تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام فكرية

عبد الوهاب البراهمي: هل يمكن للفلسفة أن تغيّرنا؟

عبد الوهاب البراهمي"إن الفلسفة التي لا تشفي آلام البشرية هي محض هباء. فالفلسفة التي لا تبرئ الرُّوح من معاناتها، لا تختلف عن طب لا يداوي مريضًا ولا يشفي عليلًا "-  أبيقور

إذا كان بالإمكان أن نقرّ للفن، للأدب أو الموسيقى أو الرسم...، بشهادة العديد ممن اشتغلوا به أو التقوا به في تجربة "ذوقية "خاصّة، قدرته على النفاذ إلى أعماق ذواتنا وترك أثر بالغ فيها، قد يحدث انعطافا في مسار حياتنا، (يكفي أن نشير إلى اللقاء المربك بين نيتشه وفاغنار وديكارت والموسيقيّ والعالم إسحاق بيكمان وما كان لذلك من أثر عميق في رؤيتهما للعالم والإنسان)؛ فإنّه من غير البدهي أن نقرّ بذلك للفلسفة، ومن النادر أن نسمع عمّن غيّر لقاءه بالفلسفة في "تجربة دراسة" أو غيرها مجرى حياته وحمله على إعادة النظر في رؤيته للعالم وللآخرين، نعني إحداث تغيير عميق في علاقة الذات بذاتها وبالآخر. من هنا جاء سؤالنا بصيغة تطرح أسس إمكان القول بقدرة الفلسفة على أن تحدث تغييرا عميقا فينا. وقد يجد السؤال مبرّره في طبيعة الفلسفة " كتفكير صعب" بعبارة هيجل يحدث للمرء ارتباكا وقلقا، قلق "من يقيم في غير بيته" أو " كمن تتحرّك الأرض تحت قدميه"، ويحمله على بذل جهد في التدرّب على "ممارسته". فالتفكير الفلسفي أو " التفلسف" لا يحدث وفق ميل طبيعي للذهن، بل " بتوجيه العقل" توجيها حسنا" بعبارة ديكارت أو " بإصلاحه" بعبارة سبينوزا. من هنا لم تكن العلاقة بالفلسفة يوما "هادئة" بل كانت دوما "علاقة صعبة بتعبير مارلوبونتي" لا تخلو من الرغبة حافزا كما يؤكّد " ليوتار" بل إنّ ما يبرّر وجودها رغبة، ولكن " رغبة يولّدها وضع للذات يفتقر إلى المعنى والقيمة"، الأمر الذي يحملها على التفكير والتساؤل عن الهدف من الحياة أو منزلة وجود الذات الخ، بغرض الارتقاء بها قيميّا أو تمعينها. لأجل هذا لم يكن من البدهي، حتى عند الفلاسفة أنفسهم، الزعم بأنّ غاية الفلسفة ومهمّتها هي "تغيير ذواتنا" ناهيك عن" تغيير العالم " من حولنا. و إذا كان الفلاسفة من زمن بعيد، منذ الرواقية قد جعلوا من الفلسفة أسلوب حياة" أو فناّ للعيش. وقسم فلاسفة الإسلام الفارابي وغيره الفلسفة إلى فلسفة (حكمة) نظرية وأخرى عملية، وطرح محدثون الفلسفة "أسلوب تفكير" و"طريقة في استخدام العقل استخداما ذاتيا" أو "حالة تنوير أو رشد" (كانط)...فإنّهم قلّما نبّهوا إلى الفلسفة " مشروع تغيير"، بل أكدوا عليها " مشروع تفكير " مقصده الفهم، و مهمّتها " نقدية" وأداتها " معقولية" خاصّة لا تتعدّى مستوى " الخطاب أو" اللوقوس" أو " النظرية" أو حدود "الفكرة" حتى لو كانت "تتطابق مع التاريخ" كما يزعم "هيجل". وحده "ماركس" ربّما، كان له من الجرأة الفكرية ما جعله يحدث انعطافا في مسار الفلسفة التاريخي. وبالفعل فقد كان لقول ماركس خاصّة بأن" الفلاسفة لم يفعلوا سوى أن تأولوا العالم والمراد الآن تغييره"، أثره في التنبيه إلى تحوّل جذريّ في أسس المشروعية، مشروعية الفعل الفلسفي أو التفلسف من زاوية علاقته بالعالم، وتحديدا من جهة أثره الفعلي عليه، أي مدى قدرته كفعل تفكّري"، " تأويلي" على