أقلام فكرية

قضية للحوار: هل نحن فلاسفة!

يستشكل عدد كبير من الزملاء والمشتغلين بالدرس الفلسفي من الاكادميين اليوم على توصيف انفسهم أو زملائهم من الاكادميين المختصين بالفلسفة وصف فيلسوف. وينسحب هذا التردد في اطلاق الوصف على اساتذتنا رواد الدرس الفلسفي.

يستعمل الجريئُ منهم احيانا الفاظاً (ولا أقول مصطلحات) من قبيل يتفلسف أو متفلسف، حين يقرأ أو يسمع رأيا ينم عن فكرة طريفة أو معالجة لمسألة فلسفية فيها جدة . في مقابل ذلك نرى عند زملاء آخرين سهولة إطلاق هذا الوصف حتى على أناس لا علاقة لهم بالفلسفة ولا هم من المشتغلين فيها. ربما يكونوا مبدعين في حقولهم المعرفية (في القانون أو العلوم السياسية أو الاجتماعية وربما في اللغة وآدابها. الخ) ولكن لا علاقة لهم بالفلسفة ومشكلاتها وهمومها ومسائلها ولا من المطلعين اطلاع المختص على مدارسها وتياراها.

أن وضع حد ومعيار لمفهوم الفيلسوف ومن يشمله هذا الوصف أمر يشغلني منذ مدة ليس بالقصيرة وهممت على طرحه للحوار أكثر من مرة. وصار أمر طرحه واجباً بعد أن سمعت تحفظاً من بعض الزملاء على وصفي لمدني صالح بالفيلسوف في إحدى مقالاتي عنه. إذا لم يكن مدني صالح فيلسوفاً ؟ إذاً من هو الفيلسوف؟. وما هو حد وشروط حامل هذا الوصف؟؟. ولماذا نقيم مؤتمرات تحت عناوين من قبيل (المشهد الفلسفي في العراق أو الوطن العربي) ولدينا جمعيات وإتحادات للفلسفة ؟؟. من هم المنتمين الى هذه الجمعيات أو الاتحادات اذا لم يكونوا فلاسفة؟؟.

سؤال أتمنى من الزملاء الاكادميين المختصين بالفلسفة أو المعنيين بها مشاركتي بالحوار عسى أن نصل الى حد أو تعريف قريب لمفهوم الفيلسوف.

سمعتُ يوماً الدكتور نصيف نصار الفيلسوف - وانا لا أتردد في اطلاق هذا الوصف عليه وعلى من كان بوزنه وعلى شاكلته وكما سأوضح مبررات ذلك لاحقا - اللبناني معلقا على هذه المسألة في إحدى مؤتمرات بيت الحكمة البغدادي . يقول بما معناه: لماذا لا نتردد حين نصف شخصاً كتب قصيدة وحتى مجموعة قصائد بوصف شاعر ؟؟. لدينا المتنبي والمعري والجواهري والسياب ولكن ليس كل من كتب شعراً هو بوزن هؤلاء الكبار ولا قريباً من مرتبتهم. ويخلصُ نصار الى تعريف للفيلسوف يشمل تقريبا المشتغلين بالفلسفة في اقسامها والمهتمين بمسائلها ومشكلاتها بحثا أو تدريساً. أعجبني طرح نصار حينها وإن لم أكن مقتنعا تماما بجوابه حيث كنت أعلم أن عدد من التدريسيين في اقسامنا، ليس بالعراق وحسب، بل في عالمنا العربي ايضا. هم ليسو أكثر من ملقنين يحفظون عن ظهر قلب موادهم الدراسية يلقنون بها طلابهم ، لكنهم غير قادرين على النقد والتحليل والمقارنة. قد يكونوا حافظين لأراء غيرهم ونقودهم ولكن لا رأي لهم فيما يقال . هل يصح أن نطلق عليهم هذا التوصيف ؟ وهو فاقد لأهم شرائطه ؟؟. وهي القدرة على التجريح والتحليل والنقد، وكل مؤهلاتهم أن القدر ساقهم الى حيث لا يتمنون ولا يرغبون ولكنها لقمة العيش ومقتضيات المعيشة. أعتقد أن كلا الرأيين فيهما افراط ومبالغة . والامر يحتاج الى كما اشرنا الى حد وتعريف. وهذا ما نأمل تحقيقه بالحوار والمناقشة في هذا المقال.

