أقلام فكرية

علاء البغداديّ: الإيكولوجيا والمُقَدَّس.. هل ترتبط به؟ وهل تتمكَّن من إعادة إنتاجه؟

في البدء، لَعَلّنا نحتاج للتّذكير بتعريف (المُقدّس) ولو بنحو الإيجاز، ويُمكننا القول إنّه: كلّ ما ينتمي إلى حقل الممنوعات من آلهةٍ وكائناتٍ وأمكنةٍ وأفكارٍ وحتّى طقوس في بعض الأحيان، وهو الذي لا يُمكن المساس به والشّكّ في وجوده، وقد تصاحبه بعض الطّقوس والاحتفالات، والتي من شأنها أن تعيد حضوره بلا هوادة بين الفينة والأخرى.

(والمُقدّس أيضاً، هو حقّيقيّة غير استطراديّة، فهو يُعيدنا إلى تجربةٍ ذاتيّةٍ لا يُمكن قياسها، إلى درجة أنّ الجدل الفلسفيّ لم يتمكّن من فهمها حتّى الآن)1.

وإذا ما نعرف أنّ البيئة والجغرافيا من اشتغالات الإيكولوجيا، فإنّه ثَمّة علاقة ضروريّة بينها وبين المُقدّس، و(الإنسان وبواسطة التّاريخ، يؤسِّس لوجوده الطّبيعيّ والإنسانيّ فوق تضاريس الجغرافيا وبين طبقاتها الجيولوجيّة، وبالتّالي فهو - ومن خلال الحضارة - يُحقّق لفعله الاجتماعيّ الامتداد الطّبيعيّ في بيئتها الإيكولوجيّة، ويضمن لوعيه الرمزي بالاضطراد في إطار حدودها المكانيّة. وفيما إذا تعرّضت العناصر البنيويّة للجغرافيا إلى ما يخلّ بوحدتها الطّبيعيّة أو يسيء إلى شخصيّتها الإقليميّة، فإنه سرعان ما تدبّ عوامل الانحلال إلى ميدان التّاريخ والاضمحلال إلى حقل الحضارة)2.

وهذا التّأسيس الذي يقوم به الإنسان لوجوده الطّبيعيّ، هو بلا شكّ يتضمّن عنصر القداسة، إذا ما اتّفقنا أنّ الدّين من أهمِّ العناصر الأساسيّة في تكوين الإنسان وثقافته منذ بدء الخليقة، وبالتّالي فإنّ الدّين والقداسة يسيران في خطٍّ متوازٍ واحد، بل أنّ القداسة في أغلب الأحيان تولد من رَحِم الدين.

والإنسان المُتديّن ينظر إلى الطّبيعة، ليس باعتبارها طبيعة على وجه الحصر، بل يراها مُثقلة دائماً بقيمٍ دينيّة، لأنّ تفسيره للكون على أنّه إبداع إلهيّ خرج من يدي الآلهة، وأنّ العالَم يبقى مُغرقاً بالقداسة. وليس المقصود بالضّرورة قداسة موصولة بالآلهة فقط، بل تلك القداسة التي قد ترتبط بمكانٍ أو شيءٍ، مُكرّس بحضورٍ إلهيّ مثلاً3.

ينظر الإنسان المُتديّن إلى الكون، بأنه ينبض بالحياة، وهذه الحياة تدلّ على قداسته، أيّ قداسة الكون، لأنّها من نتاج الآلهة، وأنّ هذه الآلهة تُشير إلى وجودها للنّاس من خلال حياة الكون هذه.

ولهذا السّبب، ومنذ أن تَشكّلت واتّضحت عناصر الثّقافة، أدرك الإنسان بأنّه كون مُصغّر، وقد ذُكِرَ في الموروث الشّعريّ العربيّ بهذا الصّدد:

وتَحسبُ أنّكَ جرمٌ صغير... وفيكَ انطوى العالمُ الأكبر

أدرك ذلك، لأنّه يُشكّل جزءاً من خلق الآلهة، وبعبارةٍ أخرى، أنه يجد القداسة في ذاته، والتي تعرّف عليها في الكون4.

وهكذا أخذ الإنسان يُقارن حياته بحياة الكون الكبرى، كونها هي الأخرى من صنع الإله، وفي هذا الصّدد الكثير من الأمثلة التي يُمكننا سوقها، ومن أهمّها، موضوعة الزّواج، فقد قارن بين الأرض والسّماء والرّجل والمرأة، حيث مَثّلت المرأة دور الأرض، وهذا ما أيّدته الكثير من النّصوص في الكتب المقدّسة، ففي سورة البقرة من القرآن وفي الآية 223، يقول النّصّ: (نساؤكم حرث لكم)، وفي كتاب "الاتهارفافيدا" وهو من أهمّ الكتب الهندوسيّة المُقدّسة في الجزء (14-5-24) يقول: (هذه المرأة كأرضٍ حَيّة، ازرعوا فيها البذور أيها الرجال).

لقد تَمكّنت الإيكولوجيا من إنتاج الكثير من المُقدّسات على المستوى البيئيّ والجغرافيّ، ومنذ أزمانٍ بعيدة، وأيضاً بإمكانها إعادة إنتاج المُقدّس ومفاهيم جديدة تتفرّع عنه، وسنسوق بعض الأمثلة على ذلك.

