أقلام فكرية

اشكالية التـأسيس النظري للتعددية في الفكر الإسلامي

علي رسول الربيعييَبدْو من الراهنِ فَتح أفق القول على مسألةِ التأسيسِ المعرفي والتاريخي تجاهُ إشكاليًة التعددية و حضورها على مستوى اٌلسيًاق التَماْثليً للفكرِ الإسلامي، وسياقهِ اللامُـتَماثلِ أيضا. أيً فيما يَتَعَلْقُ بالمكْوًنِ والبنيةِ الفكريةِ، وبالحقلِ السياسي، والإطارِ الإجتماعي، ومواقعيـًةِ الحدثِ المُتَوَلًدُ عن تَمفصًلِ علاقاْتِهما لبَلوَرةِ رؤيةِ فكريةِ وممارسةً عمليًة تـنْسَجمُ ومُتطلبات صيًرورةِ المجتمعاتِ في السياقِ الإسلامي حاضراً. أنً ما يعنينا، هنا، هو إعادةِ التفكيرِ في الأسسِ النَظًريةِ والتاريخية لقضيةِ التعددية في الفكرِ الأسلامي والمجتمعات في السياقِ الإسلامي .

أذا كانت أحاديًة التصوًر ظاهرةً مَكـينةً في الفكرِ الأسلامي فالأولى العوًدة للتعدديةِ كأصلٍ للأشياءِ .فهي مبدأ قائمُ على حقِ الأختلافِ وقبول الآخرِ وهذا لايتحقق الًا بمقدارِ ما يكون هناك حِوارُ وفعلُ تواصليُ ونديًة تُقيمُ المساواةَ في حَقِ الممارسةِ والتعبيرِ بصرفِ النظرِ عن تباينِ الأعتقاداتِ والأنتماءاتِ وأن لا يُكَرًس أيً منهما كتعبير عن الحقيقةِ النهائيةِ، والإعترافُ بالآخرِ وجوداً ومشاركةً ومعرفةً، بعد أنً سادَ النزعُ الأحادي والأعتقادُ بأنً الأنا هيَ صواب أبدي والآخر خطأ دائم، ومفاهيم إمتلاك الحق الواحد والحقيقة المطلقة بين الفرقِ المختلفة في التَجربةِ التاريخيًةِ للأمةِ الأسلاميةِ .

نقد العقل الدوغمائي

يقفُ العقلُ الدوغمائي عائقا أبستيمولوجيا و تسويراً أيديولوجيا أمام التعددية الأعترافية، لذا أحد أهم الشروط لتأسيس التعددية على الأرضية الفكرية والأجتماعية الأسلامية هي نقد هذا العقل وتفكيك مقولاته . أنه يدلً على منطقية العقلِ المُوَحٍد وطريقةِ تفكيرِه التي لاتَقْبَلُ التَعَدُدَ والتَكوًثر والأختلاف و يَتَصْورُ أمتلاكه الحقيقةِ النهائيةِ دون الغيًر؛ والـتَبَنيً الصارم لمبادئ أو مطالب أو مذاهب دون أخضاعها للفحص والمحاكمة العقلية - المنطقية، ويتمظهر هذا العقل في إعتقادِ كل فرقة بتجسيدها للعقيدة القويمة وسبل الهداية . تُصَنف الكثيرُ من المنتظماتِ السياسيةِ والطوائفِ الدينية المتزمتة في السًياق الأسلامي كأتجاهات دوغمائية أذ تَعدُ كل خروج أو رفض لمقولاتها وقناعاتها بالانحراف عن الطريق القويم . انه يُعَبِرُ عن اليقينيةِ والثباتِ العقائدي الذًي تَرفضُ تركيبته كل تناقض أو أنتقاء .

يُلغي العقلُ الدوغمائي كُلِ إمكانيةً لقبولِ واقعِ ومبدأ التعدديةِ لأنه يشَدد على جوهريةِ الاختلافِ ويرفعهُ الى مُسْتوى اٌلفصلِ بين اليقينِ المطلقِ والآخرِ اللايقينِ المطلقِ، ولايكْـتِرثُ لايً مُحاجَجَةٍ تَستندُ إلى البراهـينِ العقلـيةِ والحُـجَجِ المنطـقيةِ، فهو يزدريً كل الوقائع التي تَدحضُ او تناقضُ منظومتها العقائدية –اليقينية، أنه نَسقٌ تصَوري وتفسيري يُقدم معلوماتهِ كحقائقٍ قارةٍ و يعتبرها تتمتع بالشمولِ والكليةِ طبقاً لمعاييرِ لاترتبطُ بأيً مبدأ عقلي للتثَبت من مدى صدقيًتها.)

