أقلام فكرية

بين التزاماتنا الدّينيّة وواجباتنا الأخلاقيّة.. انسـجام أم تضارب؟

علي رسول الربيعييطرح سؤال القيم مشكلات عمليّة في الحياة الاجتماعيّة يتطلّب حلّها إيجاد حالة من الانسجام بين الواجبات العامّة والالتزامات الخاصّة. فالأخلاق لها صبغة كونيّة باعتماد العقل أساسا للتّحسين والتّقبيح ومعيارا للتّمييز بين الخطأ والصّواب، وهي بذلك تشكّل الجزء المشترك بين كافّة الملل والدّيانات التي يضع الاختلاف بينها الباحث في مواجهة الواجب الأخلاقيّ بوصفه مشتركا بين عموم البشر. فالسّلوك الذي ينسجم مع الالتزام الدّينيّ في سياق الإيمان الكلاسيكيّ يمكن سوغه عقليّا فضلا عن تبريره بما يقوم عليه من أسباب دنيويّة. ولعلّ ذلك هو ما يدعو أتباع الملل والأديان إلى سلوك يراعي التّوافق والتّطابق مع المعايير الأخلاقيّة بوصفها تطلّعا إلى الكمال وتجسيدا للإرادة الإلهيّة.

لا شكّ أنّ المؤمنين يرون أنفسهم ملزمين بالأخذ بما تكشف عنه النّصوص الدّينيّة من أسس أخلاقية يعتقدون أنّها تجسّد بالفعل إرادة المتعالي. لكن كثير منهم، ايضا، يؤمنون أيضا أنّ تلك المبادئ الأخلاقيّة التّأسيسيّة حقائق ضروريّة لا تأتي من الله أو لا تعتمد على الإرادة الإلهية، كما يرى توما الأكوينيّ وغيره من الفلاسفة أنّ الأدلّة على تلك الحقائق لا تأتي من الله، أو لا تعتمد على الإرادة الإلهية. لذلك فإنّ فهم الالتزام الدّينيّ في علاقته بالأخلاق من خلال النّظر في خياراتها الرّئيسة التي تنسجم مع الإيمان الكلاسيكيّ يمكّن من اكتشاف كيفيّة الرّبط بين معايير السّلوك وبين الاعتقاد الدّينيّ. فالمؤمنون بالمفهوم التّقليديّ يرون أنفسهم كما سبقت الإشارة إليه أنّهم ملزمين بما جاء به النّصّ المقدّس من أوامر أخلاقيّة للاعتقاد بأنّ الخالق يملك سلطة أخلاقيّة مطلقة.

وعند البحث في علاقة الأخلاق بالأوامر الإلهيّة ينكشف نوعان من التّفسير، يُعنَى الأوّل بالتّفسير السّيمانطيقيّ المرتبط بدلالة الألفاظ، بينما يُعنَى الثّاني بالتّفسير الأنطولوجيّ/الفعليّ. فتمتلك التّعبيرات والمصطلحات الأخلاقيّة بالنّسبة للأوّل معنىً دينيّاً حيث نجد عن سبيل المثال أنّ الأخذ بسلوك يظهر التزاما أخلاقيّا هو "أمر من الله" تنزّلت به كلمات الكتاب المقدّس، لكن هذا التّفسير الظّاهريّ المتعلّق بدلالة الألفاظ في النّصّ المقدّس غير مقبول لسبب هو أن الشخص الذي ليس لديه تصور عن لله لا يمكنه أن يفهم المفاهيم الأخلاقية. أما التفسير الأنطولوجي/ الفعلي فهو يربط في القاعدة الأخلاقيّة بين صفة الإلزام وبين الأمر الإلهيّ ويذهب إلى أنّ إلزاميّة فعل ما يتوقّف على صدوره كأمر إلهيّ مباشر بنصّ قطعيّ صريح وجليّ أو بمعنى عامّ غير مباشر يستفاد من سياق ذلك النّصّ. لكن بالمقابل هناك راي مخالف يمكن التعبير عنه بمثال، أن هناك اسمان للشخص نفسه ولكننا لا نتعلم شيئًا عن طبيعة ذلك الشخص أو هويته من اكتشاف الاسم الآخر. وهذا ماسيكون حال أفتراض التطابق بين صفة الألزام وصفة الأمر الألهي.

فافتراض التّطابق بين صفة الإلزام وبين صفة الأمر الإلهيّ يقتضي التّكافؤ الفعليّ الأنطولوجيّ أي أنّه يقتضي تكافؤا على المستوى الميتافيزيقيّ في طبيعة هذه العناصر. بينما قد نجد على مستوى التّعبير اللّغوي المستعمل لتوصيف تلك العناصر ما يحتمل الإلزام والجواز في نفس الآن، وعندما يصبح تفادي الخطأ ملزما ويصير القيام بالصّحيح غير ملزم تصبح فكرة الأمر الإلهيّ فارغة من أيّ معنًى.