جذور المشكلة:

ان مشكلة حد الفلسفة وتعريف الفيلسوف مشكلة لها جذورها في ثقافتنا العربية الاسلامية وصلت الى التشكيك بوجود فلسفة عربية اسلامية. يقول الشهرستاني في كتابه الملل والنحل (إن الاصل في الفلسفة والمبدأ في الحكمة للروم وغيرهم كالعيال عليهم) ويقول ايضا في الموضع نفسه، إن فلاسفة الاسلام (قد سلكوا لحلهم طريقة ارسطو طاليس في جميع ما ذهب اليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما رأرو فيها راي أفلاطون) ويذهب ابن خلدون قريبا من هذا الرأي ايضا حيث يقول في مقدمته ان ارسطو هو امام الفلسفة لانه (أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها واحسن بسطها ... ثم كان من بعده في الاسلام من اخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل). وموقف اغلب مؤرخينا من الرازي الفيلسوف لا يحتاج الى تعليق او تذكير فهو ليس عندهم اكثر من طبيب بارع حاول اقحام نفسه في علوم الحكمة وما فلح أي لم يتم الاعتراف به فيلسوفاً مسلماً مثل الكندي والفارابي وابن سينا. وتجاوز الاشكال من وجود فلسفة وفلاسفة مسلمين الى الحكم على المشتغلين بها. وقد فصلنا القول في هذه الاشكالية ومعالجتها في كتابنا (اشكالية الفلسفة في الفكر العربي الاسلامي : ابن رشد إنموذجاً) وخلصنا الى نتيجة تبين سبب اختلاف مواقف فلاسفتنا ومؤرخينا القدماء من الفلسفة والفلاسفة وهي اختلافهم في تحديد مفهوم الفلسفة ومن ثم الفلاسفة وهم بعامة ينقسمون الى قسمين: القسم الاول : يضع معيار انكار النبوة والديانات شرطاً لمفهوم الفلسفة وحداً للفيلسوف عن غيره. فالفسفة عند اصحاب هذا المعيار هي ليس فقط ذلك التيار الفكري الذي يعتمد النظر العقلي والبرهان منهجا لتحصيل المعرفة وتحقيق اليقين وانما يجب أن لا يعتمد على ملة من ملل الانبياء. وعلى ضوء هذا المعيار يكون حكماء اليونان فلاسفة في حين لا يجوز تسمية حكماء الفرس أو المسلمين أو المسيحيين بالفلاسفة. يمكن أن نسميهم حكماء لكن لا فلاسفة والتسمية تطلق مجازاً. اي بمعنى انهم يفرقون بين تسمية حكيم وفيلسوف. يقول صاحب كتاب كشف الضنون حاجي خليفة (إن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بماله من صفات الكمال والتنزه عن النقصان ... والطريق الى هذه المعرفة من وجهين إحداهما طريق اهل النظر والاستدلال وثانيهما طريق أهل الرياضة والمجاهدات، والسالكون للطريقة ألاولى إن التزموا ملة من ملل الانبياء عليهم الصلاة والسلام فهم المتكلمون وإلا فهم الحكماء المشاؤون. والسالكون للطرقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الاشراقيون فلكل طريقة طائفتان) .

أما القسم الثاني فهو الاتجاه الذي يرى إن معيار التفلسف هو فقط العقل وطول النظر والاستدلال والبرهان ولا يشترط انكار النبوة حداً للتفلسف ولا يرى اصحاب هذا الاتجاه تقاطعا بين العلوم الملية والعلوم البرهانية الفلسفية فكلاهما ينطق بالحق ويسعى الى طلبه وان اختلفوا في طريق الوصول اليه وتحصيله. فالاولى اي الفلسفة تعتمد العقل وطول النظر أما العلوم الملية فتعتمد على الخبر والسماع والنقل فقط ولا اثر للعقل إلا في ربط الفروع بالاصول. واصحاب هذا الرأي هم اغلب فلاسفتنا المعروفين كالفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وهويختلفون فيما بينهم في تفاصيل هذا الراي لا نرى ضرورة لذكرها هنا، ولا الكشف عن الاسباب الحقيقية وراء هذا الاختلاف لا بين القسمين ولا في تفاصيل آراءهما. ولكن اردنا التاكيد على ان هذه الاشكالية لها جذورها في ثقافتنا الاسلامية وما زالت مظاهرها بشكل أو باخر تتجلى في اراء المعاصرين من العرب المتخصصين بالفلسفة والمنتجين فيها كما ذكرنا في البدء.