العَقلُ الدوغمائي ذو بنيًة لا تاريخيًة عصيًة على الأنكسارِ، ويميلُ الى الثباتِ والوحدةِ لأنه بعيدٌ عن ملامسِة التجربةِ والوقائِع التاريخيةِ؛ يحتكمُ دائما الى سلطةِ النموذجِ / الأصلِ فَيشتَغِلُ وفقا لآليًة المقايسة . لا يَعترفُ العقل الدوغمائي بتعددية التيارات الفكرية، وبالمقدار نفسه، لايتقبل تعايش هذه التيارات داخل نطاق اجتماعي – تاريخي واحد . لذا سادَ حديثُ "الفرقة الناجيًة"، ومقالات الأسلاميين في "فيًصلِ التفرقة"، "وتلبيس إبليس" في سيًاقِ التجربةِ التاريخيةِ للأمةِ الأسلاميةِ .

وعليه فـَمن الأهميةِ الراهنةِ اٌلتي تَحملُ مُسَوًغاتِها معرفياً واجتماعياً إعادة التفكير في نظامِ الفكرِ الأسلامي القروسطي الممتد حتى الوقتِ الحاضر ِ، لكشفِ تاريخيًته وتاريخيًة العقل المنتج له. و كذلك تـفكيك بنيًة العلاقات الناظـمة لمكوناتِ هذا العقلِ، والتعريًة الأركيولوجية لـلصفة النسبيًة للمفاهيمِ التي يَستعملُها ومحدوديتها المعرفية، وبالتالي إرتباط هذا الكل بسياقاته التاريخية وأطره السياسية والإجتماعية وفضاءه الفكري متمثلا في طبيعةِ القضايا والأسئلة التي كانَ يواجهها . فتفكيك نصوص الفكر الإسلامي مسألة حيوًية لإعادةِ فهمها وتلقيها، ومهمة لتجاوز مقولاتها وموضوعاتها . ومن هذا الموقع تظهر مَـدى راهنيًة الإستعمال المنهجي للمفاهيم وتوًظيف مُنجَزَها المُعاصر، و تبرز، أيضاً، أهمية أشتغال إستراتيجية للنقدِ لاتُختَزل في منطقِ المقايسةِ أو الأستبدالِ أيً الى مجرد عمليًة إبدال بين نماذج جاهزة تـُنزًل على نظامِ ثابت للخطابِ والمعنى؛ فمنطقِ الأستبدالِ لاينتجُ معرفةً حيث تُختَصر مهمتهِ على التكرارِ والتحويرِ في تَركيبِ الأفكارِ على بَعْضُها من خلالِ النقلِ والأستعارةِ . بقدر ما تكون وظيفة هذه الأستراتيجية هي البحثُ عن ممكناتِ أخضاعِ تلكَ النصوصِ للتفكيكِمما يَسمَحُ باجتراحِ مساحات جديدة للتفكيرِ.

لقد مارسَ الفكرُ الإسلامي عمليًة نقديًة واسعة كانً لها إنجازات مهمة في تنهيجِ الجدلِ والمناظرةِ شَمَلت مُختَلف الحِقولِ. لكن تَبقى العملية النقدية كما جَرَت في هذا الفكر مَشروطةَ بمفهوم ِ النقدِ الواقعِ تحتَ مَظـَلة النظام المعرفي والفضاء الفكري القروسطي الذي كان يتحدد كثيراً بمنهجيًة الأســـتدلال والقياس، والمقارنـة، والـرد، والحـد، كوسائـل يستعملها العقـل للوصول لأحاديًة الحقيقة وبلوغ اليقين، وكذلك بمقولات التهفيت، والتكـفير، والأحكم المسبقة، و تعميمها، والمروق عن الصراط المستقيم . لكن هذاْ لا يُلغي إمكانيًة إستلهام دلالات التراث النقدي الإسلامي في سياقِ مَشروع نقدي له مُكَوًناتهِ الذاتية ويستثمرُ، في الوقت نفسه، ما أجترحتهُ العمليًة النقديًة المعاصرة التي تنظر الى اٌلنقدِ كَمَشروعٍ غير منجزِ باستمرارِ. مشروعُ يقومُـ بخلخلةِ أنظمةِ الفكرِ وزحزحةِ الدلالةِ وكشف نِسَابيًة المَعْنى، وتاريخيًة تَشَكًلُ الخطابِ، بقصدِ إفتتاحِ مساحاتً جديدةً للتفكير غيرُ مُفـَكر فيها من قبلِ . وإعادة فهم النصً وعلاقاته، المسألة التي تَقودُ مباشرةً الى الإلتفاتِ الى آليًاتِ التفسير وقضايا التأويل، والتي تَفتِحُ بِدَورها مَسألةَ حق إختلاف التأويل بل "صراع التأويلات" حول النصً المقدس و التُراثِ، لكن السؤال في راهنيتهِ يتعلقُ بالكيًفِ المُـمكن لتأويـل هذا التراث من موقعِ يكون فيه قادرا على القيامِ بوظائف جديدة داخل سياق الأجتماع/ السياسي الأسلامي المعاصر .