تغيير العالم. لقد طرح ماركس على الفلسفة مهمّة جديدة يقتضيها " الآن" (العصر) كمرحلة تاريخية، مهمّة يحتّمها التطور التاريخي  للواقع الاجتماعي، وهي " تغيير العالم" . فلم يعد للفلسفة، بوصفها " تعقّلا" من معنى في حدّ ذاتها، إلاّ منظورا إليها من جهة هذا الواقع وليس لها مشروعية تامّة إلاّ من جهة انشغالها بالعالم لا بوصفه موضوع تفكير، بل "مشروع تغيير". على أن يفهم العالم بما هو " عالم البشر"  واقعا اجتماعيا، أي واقع الإنتاج. إنّ هذا المنعطف الماركسي، قد أذن بولادة جديدة للفلسفة بوصفها " إيديولوجيا" (وعيا حقيقيا بالواقع)، "فلسفة اجتماعية " أو نظرية للممارسة الاجتماعية، وصرَفَ مهمّتها كما أسلفنا، إلى " الفعل في الواقع" منزاحا بذلك إلى باراديغم جديد يستبدل الذات " كمركز"للوعي " بالواقع كوضعية معيشة. فقد وضع هذا الانزياح " الموقف الفلسفي" من الذات، أو بالأحرى ما يسمّى " بفلسفة الذات" موضع سؤال، بل موضوع " تظنّن" اعتبره " بول ريكور " " مناهضة للفلسفة" بالذات، في منزلتها ودورها وقيمتها من جهة علاقتها بالإنسان كائنا تاريخيا، لا بوصفه " فكرة " أو مفهوما، أو ذاتا كونية. إنّ قيمة الانعطاف الماركسي في تصوّر الفلسفة ومنزلتها، يطرح دون شكّ حدود قدرتها على التأثير في مجرى التاريخ، في واقع البشر. ذلك أن الأصل في الفلسفة وما يبرّر وجودها هو اضطلاعها بمهمّة "تحرير" البشر من الشروط والظروف والأوضاع التي تساهم في " اغترابه" أي فقدانه لإنسانيته. و بالفعل فقد كشفت فلسفة ماركس عن قدرتها على تغيير الواقع البشري يشهد بذلك قيام الثورة البولشيفية على أفكار ماركس وأتباعه. بيد أنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ تأثير أفكار ماركس على الواقع كان نتيجة التحامها بقرار سياسي بتواطؤ بين الفلسفة والسياسة(وتحولها إلى إيديولوجيا دواة) ومن غير ذلك ربما ظلت أفكار ماركس في حدود "صورة من صور الإمكان " لواقع متذهّن لا غير، كغيرها من الرؤى الفلسفية . وعلاوة على ذلك فإنّ تغيير "زاوية النظر " في تمثّل دلالة الفلسفة ومهمّتها لدى ماركس، ليس إلاّ لحظة "هامة" دون شك في تاريخ الفلسفة كان لها أثرها البالغ فيه، ولكنّها لا يمكن أن تختزل " الفلسفي" في تنوّعه وتعدّده وتشعّب مساراته بحكم " ذاتيته" وخصوصيته كقول يستند إلى " العقل"، ويتجه إلى مستمع كوني. ولا يختزل بالتالي وجوه تأثير الفلسفة وقدرتها على تغيير الواقع المعيش وأحوال الذات.  وبالفعل فإنّ الفلسفة تزعم منذ نشأتها انشغالها بالإنسان، تطلب حسن بقاءه والارتقاء بمنزلته الإنسانية، تطلب ذلك سواء كانت نظرا عقليا، تأملا أو أسلوب حياة...ولا يقتصر نظرها في واقع البشر ومعاشهم بل في وجودهم في كليته، في منزلتهم كذوات ...ولا ينحصر أثرها أو قيمة دورها في " تغيير واقع البشر " كما يزعم ماركس بل يتعداه إلى تغيير " مواقف " البشر إزاء وجودهم، إزاء الحياة والموت ورؤاهم للعالم، بل تغيير ذواتهم. ولكن إذا ما زعمت الفلسفة طوال تاريخها " انشغالها بالإنسان في دلالات مختلفة ومن جوانب عدّة، وتزعم أنّها تطلب " ارتقاء " بمنزلته، فهل كانت قادرة على أن تحدث أثرا عميقا في الذات الإنسانية، في مسارات تفكيرها وعلاقاتها مع ذاتها والآخر والعالم ؟