جغرافيّاً، انتجت الإيكولوجيا الكثير من المُقدّسات، لأنّ الإنسان المُتديّن ينظر إلى المكان بوصفه شكلاً غير متجانساً، فهو يُمثّل بالنّسبة له انقطاعات وانكسارات، ويرى بعض الأجزاء على أنّها مختلفة نوعيّاً عن بعضها.

(لا تقترب من هنا، قال الرّبّ إلى موسى، اخلع نعليك من رجليك، لأنّ المكان الذي توجد فيه هو أرض مُقدّسة)، سفر الخروج: 3:5، وذات النّصّ يردُ في القرآن في سورة "طه" الآية "12" لكن بصياغةٍ مختلفةٍ بعض الشّيء: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى).

ولنأخذ مثالاً عاديّاً على ذلك، وهو مثال الكنيسة، فشكل الكنيسة في مدينةٍ حديثة، تختلف رؤيته وتقييمه عند الإنسان المُتديّن عن غير المُتديّن، فعند المؤمن تُشارك هذه الكنيسة في مكانٍ آخر غير الشّارع الذي توجد فيه، فالباب الذي ينفتح نحو داخل الكنيسة يدلّ على حلٍّ للاستمراريّة، والعَتبة التي تفصل المكانين تدلّ في آنٍ واحدٍ على المسافة بين طريقتين للتكوّن، دينيّة ودنيويّة.

إنّ العَتَبة هي في الوقت ذاته، الفاصل والحَدّ الذي يُميّز ويُقابل عالمين، والمكان المتناقض حيث يتوصّل هذا العالمان، وحيث يُمكن انجاز المرور من عالمٍ دنيويٍّ إلى عالمٍ مُقدّس5.

ونفس الحال لو أخذنا مثال أيّ مسجدٍ أو مقامٍ عند المسلمين، نرى أنّ صفة القداسة بدأت تلازم ذاك المكان، بل حتّى كامل المنطقة التي يكون فيها، كما هو مشهور (الكعبة المُشرّفة) و(كربلاء المُقدّسة) و(النجف الأشرف).

أي أنّ إضفاء القداسة هنا، يرتبط ويتعملق مكانيّاً في ذهنيّة الإنسان المُتديّن، ففي الواقع ليس كُلّ كربلاء مُقدّسة حتّى عند ذات الإنسان المُتديّن، بل هي فقط البقعة التي ضَمّت قبر الحسين بن علي، وكذلك ليس كُلّ النّجف وهكذا، إلّا أنّه يُسقط صفة القداسة على كلّ المكان، بسبب حمولات القداسة المكنونة في وعيه.

وما زالت الإيكولوجيا قادرة على إعادة إنتاج المُقدّس مكانيّاً، بسبب توفّر ذات الظّروف التي تساعد على تغوّل المفاهيم الدينيّة المغلوطة داخل المنظومة الإدراكيّة للفرد، لا سيّما المُتديّن.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك، هو كُثرة ظهور المراقد الدّينيّة المُزيّفة، فبين الحين والآخر، يتمّ الإعلان عن اكتشاف مرقد جديد هنا وهناك، تحت ذريعة أنّ أحدهم قد شاهد في أحد أحلامه أن هذا المكان دُفن فيه شخصاً مُقدّساً ينتمي إلى عائلةٍ مُقدّسةٍ عند طيف واسع من النّاس، وبالتّالي يكتسب المكان صفة القداسة بعد أن يتمّ بناؤه بشكلٍ جيّد، ويُصبح مزاراً للكثير من الوافدين، الذين يلتمسون بعضاً من تلك القداسة لقضاء حوائجهم.

وبيئيّاً، أيضاً ما زالت الإيكولوجيا قادرة على إنتاج المُقدّس، فما زلنا ونحن في هذه الألفيّة، نشهد من يُقدّس بعض الشّخصيّات، لا سيّما الطّبقة العُليا من رجال الدين بمختلف مشاربهم ودياناتهم، فنسمع (قداسة البابا) عند المسيحين و(قُدّس سرّه) و(طاب ثراه) وعند المسلمين.

ومما لا ينبغي إغفاله هنا، هو أنّنا لا نجد هذه التّصرّفات الدّينيّة المموّهة أو المختلفة في الدّيانات الصّغيرة أو الصّوفيّة فحسب، بل نتعرّف عليها كذلك في حركاتٍ تُعلن عن نفسها صراحةً بأنّها علمانيّة، بل وضدّ الدين. وهكذا نجد في مذهب العُري أو في الحركات من أجل حريّة الجنس المطلقة6.

***

علاء البغداديّ

كاتبٌ وباحثٌ من العراق

....................

1  - فالح مهدي: البحث عن جذور الإله الواحد، ص 223

2  - ثامر عبّاس: الجغرافيا الشِقاقيّة، ص 113

3  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 89

4  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 123

5  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 28

6  - مرسيا الياد: المُقدّس والمُدنّس، ترجمة عبد الهادي عبّاس المحامي، ص 150

في المثقف اليوم