يَقومُ التأسيسُ للتعدديةِ في الفكرِ الأسلامي على إستراتيجية مفهومية مُتـَعددة الرؤوس تَبدأ من السؤالِ، ماذا يعني التفكير في الإسلامِ اليوم الذي يَبدو سؤالاً مركباً في بنيته وعلاقاته. انه ينطوي على أستفهام عن ماذا يعني التفكير اليوم؛ التفكير المتمثل للمنجز المعرفي المعاصر والمستحضر لأدواته الأبستيمولوجية ـ المنهجية والذي يتمشى على قارة واسعة في إتجاهه القصدي المرتبط بالشق الأول من السؤال ماذا يعني الإسلام اليوم؟ فكأن "الإسلام" يتأول باستمرارِ ويـَمر باوضاع تَمعينيًة دائماً في مسارِ التجربةِ التاريخيةِ للأمةِ الأسلاميةِ طبقا لأثرِ المتلقين وإختلاف مراحلهم التاريخية واوضاعهم الأجتماعية، مما يدفع الى أهمية الإعتراف بتاريخية ونسبية النتاج الفكري للعقل الإسلامي. فالإسلام لا تتعين حدوده اليوم بالتمسك بمقولات اللاهوت وإتجاهاته الكبرى، ولا حتى الأحكام الفقهية وأصولها القائمة على آليات النظام المعرفي القروسطي؛ وكذلك عموم المقولات الأخرى المحكومة بحدودها التاريخية ومنها التعددية. أذن تحتاج مسألة التعددية الى أستراتيجية أخرى جديدة على العقلِ الأسلامي لا تقفُ عند المستوى النظري في تَسويغِ تعددية مَناهج فهم النصوص الشَرعيًة أو تلك الناتجة عن أختلافِ الزمانِ والمكانِ بل تتجاوزها الى نقلِ التعدديةِ المبنية على التأسيسِ العقلي الخالص الى المستوى السوسيولوجي في تقدير المصالح وخارج متبنيات " ملاكالحكم" التي يَرجعُ تحديدها الى الشرعِ لتشملِ الأطر الأجتماعية التي تقع خارج النطاق الأسلامي وتختلف مع من يرون أنهم يحملون التفسير الأسلامي الصحيح في الرؤية والتقدير .

التعددية والتأويل

تَسـهمُ العمليًة التأويلية في تقوًيضِ إمبرياليةِ المعنى واحتكارِ الحقيقةِ، إنها تخليص للفكر من سلطة التفسير الواحدي والمطابقة التامة بين اللفظ والمعنى، فهيً سبيل إنفتاح العقل وتوسيع حدود الفهم، وتجبرنا على الإعتراف بالنسبية وإننا محكومين بالصيرورة التاريخية.