ولكن بأيّ معنى يمكن للفلسفة أن تغيّرنا ؟ كيف يمكن لها أن تغيّرنا بعمق إذا كانت لا تخرج عن دائرة الخطاب؟ أيّ فلسفة أو بالأحرى أي ممارسة للفلسفة تقدر على أن تترك أثرا في حياتنا؟ كيف للفلسفة أن تغير ما بأنفسنا، من طبائع وسمات وتوجّهات ومواقف ورؤى للحياة؟ هل يدرك " هذا التغيير" عمق ذواتنا، كما قد يلمس بنية الواقع أم يظلّ على سطح الوعي أثرا عارضا؟

يقدّم لنا تاريخ الفلسفة نماذج عديدة عن علاقات " خاصّة " بالفلسفة، للفلاسفة في مسار تجربتهم ومعاشرتهم للفلسفة، علاقات كان للفلسفة فيها أثرها العميق على ذواتهم؛ أثرا قد يحدث على عدّة وجوه ولكن ليس على نحو تلقائي اعتباطي دون شكّ بل في سياقات مختلفة :

-  بضرب من الإلهام الصوفي أو" تجربة حدْس " متفردة شأن ما كان من الغزالي  وما حدّثنا عنه في " المنقذ" من انكشاف الحقيقة وحدسها بنور "قذفه الله في قلبه" ؛ أو ما كان من" تبدّيات" باسكال كما حدثنا عنها في كتابه " أفكار"، وديكارت وحديثه في " التأملات" عن حدسه  فكرة "الكوجيتو المفكر " في لحظة  تأمّل وهو "جالس أمام المدفئة"، وما أحدثه ذلك " الكشف" الأشبه "بالكشف الصوفي " لفجائيته وطابعه "المتعالي"، من أثر على مساره الفلسفي بل وعلى مسار التفكير الفلسفي في العصر الحديث. ثمّ ما كان أيضا من " القديس أغسطينونس" في "اعترافاته" وحديثه عن " حدس " فكرة الزمن والذاكرة والنسيان الخ ..إنّ هذه التجارب الخاصة دون شكّ تشهد بأثر التفكير الفلسفي على "الذات "، أثرا ما كان ليحدث دون " صدمة" يتلقّاها الفكر و" أزمة " تحدث عطالة للفكر وحيرة تقوّض اطمئنانه إلى ذاته، إلى تمثّلانه السابقة،  ودون " قطيعة " مع ماضيه، بمناسبة "حالة وعي وإدراك" تفصل بين ماضي الذات وحاضرها.