طبقاً للتفسير السيمانطيقي فيما يخص الأوامر الإلهية يمكن أن يكون لدى شخص تصور عن الله ولكنه يعتقد في الوقت نفسه أن الله لاينكر أن هناك شئيا الزاميا وموضوعيا. وعنئذ تصبح فكرة ما يأمر به الله فارغة المعنى.

أمّا بالنّسبة للثّاني فلا يتطلّب مفهوم الإلزام من وجهة نظر التّفسير الأنطولوجيّ/ الفعليّ أن يكون دينيّاً على الرّغم من أنّ الفعل الإلزاميّ يمكن أن يكون صادراً عن إيمان إلهيّ، حيث يبقى ممكنا بالنّسبة لشّخص ليست لديه القدرة على التّعامل مع النّصّ المقدّس لذلك الإيمان قراءةً وفهمًا وتصوّرًا معرفةُ أنّ الفعل ملزم أخلاقيّا حتى وإن لم يعلم أنّه أمر إلهيّ. فمماثلة الأخلاق بالصّفات والخصائص الدّينيّة لا تمنع بحسب الواقع كما بحسب المنطق العقليّ تعدّد وتنوّع المعرفة التي تمكّن من فهم الصّفات الأخلاقيّة. ألا يرغب الله في أن نحصل على طرق عديدة للتعرف على التزاماتنا والكشف عنها؟ هناك أسباب عديدة تدعو إلى الاعتقاد بأن الله يريد لنا ذلك. فوجود طرق غير دينيّة لتعرّف الالتزامات قد يفضي إلى تعزيز احتماليّة السّلوك الصّحيح لكلّ من المؤمنين وغير المؤمنين؛ ويمكّن كلّا منهم من الحصول على المزيد من طرق اكتشافها. وبالنّسبة للمتديّنين منهم فإنّ تنوّع تلك الطّرق ينمّي الدّافع ويحرّض على فهم تلك الالتزامات حتى وإن لم يكونوا على علم بها؛ كما قد يساعد أيضًا على تحديد ما تقتضيه الأخلاق من إجراءات في الحالات التي يكون فيها هذا الأمر غير شائع وغير واضح. وبالمناسبة فإنّ سبب عدم الوضوح يرجع إلى ما يتبنّاه الشّخص في حياته الشّخصيّة من منظور أخلاقيّ قد تبدو له من خلاله الاعتبارات المؤيّدة والمعارضة متساوية، كما قد يتعلّق عدم الوضوح بفهم الالتزامات الدّينيّة أو للتّعارض مع مقتضيات الصّيرورة، أو لأي سبب غير محدّد بما فيه الكفاية. سيكون ثمينًا وربّما ضروريًّا بالنّسبة لأيّ شخص مهتمّ بتفسير السّلوك الأخلاقيّ وتبريره الحصول على أكثر من منظور واحد يمكن أن يضعَ من خلاله إطاراً لتفسير أو تبرير الفعل الأخلاقيّ. ومن النّاحية العمليّة سيكون ممكنا بالنّسبة لأنصار وجهة النّظر الأنطولوجية/ الفعلية للأوامر الإلهية أن يكونوا كمنظري القانوني الطبيعي، فينظروا إلى القضايا الأخلاقية من خلال مفاهيم أو عبارات غير دينية، كما يمكنهم أن ينظروا لهذه القضايا مثلما ينظر إليها أولئك الذين يأخذون الخصائص أو الصّفات الأخلاقيّة مستقلّة عن الإرادة الإلهيّة.

إذ تغدو الإشارة إلى طريقة الجمع بين الالتزام الدّينيّ وبين وجهة النّظر الأخلاقيّة معقولة بل ضروريّة للتّقريب بين العلمانيّين والمتديّنين القائلين بأخلاقية الأمر الإلهيّ، وتسهيل التّواصل والنّقاش في المسائل الأخلاقيّة بين المتديّنين وغيرهم. لأنّ هذا التّسهيل والتّواصل والتّقريب يؤدّي إلى تقويض الاعتراض على عقلانيّة الإلزام الدّينيّ المتمثّلة في المعضلة المعروفة باسم إيوثيفرو Euthyphro.

لدينا إذن نظريّة تتمّ من خلالها مطابقة الالتزام الأخلاقيّ للأفعال بالأمر الإلهيّ، ولدينا أيضا أساسا ضروريّا لهذه الأوامر يمكّن أن نفهم على ضوءه كلا من عصمتهم وأساسهم في أنواع معينة من الخصائص الطبيعية. هذه الخصائص الطّبيعيّة هي نفسها تلك المفاهيم الأخلاقيّة التي تُفهم في العادة خارج السّياق الدّينيّ، والتي يمكن أن يتحقّق على ضوئها الانسجام مع الأوامر الإلهيّة حتى من دون الاعتماد على الاعتبارات الدّينيّة، كما يمكن أن يكون أساس خاصيتها الأخلاقيّة أمرًا بديهيًّا وضروريًّا أيضًا بسبب ما يسمح به تحديد إسنادها الطبيعيّ من إمكانيّة للفهم ضمن نظريّة يكون أساسها تجريبيًّا. ولمواجهة أيّ سؤال حول كيف يحافظ هذا الرأي على حرية الله، أو التّدخّل الإلهيّ كحقيقة ضروريّة. فأن هذا النوع من الأسئلة يواجه بالجواب القائل أن الله لا يحدد الحقائق الضرورية. وعنئد لا أرى سببا للأدعاء أن الله سوف لايكون حرا في أن يأمر بما هو إلزامي وحتى بما يعتبر إلزاميا بذاته، والأدعاء الأخر بأن الله ليس كلي القدرة بسبب عدم قابلية الحقائق الضرورية للتغيير.