قدمً المسلمون مباحثَ كثيرة في تعريفِ التأويلِ وممارستهُ؛ والمراد بهِ نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي الى ما يحتاجِ الى دليلِ لولاه ما تُركَ ظاهر اللفظ . وكأن ممارسة التأويل تتعلق بفهمِ المعنى وضبط التفسيرِ عند حدود الألفاظ، وفي علاقته الوشيجة بالمجاز حيث عَدهُ المسلمون "عبارة عن إحتمال يعضده دليل يصير به على أغلب الظن المعنى الذي يدلً علية الظاهر. ويشبه أن يكون كل تأويل صرفاً للفظ عن الحقيقة الى المجاز"؛ لكن إختلط التأويل عندهم بطريقةِ في الفهمِ وبنمط في التفسيرِ وهذا مرتبط بفهمهم لمعنى المعنى، قبل أنجازات اللسانيات المعاصرة المتمثل هنا في الزحزحة الدلالية بين الدال والمدلول، فظـل يُنظر للمعنى في الفضاء المعرفي الإسلامي بوصفه واحدا قارا، ميتافيزيقيا، جوهرانيا، سواء في ظاهر النص بيانيًا او في باطنه عرفانيًا . وهذا مايكشف عن الوحدةِ العميقة للنظامِ المعرفي الذي أٌنتِيجَ طبقا له التراث الأسلامي على المستوى الأبستيمولوجي رغم التعدد على المستوى المذهبي والسياسي . لذا من الأهمية تجديد مناهج التأويل بأستيعاب وظيفة مُنجَزاتِها المعاصرة، سيًما وإن هناك أسهامات كثيرة في الإنفتاح الدائم على تضاعيف الخطاب وطيًات المعنى ومناهج تفسير النص المقدس .

تُسًوغ بنية النص المقدس بوصفه نقطة البدء الدائمة للفكر الإسلامي حقانيًة تعدد التأويلات واختلاف مناهج التفسير؛ و يمهد للقول بأنً التأويل فاعلية إجتهادية بشرية، وهذه نقطة مهمة على طريق تأسيس أرضية للتعددية بوصفها الأصل وما الوحدة الا نتاج للإجماع والفعل التواصلي . فمن المقدًماتِ الأوليًةِ للتعددية التي شهدها المجتمعُ الإسلامي هي تعدد الإجتهادات، ورغم أن التتطور لم يُصيب منهجية هذه الأجتهادات أذ ظلت محكومة بآليًة الأستبدال التي وأن استلمت فكرا جديدا تديره على محوًر قديم مما أدى بالنتيجة الى تمتين العـقل الدوغمائي وتمكينه من الأستمرارِ، ومع ذلك يفتح هذا المستوى الأولي من الأجتهاد على التعدد في الأطار الشرعي مما يسوغ للتعددية في الرؤية والمنهج أبتداء، أي حق أختلاف التاويل. أنه يؤسس لمشروعية الأختلاف والتعدد في أستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وعليه اذا كان الأختلاف و التعدد مباح في مسائل الفقه و قواعد الشريعة فمن الأولى ان يكون كذلك في مسائل الأجتماع السياسي بوصفها ساحة للإختلاف الآراء وتعدد المواقف .ولا تقتصر التعددية على طرائق فهم النص الشرعي بل تشمل فيما يختص في تقدير المصالح المرسلة ومقاصد الشريعة وما يقع خارج هذا الأطار أيضا .انها تمثل اسلوبا في ادارة الأختلاف القائم على الأعتراف المتبادل بين الجماعات المختلفة .

التعددية في السياق الاسلامي

وقعت التعددية في السيًاق الأسلامي فعـلاً، وهي تَفصحُ عن نفسها بصيغة المذاهب الفقهية المختلفة كمنظومات من المبادىء والأعتقادات؛ وكآراء ومتنوعة، بتنوع المجتمعات الأسلامية واختلاف المصالح التي تفرق بينهما . فالتعددية أصلٌ، و الأختلاف حقُ شرعيُ. والكل راد و مردود عليه. النص المقدس وحده حامل العلم الألهي الثابت. أما قراءته وتأويلاته فهي متعددة بأختلاف مدارس المفسرين، ومصالح المجتمعات. فالأصل في الأشياء التعددية، والوحدة هدف للمستقبل وأمكانية تتحقق، وأفتراضٌ ضمني يـٌمَكنُ من الحوارِ بين الأتجاهاتِ المتعددةِ والآراءِ المتباينةِ. وبِفَضلُ التعددية الأولى حتى القرنِ الرابع الهجري نشأت مدارس الحضارة الأسلامية وازدهرت. وقد عبر عن هذا الشافعي حين قال " أنه على صواب قد يحتمل الخطأ وأن الآخر على خطأ قد يحتمل الصواب".