حد الفسفة ومعيار التفلسف

ومن الواضح وغير المختلف عليه أن سبب هذا الخلاف يعود بالدرجة الاولى الى الاختلاف في تعريف الفلسفة وبيان حدها، فضلا عن الموقف من العقل واستقلال نشاطه والذي يعني بالنتيجة الموقف من الفلسفة سلبا أو ايجاباً. ويعلم المعنيون بها أن اختلاف الفلاسفة في تعريفهم للفلسفة يعود بالدرجة الاولى الى اختلاف مذاهبهم الفلسفية فكل فيلسوف يضع حداً لها يتماثل ويطابق توجهه الفلسفي فأرسطو مثلاً يحدها بالبحث عن الوجود بما هو موجود وابن رشد يحدها بالبحث عن الوجود من جهة دلالته عن الصانع (الخالق) وهيجيل يحدها انها البحث في تجليات الروح وسيرورتها نحو المطلق وهكذا. ولكن يمكننا أن نصف مشتركات فعل التفلسف أو نشاط الفيلسوف فالنقد والتحليل واعتماد العقل والمنطق مرجعيات للفيلسوف وهكذا. أما الموقف من العقل ونشاطه والدعوة لاستقلاله فهي مسألة تنويرية تدخل في صميم دعوتنا للاعتراف بوجود العقل ونشاطه الفلسفي ووجود فلاسفة بيننا يمارسونه بحق وليس ادعاءً، وهي دعوة لتجاوز الموقف السلبي التراثي منه والذي اشرنا له في أعلاه. واجمالاً في رسم حدود عامة تصف نشاط الفيلسوف كما يرى حسام محي الدين الالوسي ومدني صالح يمكننا تعريف الفلسفة بالآتي {الفلسفة هي موقف نقدي واعي مؤول للمعارف يهدف الى تقوية موقع والدفاع عنه}. وكما يقول الالوسي أن لكل انسان وعلى اختلاف مستوى وعيه له موقف من مظاهر الوجود المختلفة. وهذا يعني عنده أن كل انسان هو فيلسوف بدرجة من الدرجات. ولكن ما يميز موقف الفيلسوف عن غيره، هو أن هذا الموقف هو موقف نقدي. فالفيلسوف لا يُقلّد بمواقفه. وإن وافق الاخرين، يكون بعد مراجعةٍ وتحليلٍ ونقدِ مرجعيات الموقفْ. وهنا يحضرُ الوصف الثاني، وهو وجوب الوعي بهذا الموقف. ومن مظاهر وتجليات وعي الفيلسوف، وحدة الموقف من تنوع، وتعدد الحالات والظواهر المختلفة. فالفيلسوف ينطلق في مواقفه من مرجعية ثابتة واحدة. سبق أن تبناها عن وعي ودراسة ونقد وتجريح. أي مرجعية عقلية قد يكون هو من اسسها وحددها، وهم الفلاسفة الكبار رؤساء المذاهب ومتصدري القوائم، من وزنِ، افلاطون وارسطو والغزالي وابن خلدون وكانط وهيجل وماركس ونيتشة وكارل بوبر ... الخ، من اعلامٍ كبار نملأ بهم درسنا الفلسفي ونزين باسمائهم مقالاتنا وواجهات صحفنا ومجلاتنا. وقد يكون الفيلسوف متبني أحد هذه المرجعيات الفلسفية التي ذكرنا عن وعي وتمحيص وخيار بعد نقد. وهم الافلاطونيين والارسطيين والكانطيين والهيجليين والماركسيين ومنهم المجددين للمذهب الفلسفي أو المتمسكين بإصوله، وهم الاصوليين السلفيين. والفيلسوف المؤسس لمذهب أو التابع لمدرسة سابقة، يقوم عادةً، عند صياغة مذهبه أو اعادة طرحه، بتأويل العلوم والمعارف السائدة أو اعادة انتاجها بما يعزز موقفه الفلسفي ويعينه على تقوية موقعه في الصراع الفكري والفسفي، فضلا عن الصراع الاجتماعي والسياسي في مجتمع الفيلسوف وحضارته التي ينتمي اليها. وبكلمة اخرى أن فلسفة الفلاسفة هي محاولة للاجابة عن الاشكاليات الثقافية والحضارية التي ينتمي اليها الفيلسوف وإجابته تمثل موقفه الفلسفي من هذه الاشكاليات. هذا هووبايجاز وافٍ تعريف الفلسفة بحسب فهمنا لها. لنحاول الاجابة عن سؤال مقالنا الذي بدأنا به مقالنا بحسب هذا التعريف .