- بمناسبة اشتغال الفكر على نفسه أو الذات على نفسها في تجربة تأمّل في الذات، في منزلتها الوجودية أو القيمية ... ولنا في سقراط  أو كيركجارد وربما بشكل مخصوص " ديكارت" أمثلة دالة على ذلك. فسقراط وبمنهج " التوليد"، بآلية " الحوار "، بالسؤال والجواب المنظّمين، كشف عن إمكان النفاذ إلى ما في الذات، ممّا نسيته(وكانت تعرفه من قبل حسب زعمه) أو  ترسّب لديها من معارف...وذلك بفعل التساؤل عن " ماهيات " الأشياء؛ السؤال الأساسي، التأسيسي الذي نسلك به طريق " الحكمة". أمّا ديكارت، فقد كانت تجربة الشك المنهجي لديه مناسبة لإعادة النظر في مكتسباته وتصوراته السابقة وإعادة بناء معارفه أو " إصلاح ذاته" على أساس متين لا يرقى إليه الشكّ.  وتشهد تجربة الشك المفرط هذه، والتي تذكّرنا من غير شك بتجربة الغزالي ولكن في سياق آخر، بإمكان الفلسفة أن تحدث تحوّلا جذريا في رؤية الذات لنفسها وللعالم، شريطة أن تضطلع بمهمّة التفكير في نفسها، أي بالتفلسف. وقد يكون كيكجارد هو الآخر مثالا على هذا الالتزام الفلسفي بالتفكير في منزلة الذات الوجودية، في شكل من " تدبير المتوحدّ" بعبارة ابن باجة الأندلسي؛ تفكيرا ينتهي بها إلى تحول جذري في نظرتها إلى ذاتها وإلى الوجود وإلى مهمّة الكائن بوصفه فردا كونيا في " نحت كيانه" وبناء منزلته الوجودية.

نستنتج من هذا أن ممارسة الفلسفة أو التفلسف بوصفه " تفكير المرء بنفسه" هي وحدها شرط ضامن لتغيير عميق للذات، تغييرا لا يمسّ " وجهة الفكر " بعبارة كانط ولا أسلوب تفكيره فحسب، بل يمسّ أيضا " كيفية وجود الذات ومنزلتها وأسلوب عيشها . وقد كشف لنا تاريخ الفلسفة عن "صورة الفيلسوف " الذي يتطابق فكره مع نمط حياته أو الذي كانت الفلسفة لديه لا " تجربة تأمل باطني " بل تجربة معيشية أو" فنّا للعيش"  بتعبير رواقي. هكذا كان سقراط وإبيكتات من قبل وكذا كان نيتشه وسارتر وغيرهما...ولكن ما بشأن دراسة الفلسفة أو مراودة " درس الفلسفة " في المعهد أو في الجامعة ؟ هل يمكن أن تكون مناسبة لإحداث مثل هذا التغيير؟