و هذا ما أستدعى القراءات المتعددة للنص المقدس بوصفه ذو بنية تحتمل أوجها مختلفة لتأويله وفهم مقاصده. فليس مسألة فهم النص المقدس، بوصفه ذو بنية مجازية و رمزانية عاليًة؛ و طريقة التقييد بحدوده وانطباقية أحكامه على الوقائع التاريخية – الأجتماعية مسألة بسيطة وتتم بشكل تلقائي أنها بحاجة مستمرة الى التكييف والملائمة والأجتهاد في إعادة التفسير والمطابقة . ثم ان تعددية الفهم والتأويل ليست تعددية مضافة الى النص المقدس، بل هي تعددية كامنة في بنيًته على المستوى المنطقي الى حد كبير، لكنها ليست كذلك على المستوى التاريخي ، فرغم ما حصل من تعدد المذاهب والملل والنحل تبقى التعددية كما جرت على الأرضيةِ التاريخيةِ في السياقِ الأسلامي وتشخصت وفق محددات الأطر السياسية والإجتماعية ضعيفة وقاصرة نظريا ًإذا ما قُورنت بمفهوم ِ التعددية في الفكرِ المعاصرِ، لأنها قامت بالأساس على المفاهيم أرثوذوكسية لمسلمات العقلية الدوغمائية، أي أنها كانت تعددية أرثوذكسية . فثمة بنية مشتركة لمتبنيات المذاهب الأسلامية في أصول فقه أحكام الشريعة حيث اليقينية المطلقة هي قاسمها المشترك رغم صورية الأحتمال .

يقوم منطق التعددية على قبولِ المفاهيمِ المختلفةِ المُعَـبر عنها فعليا بالأرادات المتنافسة أجتماعيا . فتُمَثلُ التعدديةُ اسلوبا في ادارة الأختلاف وأعترافا متبادلا بين الجماعات بديلا عن الانكار . وقد حصل هذا بدرجات متفاوته في التجربة الأسلامية ومصداق ذلك ما مثله مفهوم أهلُ الذمةِ الذي منح به المشرع الإسلامي حقوقاً لغيًر المسلمين في ظلِ الدولة الإسلامية، وكان تنصيصا متقدما على حقوق من غير أهل الملًة في زمانه، لكنه - طبعا – يعتبر الآن مفهوما له حدوده التاريخية تجاه مفهوم المواطنة. فالتعددية منطق عقلي ونهج في الممارسة لايقبل اختزال الحقيقة في مذهب أو إحتكارها في فرقة .

التعددية: الأسلام والديمقراطية

تًنزلُ التعددية من الفكر السياسي المعاصر والنظام الديمقراطي منزلة الأساس الذي يقام عليه الهيكل . فعندما يدورُ النقاشُ عن رهاناتٍ التعدديةِ ومدى حضورها في السيًاق الأسلامي يَطرحُ مفهوم "الأسلام والديمقراطية" في محاولةِ لاقامةِ مقاربةِ بينهما بدون الألتفات الى انً هكذا مقاربة فيما يمكن أن تَكون عليهِ العلاقة تعميماً بين "الإسلام" والديمقراطية، تبدو مقاربة لا تتقوم بهذه الصورة ولا تستقيم بهذا المعنى. إنها تتعاطى مع الطرفين بطريقة أيديولوجية ناشئة عن عقلية مانوية في الفصل والضم. أي وفقا لمنطق ثنائي القيمة تضعها كقطبين متوازيين لـتُعيد ترسيمهما كنسقين متقابلين. وهكذا إستقطاب يفتقد الإتساق على مستوى التحليل المنطقي والدلالي- لاختلاف المدلول بينهما- ومبررات ما يتأسس عليه معرفيا ومنهجيا. إنه ينطوي على رؤية ماهويًة مُتًضَمِنة لتصورِ جوهراني لا تاريخي "للإسلام" في خط موازِ للديمقراطيةِ . وبالتالي فما ينتج عن هذا التَصوًر المطروحِ بصيغةِ السؤالِ عن كيـًفية التوفيق والموائمة يبدو سؤالاَ تـلفيقيًاً بالأساسِ، يضعُ الديمقراطيةِ كمقولة ايديولوجية ثابتةٍ او صيغة جاهزة برسمِ التطبيق، ويَنظرُ اليها بطريقةِ نشورية خلاصية.