يؤكّد هذا الرّأي على الانسجام بين الالتزام الدّينيّ وبين استقلاليّة الأخلاق، وهي وجهة نظر إبّستيمولوجيّة تقول بإمكانيّة تبرير القيم والحقائق الأخلاقيّة الإيمانيّة على أساس علميّ وواقعيّ دون اللّجوء إلى المعايير والمقولات الدّينيّة وهو ما لا يستلزم قطعا الفرضيّة الأنطولوجيّة القائلة بوجود الواجب الأخلاقيّ من غير إسناد دينيّ يعتمد على تدخّل الأمر الإلهيّ. ولعلّ حجّة وجهة النّظر الإبّستيمولوجيّة هذه، تقضي بأنّ الحكم الأخلاقيّ ليس معزولا عن إرادة الله القادر على خلق التزامات من خلال أعمال معيّنة إمّا بوصفها أوامر تتطلّب الطّاعة، أو باعتبارها نعما تقتضي الشّكر والامتنان. أمّا بالنّسبة لوجهة النّظر الأنطولوجيّة فإنّ القضايا الأخلاقيّة يمكن أن تكون صحيحة وحقيقيّة في العالم من غير التّدخّل الإلهيّ، كما يمكن أن تكون متوافقة مع جملة من الالتزامات الدّينيّة القويّة التي تجعل الالتزام الأخلاقيّ متطابقًا مع الأمريّة الفعليّة. وعلى أساس هذه الاعتبارات، وبشرط أن يفسح المجال المناسب لقيمة الشّخص وللحرّيّات الأساس يمكن أن يكون الالتزام الدّينيّ ليس منسجما فقطّ مع النّظريّات الأخلاقيّة المختلفة كأخلاق الأوامر الإلهيّة، أو الأخلاق الكانطيّة، أو الميتا-أخلاقيّة التي تنكر قدرة "الأحكام الأخلاقيّة على أن تكون صحيحة بشكل موضوعيّ باعتبار أنّها تصف بعض سمات العالم"، ولا تعبر عن قضايا، وبالتالي لا يمكن وصفها بالصّحيحة أو الخاطئة؛ ولا يمكن دمجها مع عدد من الآراء المعياريّة. لذلك لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد باستحالة أن يسترشد شخص ذو التزام دينيّ قويّ بالنّظريّات العلمانيّة الكبرى في المسائل الأخلاقيّة.

رغم التّحفّظ على نظريّة الأوامر الإلهية فيما يتعلّق بالأخلاق فإنّني من ناحية أعتبرها فكرة جيّدة بالنّسبة لأنصار الرّؤية الإيمانيّة ممّن يرون أن الله مصدر المعايير الأخلاقيّة، وأنّ الدّين مركز أساس لكلّ الالتزامات العمليّة، ومن ناحية أخرى، لا يمكن اعتبار الحقائق الأخلاقيّة الأساس حالة مشروطة واحتماليّة. مع أنّ الإبقاء على النّظر إلى الله كذات متعالية وسلطة معصومة في المسائل الأخلاقيّة تستوجب الطّاعة والإرضاء كأساس تحفيزيّ ومعياريّ للالتزام الدّينيّ؛ ولا يحتاج الله إلى إرساء مبادئ أخلاقيّة في الطريقة التي تحدّد بها الأنماط الطّبيعيّة في احتماليّتها وإمكانها كمحور رئيس للطّاعة؛ إذ أنّ هناك العديد من الطرق للتعرُّف على تلك المبادئ حتى بالنّسبة لأولئك الذين لديهم الأسباب الوجيهة للالتزام بها بوصفها دينا مع أن لا شيء يشير في الواقع إلى أنّ الورع والتّقوى يلزمان الأتباع بالأخذ بنظريّة الأوامر الإلهيّة كحقيقة خارج أيّ نقاش. فالالتزام الأخلاقيّ ممكن أيضا مع اعتبار الحقائق الأخلاقيّة الأساس حقائق قبليّة، ضروريّة يمكن تصوّرها والوصول إليها عن طريق العقل والحدس الأخلاقيّ. وبتصوّر الالتزام الدّينيّ على هذا الأساس لا يضيّق الإيمان الكلاسيكيّ في مجال الأخلاق بشكل غير مبرّر الاختيارات النّظريّة والمعياريّة، ولا يؤدّي بالضّرورة إلى أحكام مسبقة أو سلوك يشكّك في الأسس العلمانيّة الأكثر صرامة المتعلّقة بعقلانيّة الأخلاق.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ - جامعة ابيردين

 

في المثقف اليوم