لا يمكن الزعم في نظري، بأن يكون " درس الفلسفة" في الثانوي أو حتى في الجامعة بل حتّى البحث الفلسفي الأكاديمي لدى مختصين في " الفلسفة"، مناسبة حقيقيّة لتجربة " فلسفية "لها أثرها العميق في الذات، إلاّ أن يكون التعليم الفلسفي أو تعلم الفلسفة أو البحث فيها، ممارسة للتفلسف حقّا، وهذا أمر لا يشهد عليه على الأقلّ واقع " درس الفلسفة " أو " البحث الفلسفي الأكاديمي" بما يعيشه من " صعوبات" وتعثرات، فضلا عن كونه " إطارا سطحيا" و "علاقة عارضة " في الغالب مع الفلسفة " المدرّسة" أو " تاريخ الفلسفة" بوصفه تاريخ أفكار ونظريات ومذاهب ...يدعى الطالب إلى الاطلاع عليها بوصفها "أثرا " للفكر الفلسفي لا بوصفها نماذج " يُحتذى بها في ممارسة التفكير الفلسفي أو التفلسف حقّا، له صلة واضحة وفعلية بمعيش " الطالب". خاصّة حينما يتوّج الدرس أو البحث في الفلسفة بتقويم جزائي أو إشهادي لا يختبر فيه الطالب في قدرته على التفكير الشخصي أو الاستعمال الذاتي لعقله بقدر ما يمتحن فيما اكتسبه من " معارف " فلسفية وفيما احتفظت به ذاكرته من آراء الفلاسفة. وحتى إذا ما شهد مسار تدريس أو تعلم الفلسفة ذاته بوصفه انخراطا في علاقة مع الفلسفة، تعني على الأقلّ اهتماما بها كمادة تعليمية  أو كتخصّص، من حالات تميّز وتفوق لبعض الطلاّب، نتيجة جهد ذاتي في التحصيل أو لعلاقة خاصّة مع "المدرّس"، يظلّ ذلك مع الأسف  نادرا  واستثناء لا يقاس به مدى تأثير الفلسفة على المتعلّم ولا على المعلّم . إذ قلّما تتوفّر للمدرس، إن لم نقل يعسر عليه، الظروف الملائمة ليكون " أشبه بالمدرّب  initiateurفي اليونان القديم le pédotribe، عارفا بأصول أي تمرين وكيفية تعليمه في شروط ملائمة. فلا يخفى على أحد ظروف تدريس الفلسفة اليوم وما يعيشه المدرس من " معاناة" تجعله أبعد ما يكون تقريبا عن أن يكون ذي تأثير عميق على المتعلّم، تأثير " الشيخ " على "المريد".إلا من حالات استثنائية نادرة كما أسلفنا. ولكن إذا ما استثنينا هذا " النشاط التعليمي" أي تدريس الفلسفة مما نزعمه من تأثير عميق للفلسفة على الإنسان، فهل يعني هذا أنه من غير الممكن لمن يرغب في " تعلّم التفلسف حقّا،أن يعيش هذه التجربة ؟ و إذا أمكن هذا فما هي وجوه وسبل تحقيقه ؟

علينا أن نسلّم أولا بقابلية تعلّم الفلسفة   l'éducabilité philosophique لدى أي منّا وفي سنّ مبكّرة حتى، انطلاقا من مبدأ " الحق في التفلسف" بعبارة داريدا. وبناء على هذا فلا شيء يمنع مبدئيا من ممارسة هذا الحقّ شريطة توفرّ الظروف الملائمة لذلك. ولا نعني بالظروف الملائمة ضرورة مراودة " الدرس الفلسفي" في المؤسسة التعليمية بالضرورة، بالرغم من الحاجة الأكيدة إلى المعلّم لكل فعل " تعلم"، بل يمكن أن نهيّأ الأسباب لتجربة فلسفية أو لعلاقة مع الفلسفة وذلك بـمناسبة:

-  " المطالعة" أو قراءة النصّ الفلسفي مباشرة، في تنوّعه، نصّا تأسيسيا خاصّة (نصوص أفلاطون أو أرسطو أو كانط..) نصّا أصيلا أو نص تحليليا تأويليا شارحا أو قارئا لفلسفة الخ... ولا نعني بقراءة النص الفلسفي هنا مجرد الاطلاع، بل فهما وتدبّرا أو بالأحرى حوارا مع النص أو كاتبه، مع الفيلسوف ؛ حوارا يسمح للقارئ أن يشتغل على ذاته، بمراجعة تمثّلاته وتصوراته وأفكاره المسبقة . يذكّرنا هذا بلقاء نيتشه بكتاب شوبنهاور " العالم بما هو إرادة وتمثّل" والذي يتحدث عنه نيتشه بإعجاب ودهشة و بأنّ قراءته أحدثت له رجّة قَلَبت رؤيته للأشياء رأسا على عقب. وكانت مناسبة حقيقية لاشتغال نيتشه على ذاته بل وتحويل وجهة مساره الفكري . ونتيجة لذلك فقد توطّدت علاقة نيتشه بشوبنهاور حتى كتب عنه :" شوبنهاور مربيا" وقد جاء فيه" :" أنا أحد قرّاء شوبنهاور الذين يقرؤون الصفحة الأولى، يمكنهم أن يقولوا بثقة إنّهم يقرؤون كلّ الصفحات وسينصتون إلى كلّ كلمة قالها ذات يوم. إنّني أفهمه كما لو أنّه قد كتب كل شيء لي، رغم أنّه أمر أحمق وغير لائق أن أطرحه بهذه الطريقة . إنّه صادق حتى ككاتب." (شوبنهاور مربيا- نيتشه - ترجمة قحطان جاسم . منشورات الاختلاف 2016 ص 125). غير أنّ نيشته، إذ يعترف بأثر نيتشه على مسار تفكيره الفلسفي، يؤكّد على أهمية فعل القراءة للنص الفلسفي بوصفها كما أسلفنا حوارا مع الكاتب، ويلحّ على معنى أن فعل القراءة هذا يحتاج إلى دربة وعناية فيقول:" لا يبدو أنَّ أحداً قد أدرك أنَّ القراءة والكتابة هي أنواعٌ فنية لا يمكن تعلمها بدون توجيه شديد العناية وتدريبٍ لا يكل. لكن لا شيء يظهر رضا معاصرينا الذاتي الأرعن أكثر وضوحاً وأشدَّ مدعاةً للخزي من المطالب المبتذلة، التي نطرحها بسبب البخل وانعدام الفكر على مُربيِّنا ومُعلمينا" (نفس المصدر).  بيد أنه لا يمكن لقراءة النص الفلسفي أن يكون لها أثرها العميق على الذات بوصفها فعلا تحرّريا، إن لم يجد القارئ في هذا النص ما يشدّه ويحفزّه على قراءته، أعني إن لم يتّصل بوجه من الوجوه بمعيشه أو يحرّك شعوره وفكره من حيث أنّه يزعجه ويقوّض اطمئنانه إلى يقينياته وأفكاره المسبقة. وإذا كان نيتشه قد أكّد على حاجة فعل القراءة إلى جهد ذاتي وتوجيه وعناية شديدة ودربة، فذاك لأنّ القراءة في هذا المعنى هي فعل " مزعج" مربك للذات تثير مقاومة الاعتقادات والتمثّلات التي ألفتها الذات لذلك فهي تحتاج إلى إرادة وعزم وإصرار. كما تحتاج إلى توجيه وإرشاد من عارف وخبير. إذ قد لا نحصل بفعل قراءة النص الفلسفي على ما نرغب فيه بل قد  يحدث أثرا عكسيا حينما تكون أولى قراءاتنا، و أوّل لقاء لنا بالفلسفة من خلال نصوص "عسيرة " ليست في متناول مبتدأ من قبيل كتاب : نقد العقل المحض " لكانط وغيره . فقد يكون من النسب في هذا الباب أن نبدأ قراءاتنا بنصوص فلسفية أيسر تناولا، كمحاورات أفلاطون مثلا .

- بمناسبة اللقاء بمعلّم، أو بأستاذ في مسار دراسي أو حياتي . لقاء يسمح لنا بالتعرّف على "نموذج " بشري متفرّد، على شخصية ممتازة، على قدوة أو مرشد ينير سبيلنا في هذه الحياة. لقاء بمثل ما كان بين نيشته وشوبنهاور، حينما تحوّل شوبنهاور بالنسبة إلى نيتشه إلى "مثل أعلى " ملهم بل إلى " صديق" لا غنى عنه. إذ يقول شوبنهاور عن هذا :" ثلاثة أشياء تمنحني الراحة من عملي، وهي لحظات نادرة : شوبنهاور وموسيقى شومان وجولات العزلة "(من رسالة نيتشه إلى صديقه كارل فون جيرسدروف في 7 أفريل 1872). ويمكن أن يكون لمدرس الفلسفة مثل هذا الأثر خاصّة إذا كان جديرا بهذا الاسم، يملك عناصر جذّابة لا في شخصه، في تعامله فحسب بل فيما يطرحه من أفكار وآراء . يشهد بهذا لقاء إيميل شارتييه المكنىّ بآلان بأستاذه جيل لانيو وكلاهما قد نحت لنفسه منزلة في تاريخ الفلسفة بوصفهما خاصّة نموذجين " لمدرس ناجح وذي تأثير واسع" على " المتعلّمين" . يقول آلان عن أستاذه جيل لا نيو حديثا مفعما بالإعجاب الشديد، بل بمحبّة خاصّة كانت أكبر محفّز له في الاشتغال بالفلسفة وبتدريسها والتميّز في ذلك كما يشهد تلاميذه فيما بعد:" أعظم إنسان التقيته (..) كان جيل لانيو رجلا أشقر ذي لحية، طويل القامة ومستقيم الهامة.  ليديه ووجهه ورقبته بقع شقراء ذهبية(...) وما يدهش أولا هو أنّ له جبين مفكّر، هو ضرب من " القبّة" تبدو متقدّمة فوق عينيه؛ وجبينا مرتفعا، عريضا يبدو عظيما من خلف..." ويضيف: " كان لآلان صرامة القديس، لكنّه كان يجهل وجودنا المغامر"، "لا يريد هذا الرجل أن يكون رجل دين، وقد كان كذلك في معنى عميق". "لا يفكّر لانيو بالمرّة لاهوتيا ولا سياسيا ولا من أجل السعادة ولا من أجل الفضيلة؛ بل دون سند من أحد في هذا العالم، ممسك دوما بالدليل بين أصابعه؛ واثقا، ومؤكّدا لمنزلته كإنسان؛ دائم الحفر، يعثر دوما على ما يريد؛ غنيا جدا بالعالم من حوله. ويبدو لي أحيانا أنّه عبقري هذه الأرض"(sآلان، الأهواء والحكمة - ذكريات متصلة بجيل لانيو - Pléiade, 1960/ ص.709-711 -و 730- 759).

ولكن، ما كان لهذا التأثير البالغ أن يحدث لدى آلان " المتعلّم" لو لم يكن " أستاذه جيل لا نيو أستاذا مميّزا بارعا وجذّابا ومخلصا لعمله . فقد كان نموذجا للتفاني والإصرار على بذل الجهد في التفكير وكان يعدّ درسه بعناية فائقة ويصرف في ذلك وقتا طويلا حتى أنهكه ذلك وأثقل كاهله ومنعه عن تحصيل الشهادات العلمية التي تؤهله لمراودة المدارس الراقية إلا في بعد مضي سنين  طويلة من عمره،كما يروي ذلك آلان. لقد وجد تلاميذه ومنهم آلان وغيره في هذا المدرّس- الفيلسوف، ضالتهم ومصدر إلهامهم وقدوتهم فانشدوا إليه وانتهجوا بفعل تأثيره منهجه في التفلسف وفي تدريسه . فكان لهم ما كان له من منزلته بل ربّما تفوقوا عليه أو لنقل تميّزوا عنه "فلسفيا".  لكن، إذا كانت لعلاقة آلان  بلانيو من الخصوصية ما يجعلها ربّما نادرة ندرة علاقة نيتشه بشوبنهاور أو علاقة أفلاطون بسقراط أو أرسطو بأفلاطون من قبل، خصوصية قد لا نعثر عليها ربما اليوم في واقع "تدريس الفلسفة"، وفي علاقة أستاذ الفلسفة بتلاميذه، فذاك لا ينفي إمكانها وجودها وإن على نحو حصري قابل للعدّ. إذ تظل مع ذلك إمكانية فعلية تحدث فيها الفلسفة أثرها العميق على " المتعلّم"، على المشتغل بها، على وجه " الاقتداء" بنموذج " الأستاذ" كشخصية "ممتازة" بعبارة برجسون. ويكون الأمر على أفضل حالاته حينما يكون هذا الأستاذ، فيلسوفا كما هو شأن من ذكرنا أو كما قد نذكر مما يعرف عن سارتر وجورج كانغيلانم وغيرهما في عصرنا من تميّز كفلاسفة مدرّسين. ولكن إذا سلمنا بقدرة الفلسفة على أن تغيرنا في ملابسات معينة فعلي أيّ وجه يحدث هذا التغيير ومن أيّ جهة فينا نلمسه ؟ ما الذي تغيّره فينا ؟

إنّ قراءة النص الفلسفي ومعاشرة المشتغلين بالفلسفة توقفنا على خصوصية الخطاب الفلسفي كخطاب عقلاني يتميّز بالكلية والبعد الإشكالي والمفهومي وبكونه خطابا حجاجيا. من هنا فإنّ اللقاء بالفلسفة على نحو ما ذكرنا يؤدّي بالمشتغل بها إلى تحصين نفسه أوّلا من ضروب التعصب والدغمائية تجاه الأفكار والآراء الجاهزة. وذلك بحكم تدربه على ممارسة فعل التساؤل والشك والنقد ..كإجرائيات للفكر الفلسفي. من هنا يتعلّم المرء عدم التسرع في الحكم على الأشياء والتماس الحجة في الإثبات أو النفي، وفحص الرأي قبل الحكم عليه..وهو ما يمنح المرء " أصالة" أكثر في الرأي والحكم ويجنبه التقليد والمحاكاة ...فضلا عن اكتسابه الثقة وامتلاك القدرة على مواجهة نفسه (آراءه وتمثلاته) ومواجهة الآخر في " النقاش " أو في الحوار الهادئ الرصين، وبالتالي المرونة في التفكير والحكم؛ فضلا عن الدقة والتحديد والقدرة على التمييز..  ولما كان الفكر "كلي" وأفق كوني، فإنّ الاحتكاك به فكرا لفكر يسمح للمرء بالتحرّر من "فردية " ضيقة و امتلاك القدرة على توسيع دائرة التفكير والتأويل والقدرة على التأليف. ولا يقتصر أثر الفلسفة على من تدرّب عليها أو عاشر نصوصها..، على صعيد الفكر بل يتعدّاه إلى معيشه، في علاقته بنفسه و بالآخرين وفي رؤيته للعالم وفي تصرّفاته عموما. إذ سيقتفي أثر الفلاسفة والحكماء في جعل "التفلسف" لا صورة لعمل الفكر فحسب بل نهجا في "العيش" على نحو ما كان لدى الرواقيين أو حتى "الكلبيين" أو غيرهم..

يمكن الإقرار إذن، والحال هذه، أن الفلسفة قادرة على تغيّرنا على أكثر من صعيد، ذهني، ومعرفي وإيتيقي ووجودي الخ.. ولكن شريطة أن يكون لنا استعداد ذاتي نتّجه بموجبه إلى الفلسفي، من خلال النص أو من خلال شخص مدرس الفلسفة أو المشتغل بها لا بوصفه "خبيرا" فحسب، بل بوصفه " محبّا " كما يعنيه مفهوم " الفلسفة " ذاته في دلالته الاشتقاقية لدى اليونان القديم. وهو ما يعني أن لا إمكان للفلسفة أن تغيّرنا دون علاقة " حبّ"، في معنى "ميل إلى " أو"رغبة" في " التفلسف". غير أنّ هذا الحب أو الرغبة لا يسبق فعليا - وغن سبقها منطقيه- ممارسة الفلسفة أو " معاشرتها على وجه من الوجوه، بل يتولّد أو ينشأ من فعل المعاشرة بالذات، حينما يتوفّر انضباط للدرس والتزام وإصرار على " التعلّم" . فليست " محبة الفلسفة " أو الحكمة ميلا طبيعيا للذهن، بل هي حاصل جهد وإجهاد للفكر وتدرّب " عبر عنه " أفلاطون " بتعلّم الموت"، ولكن من أجل الحياة. إن تعلّم التفلسف هو في الحقيقة تعلّم " حبّ الحياة". من هنا فإنّه بقدر إصرارنا على " الحياة " على نحو أفضل بقليل حتى، يكون إصرارنا على " تعلم التفلسف" فيكون للفلسفة إذن أثرها البالغ فينا في حياتنا وعلى جميع المستويات.

 

عبد الوهاب البراهمي

 

 

في المثقف اليوم