وبدأً أود اعادة طرح اجابة الدكتور نصيف نصار للمناقشة في ضوء تعريفنا السابق للفلسفة والفيلسوف. نعم نحن نصف كل خريجي كلية الهندسة بالمهندس ولا نرى ظيراً في هذا مثلما نسمي كل من يبني بيتا بنّاءً وقل مثل هذا في خريجي كليات الطب والقانون وكل المهن الاخرى فهي تخصصات مهنية وخريجوها يمارسون هذه المهن. ولكن هل يمكن ان نطلق وصف فنان مسرحي على كل خريجي كليات الفنون الجميلة ؟؟. هل يمكن فعلاً ان نصف كل من يكتب أو ينشر قصيدة وحتى ديوان شعر وصف شاعر أو كل من يكتب مقالة في النقد الادبي بناقد ادبي؟؟ أعتقد أن هناك تحفظات من اهل إختصاص هذه العلوم الانسانية فيما لو فعلنا ذلك. مخرجات هذه الكليات هم بالمئات سنوياً. ربما يجد عدداً منهم مجالَ عمله في اختصاصه اي في التعليم والتدريب. ولكن من لم يمارس التمثيل المسرحي أو السينمائي لا يمكن ان نسميه فنانا، كما لا يمكن ان نسمي حسام الالوسي شاعرا بالرغم من نشره لديوان شعر كما لا يمكن ان نصف من لم يمتلك معرفة علمية رصينة لنظريات النقد الادبي ولديه ذائقة ادبية وجمالية ولديه اعمال نقدية بالفعل ناقداً ادبيا لمجر نشرة مقالة أو دراسة بسيطة في النقد الادبي. وفي الفلسفة الامر لا يختلف كثيراً. فليس كل من يعمل في تدريس الفلسفة أو ينشر دراسات وأبحاث فلسفية تخصصية حتى وان كان خريج قسم الفلسفة ومن أرقى الجامعات العالمية فهذا يمكن أن نصفه استاذ فلسفة ومتخصص بالدراسات الفلسفية. أما الفيلسوف فهو ذلك المتخصص الذي يتبنى مدرسة فلسفية محددة عن وعي ودراية ومتمكن من ادواته المنهجية والمفاهيمية التي يعالج من خلالها موضوعاته مثل حسين مرة والطيب تيزيني اللذان يتبنيان المدرسة الماركسية وحاولا توظيفها في دراساتهم المعروفة ولديهم تصوراتهم الخاصة في قراءة مقولات هذه المدرسة تبنوها عن وعي وقصد. قد نخالفهم الرأي أو نتفق معهم في بعض المسائل ولكننا لا نتردد في وصفهم فلاسفة عرب لهم خطهم الفكري ومنهجهم المعروفين. وقل مثل هذا في عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وياسين خليل وحسام محي الدين الالوسي ومدني صالح ونمير مهدي العاني وغيرهم من اسماء لهم توجهاتهم الفلسفية ومناهجهم المعروفة واجتاهداتهم الفلسفية. هؤلاء فلاسفة مثلما نصف علي الوردي وحاتم الكعبي وعادل شكارة وقيس النوري بعلماء اجتماع ولا نتردد.

هذا هو رأينا بصراحة في مسألة مسكوت عنها أردنا من خلال اعلانها كسر حاجز التردد وطرحها للنقاش وهي دعوة تتضمن بعد التهادي الى رأي، تغيير عنوان المادة المخصصة في تدريس فلسفتهم من فكر عربي معاصر الى فلسفة عربية معاصرة كونه العنوان الانسب أو على الاقل ادخاله كعنوان ضمن مقررات مادة فكر عربي معاصر كون مضمونها اشمل.

 

دكتور فوزي حامد الهيتي

 

 

في المثقف اليوم