الديمقراطية في مفهومها وممارساتها الحاليًة صفة لنظام الحكم ولنمط من التنظيم الأجتماعي، إنها نتاج الفكر السياسي للحداثة . ينظر اليها في الغرب بأعتبارها مُشَكلة من منظومة متكاملة ومتضافرة تقوم على الليبرالية حتى أن الكلام عن ديمقراطية مضادة لليبرالية هو بحد ذاته كلام متناقض يتم عن نظام سلطوي أكثر بكثير مما ينم عن نمط مخصوص من أنماط الديمقراطية- على راي الآن تورين- وعلى رؤية علمانية للعالم، ونظرية في العقد الأجتماعي - السياسي تَفصلُ بينَ المجتمعِ المدني والمجتمعِ السياسي والدولةِ بوصفِ هذا الفصلِ شرطا مركزيأ من شروط الديمقراطية.

لكن هناك بعض الأراء تعتقد بإمكانية التلاقي بين " الإسلام" والديمقراطية . يرى محمد مهدي شمس الدين بالأمكان اختيار الشورى كفلسفة حكم والديمقراطية كآليات ومؤسسات. فالديمقراطية اخت الشورى الأسلأمية ورديفتها وجنسها، انها افضل وسيلة قدمها العصر لتطبيق الشورى على حد تعبير عبد السلام ياسين. فالشورى التي تَضَمنتْ معنىً أخلاقياً ولم تحمل في التاريخ السياسي للمجتمع الإسلامي دوراً إجرائياً معيناً يُحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يمكن لها الآن - كما يرى راشد الغنوشي - أنً تحمل المدلول المعاصر للديمقراطية، فلا ضيًر في الألفاظِ ويمكن للشورى أن تقوم بدور الديمقراطية نفسه، بوصف الديمقراطية جملة من الآليًات يمكن لها أنً تعمل بنجاح على أكثر من أرضية أيديولوجية. فمثلما تشتغل في إطار العلمانيًة الغربيًة يمكن لها أن تَشتغل في إطار "الإسلام"، أيضا، الذي يقدر على ذلك بنجاح تام لإنعدام وجود كنيسة تحتكر تفسير النصوص. [أعتبار النص الإسلامية يتمتع بالإنفتاح مما يجعل الديمقراطية تعمل بنجاح أكبر. وان الإجماع المتحقق عن طريق "الترجيح بالكثرة" -كما يقول الإمام الغزالي- يمكن أن يكون أحد آليات أشتغال الديمقراطية في الأجتماع/ السياسي الإسلامي. فالديمقراطية في إطار الدولة القومية لا تكون إلا محدودة وحصرية لتحقيقها مصالح فئة معينة من الناس بينما الخلفية الإنسانية والأخلاقية للإسلام تجعلها تعمل بنجاح أكثر بوصف الإسلام رسالة كونية .

وهناك رأي آخر يَقول، بأن للمجتمع ألأسلامي في سياقه التاريخي، والفكر الإسلامي في مكوناته الذاتية "ميكانزماتة" الداخلية، و قراءته طبقاً لها يجعله في غير ذي حاجة لإستيراد المناهج والمفاهيم الغربية؛ فما هي الا مناهج ومفاهيم نسبية تعبر عن التجربة التاريخية للمجتمعات الغربية و مظاهر أنتظامها السياسي.

يَنطـلقُ الموقفان من أستراتيجيتين مختلفتين في المقاربة . الاول، يمثل السياسي الذي يهمه كثيراً ما يدخل في الحل العملي. والثاني، تعبير عن إستراتيجية المؤرخ الذي يروم "قراءة من الداخل" للسياق التاريخي ـ الاجتماعي ـ السياسي الإسلامي .

يتعلق الموقفُ الأولُ بإستعارةِ المفاهيمِ "المضمونية"؛ ولكن لا تستفد المسألة بوصفها مسألة ألفاظ، بل يبدو الأمر أكثر تركيباً وتعقيداً، فهذه الألفاظ مفاهيم إصطلاحية تحمل وبدرجات متفاوتة أبعاداً لمدلولات تعبر عن حالِ أو وضعِ المعرفةِ في أفقها السوسيولوجي؛ وكذلك النظام المعرفي "الأبستمي" الذي نشأت واشتَغلت فيه، وأيضاً، تَتعلقُ بطبيعةِ العلاقةِ الجدليًة بين العام والخاص، والأختراق الأيديولوجي للمعرفي. فلاينشأ المفهوم منفردا ليتم نقله بسهولة الى سياق آخر، بل يندرج ضمن شبكة من المفاهيم المتضافرة – المشروطة بعلاقاتها البنيوية الخاصة قد يفقد فاعليًته خارجها؛ ومن هنا ليًس من الميسور انتزاع هكذا مفاهيم من تلك العلاقات، ومن سياقاتها التاريخيًة والمعرفيًة و ادماجها في سياقات اخرى مغايرة . الأمر الذي يكشف عن كون فعالية المفاهيم تبقى فعالية مشروطة لا مطلقة . المسألة، اذن، تتعلق بطريقة نقل المفاهيم المشتغلة على تربة معرفية معينة ومدى إمكانية أشتغالها على تربة أخرى .

أما القول بالاكتفاء في دراسةِ المجتمعِ الإسلامي من داخلهِ وفق مسوًغ أن الفكرالإسلامي يمتلك من الأفكارِ والمفاهيمِ ومحمولاتها ما يستوفي لإمكانية هكَذا قراءة، حيث له مناهجه وآليًاته الخاصة في ما يتعلق بقضايا المجتمع والدولة، وأمر الولاية والمشروعية، وشكل الحكم والسلطة، تكون كافية لإنتاج نظريًة في الأجتماعِ السياسي يختًص بها الفكر السلامي، وبالتالي لا حاجة لإستعارة المفاهيم عموما، ومن فكر الغربي تخصيصا؛بوصف مفاهـيـمه ذات حمولات علمانية، قد ينتـج عنها في المطـاف الأخير ما يُطًـلق عليًه تصوًر ماكس فيبر للعلمنة، أي سيتمُ تغليب القيًم الدنيوية مقابل إنحسار قيم العالم الاخر فيتعلًمن المجتمع والسياسة، وهذا ما حصل مع المسيحية . لكن هذا يَبدو موقفا راديكاليا ًومنظورا حصرياً يَبحثُ عن إصالةٍ طهورية وخصوصية نقيًة من الآخرِ؛ إنه موقف لا يؤديً في نهايةِ المطافِ الا الى أيديولوجية محافظة ومنغلفة تتواطأ معرفياً مع الإتجاهِ الآخرِ المحافظِ في الغربِ. فيرى المستشرقُ الفرنسي روجيه أرنالديز أن كلَ ما يَمكنُ إستخراجهِ من "القرآن" يمكنُ الوصولَ اليًه بواسطِة المناهجِ التي إستعملها المفسرون المسلمون سابقاً، ويضرب مثلاً بإبن حزم الأندلسي، وبالتالي لا حاجةَ للباحثِ المسلمِ من إستخدامِ مناهجَ العلوم الإنسانية الغربية فما عند المسلمين يكفيهم. فيشير إلى أن العلماء المسلمين كانوا استطاعوا بمفاهيمهم «تحريك النصوص القرآنية وإنعاشها بتفاسيرهم» إلى درجة «يصعب علينا اليوم حتى باسم العلوم الإنسانية أن نجد فيها شيئاً آخر جديداً غير الذي وجدوه»! وبالتالي فإن "المسلمين المحدثين الذين يستعيرون المناهج الغربية كان أحرى بهم أن يكتفوا بمناهج أسلافهم من القدماء، فهي توصلهم بالدقة نفسها. لأن يستخلصوا من الآيات القرآنية ما توصلهم إليه هذه المناهج التابعة للعلوم الإنسانية " .

تَحتاجُ المسالة الى ماهو ابعد من هاتين الإستراتيجيتين، و من تلك المُحاجَجات حول ما اذا كانت الديمقراطية تُمَثلُ بنيًة فكرية أم تُختزل الى مجموعةِ آلياتِ لتداولِ السلطةِ وضبطِ النظامِ السياسي و أختزال التعددية في التعدد الحزبي و استنفاد التفكير في المقارنة بينها وبين الشورى؛ والدوران حول فكرة الحاكم دون مراجعة لفلسفة الدولة، فيما يتعلق بنطاق سلطتها، و دور الأمة فيها، وأشكال التأثير المُتَبادل بينهما.

والخلاصة يبدو من الراهنية الشروع في نقدِ الحاجة الى التعددية في ما يدخل ضمن إستراتيجية التفكير في الإسلام اليوم الذي يعني إعادة التفكير في مفهوم التعددية المتأسس منهجياً على مفاهيم معاصرة للإجتهاد والنقد والتأويل على مستوى الأسس الأبستيمولوجية للفكر الأسلامي وكذلك على مستوى الأجتماع / السياسي للمجتمعات في السياق الأسلامي .

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ - جامعة أبيردين البريطانية

 

 

في المثقف اليوم