية و الفاعلة لها وجودها في منطق العالم الآخر.

3. كل شيء محدد وجاد واستقرائي في منطق العالم الآخر، وقواعد البيانات لا تترك شيئا، وتستند على المعطيات المنطقية الأرضية من قدرات الإنسان المتفق عليها وحرية إرادته واختياره ونوعية الفعل والسلوك الذي أنتجه والذي يخضع لقواعد السلوك التي اتفق عليها بوساطة قواعد المنظومة الدينية الصحيحة أو القواعد العقلية التي يتعارف عليها العقلاء .

4. على هذا فمجالات الحرية معدومة تقريبا في بداية الأمر، والفرد بانتظار فرز حصيلة أفعاله السابقة، لان لا فعل جديد له، اللهم إلا ذلك الذي يتصل بمساحة رحمة وهبها الله له وهي تخص الولد الذي يدعو أو العمل الصالح أو الصدقة الجارية، كما يرد في النص الديني .

5. سيكون الجزء المهم في تعريف الأشياء في العالم الآخر هو وجود هوية وماهية وملامح ثابتة للأفراد لهذا فان الصورة ستكون ملازمة للمادة في العالم الآخر .

6. إن مفهوم (لهم فيها ما يشتهون)الأخروي الذي أشار له القران يمثل أساسا مختلفا لأسس المنطق الأرضي، بل يمثل الثيمة الملازمة لبيئة ومنطق العالم الآخر، مما يعني الدخول الى مساحة ومنطقة الإعجاز وتبديل الكثير من القوانين التي تعارف عليها البشر في عالمهم الأرضي .

7. إذا كان منطق أرسطو يتعامل مع القضية وفق كونها صادقة أو كاذبة فان المنطق الأخروي يتعامل على هذا النحو،  في العالم الآخر سيصبح وجود الإنسان هناك بمثابة نوع من التصديق اما مرحلة معيشته بالعالم الأرضي إنما هو نوع من التصور

8. بعض قضايا القران في الدنيا أو الآخرة، تختلف عن منطق أرسطو على وفق الإعجاز، وهنا نحن نتعامل مع قضايا بشكل حدث او زمن او فعل، فقضية أماتهم ثم أحياهم أو صورة إبدال الجلود أو إحضار الأنفس أو أن تكلمهم أيديهم لا يمكن إدراجها بمنطق أرسطو إلا وفق كونها قضايا تختلف تماما عن منطق الأرض . ومع ان التناقض هو اختلاف القضيتين فان في الآخرة يرد انه(لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا) سورة الأعلى/13 .

9. التناقض، اختلاف القضيتين.. بحيث يلزم من صدق کل منهما کذب الأخرى.. و بالعکس. وفي العالم الآخر وحتى عالمنا يعطينا القران نماذج عديدة لنقض هذا الجانب كما في برودة نار إبراهيم، كلام الموتى، إحياء الميت ...الخ. كما ان القضية موجبة کلية (کل ميت.. لا تعود إليه الحياة) و(کل نار محرقة)!!. لکن القرآن الكريم يقول: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ).- سورة البقرة-259.

هذه بعجالة بعض الأفكار التي تتعلق بهذا الموضوع الحيوي والذي يصلح بمثابة عنوان لطلبة الدراسات العليا لغرض التوسع بالأفكار واقتحام تفاصيل العالم الآخر، وما زالت هناك مقارنات بين منطق أرسطو ومنطق العالم الآخر إلي نستند بتصوره على القران الكريم، كما في التصور والتصديق والمعرفة والقياس والاستدلال والقياس والبرهان، وكل ذلك وفق تغيرات بيئية او وجودية جوهرية يتداخل معها القدرة والإعجاز والآلية الدائمية الجديدة (الآخرة) لا العالم الوقتي المحدود، القلق، الذي لا يمكن لأحد الراحة فيه من دون شعور بفقدان الأمن الوجودي والنفسي والمستقبلي .

 

الدكتور رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم