أقلام فكرية

هل كان سبينوزا ملحداً؟

باروخ سبينوزا(1632-1677) صانع النظارات والعبقري الفلسفي، كان قد عاش حياة عميقة. هو ابتُلي ليس فقط بالفقر المدقع وانما ايضا بالاغتراب الروحي. في عام 1656 طُرد من الكنيس اليهودي ونبذته الجماعة السفاردية في امستردام بسبب الهرطقة في آرائه بما في ذلك انكاره لخلود الروح والأصل الالهي للكتاب المقدس. ورغم هذا، يتم اليوم تذكّر سبينوزا كمتسامح مؤمن بوحدة الوجود، مخلص بعمق لدينه. ولكن في الكتاب الشهير لعام 1930(نقد سبينوزا للدين)، أثار الفيلسوف السياسي اليهودي ليو ستراوس في شيكاغو (1899-1973) سؤالا لمفسري سبينوزا مازال مدعاة للنقاش الساخن اليوم. ورغم تمجيده الظاهر لله، هل يمكن ان يكون سبينوزا ملحدا حقا؟

للوهلة الاولى، أي محاولة لإعطاء سبب لإلحاد سبينوزا هي محاولة ضعيفة. في كتابه الشهير الذي نُشر بعد وفاته (الأخلاق، 1677)، خُصص جزء هام من الجزء الاول من الكتاب لإظهار وجود الله. كذلك، استنتاج الكتاب هو ان الحياة الجيدة ليست الا الحب الفكري في الله. هذا يبدو دليلا قاطعا على ان سبينوزا آمن في الله. لكن الموقف يصبح اكثر تعقيدا حالما نوسع تحليلاتنا لسبينوزا لتشمل أعماله الاخرى وخطته السرية المعقدة التي تدعم جداله في (الاخلاق). هذا هو الاتجاه الذي سلكه الألماني لودفيج فيورباخ (1804-1872)، الذي سبق ستراوس في الجدال بوجود عقيدة سرية مختبئة في أعمال سبينوزا.

ربما اكثر االتعابير الحية في أذهان قرّاء سبينوزا عند قراءة (الاخلاق) هي "الله ام الطبيعة". هدف التعبير هو التأسيس بان ما قصده بـ "الطبيعة" منذ البداية هو "الله". غير ان فيورباخ اعترف بالمضامين المقلقة هنا. في كتابه غير المترجم (تاريخ الفلسفة الحديثة من باكون الى سبينوزا، 1833)، هو يكتب عن سبينوزا بان مبدأ الحقيقة هو ("اما الله او الطبيعة") .

لماذا يعتقد فيورباخ ان مساواة سبينوزا لـ الله مع الطبيعة يقود الى تحطيم الله؟ الله ككينونة خارقة للطبيعة، يُفهم عادة في سياق تعريف سبينوزا للنظام الطبيعي. لكن اذا كان الله فقط اسم آخر للنظام الطبيعي، عندئذ لا شيء هناك متجاوز في الوجود. غير ان شيئا ايمانيا واضحا يمكن استعادته من تفسير سبينوزا، اذا كان راغبا في ان ينسب للكون صفات شخصية مثل القصدية او الرغبة. بهذه الطريقة، حتى لو ان الله هو الطبيعة، على الأقل ان شيئا مما نعنيه في الحالة الاعتيادية عندما نقول "الله" لايزال يُقال عن الطبيعة.

الطبيعة ام الله؟

في مساواة الله مع الطبيعة، لاشك ان الطبيعة تأخذ الدور المهيمن بالنسبة لسبينوزا، طالما هو يزيل من الواقع كل شيء لا يمكن القول عنه الطبيعة وانما يمكن القول عنه الله. فمثلا، هو دقيق جدا في الإصرار على ان الطبيعة ذاتها تفتقر لأي مواقف هادفة، وان هذه المواقف اُدخلت من خلال خرافات الانسان:

"كل الميول والتحيزات التي أطرحها هنا تعتمد على ان الانسان عموما يفترض ان كل الاشياء الطبيعية تتصرف، كما يتصرف الانسان، بسبب غاية. في الحقيقة، الناس يؤمنون ان الله ذاته يوجّه كل الأشياء لغاية معينة، لأنهم يقولون ان الله صنع كل الاشياء لأجل الانسان، والانسان هو الذي يعبد الله".(الاخلاق، الجزء الاول، الملحق)

هناك القليل الذي يمكن الاعتراف به في إله سبينوزا حول هذه الخصائص الايمانية كغاية او نية. وحتى مع هذا، نقص الغاية وحدها لايزال غير كاف لإزالة الله من انطولوجيا سبينوزا. فمثلا، قد يكون هذا هو الحال بالنسبة لسبينوزا، كما في بعض الاديان الاخرى، بان الله هو اخلاق تفتقر الى الغايات، وان الكائن الانساني لا يلعب أي دور خاص في تصميمه الأعظم (اذا كان هناك حقا أي تصميم).

كذلك، قارئ سبينوزا يجب ان يتعامل مع حقيقة ان تقسيم سبينوزا للطبيعة بين مستويين – الطبيعة كقوة خالقة natura naturans والطبيعة كعالم مخلوق natura naturata – احداهما فقط هي المادة الالهية في عنصرها المنفرد. بعبارة اخرى، اذا كنا نعني بـ "طبيعة" فقط العالم المادي للجسيمات دون الذرة والمجالات الكمومية والقوانين الطبيعية، فان سبينوزا من الواضح غير ملحد، لأن هذا العالم المادي يشكل فقط نصف الطبيعة في تفسير سبينوزا، وتبقى هناك حقيقة القوة الخالقة، او المادة الالهية التي تعبّر عن نفسها من خلال عدد لا متناهي من الصفات.

المشكلة الرئيسية في القراءة الإلحادية لسبينوزا، باختصار هي اولاً، انه ليس من الصعب ان ملحدا قد يوافق على إله غير مختلف وغير انساني كما هي طبيعة سبينوزا، وثانيا، ان سبينوزا يبدو انه يؤكد حقيقة وجود واقع أعلى يجب ان لا يرتاح له الملحدون.

لا حاجة لعواطف حزينة

لحسن الحظ بالنسبة لمعسكر الملحدين هناك طرق مقنعة لحل كلا المشكلتين. في الحالة الاولى، انظر جواب Gilles Deleuze (1925-1995)، وهو قارئ آخر بارز لسبينوزا يطلق على سبينوزا صفة ملحد، ديليوز يبرر هذه الوصفة كـ "نقد حاد لجميع العواطف الحزينة". هذا النقد هو ليس للحد من قدرة الناس على تسمية أي شيء يريدون تسميته بـ "الله". في ذلك المعنى الساذج، "الله" لا يمكن ازالته ، وذلك بسبب العلاقة العشوائية بين الكلمات والاشياء التي يشيرون اليها. ديليوز ايضا لا يعني ان الايمان بإله هو ذاته عواطف حزينة – في فلسفة سبينوزا، العواطف الحزينة هي شيء ما يقلل قوتنا على الفعل، انها تتضمن عواطف منهكة مثل اليأس. ان "نقد جميع العواطف الحزينة" يعني شجب ظروف الحياة التي في ظلها يجب ان يؤمن الناس بالله – في شيء ما أبعد - لكي يجدوا قناعة في وجودهم. ولهذا هنا نحن يجب ان نأخذ كلمة "الله" بمعنى أبعد ليعني خالق فوق الطبيعة.

في ربطه بين إلحاد سبينوزا المفترض وشجب جميع العواطف الحزينة، ديليوز يأخذ ضمنا اشارة من كارل ماركس. عندما عبّر ماركس مرة بأن، "الدين هو حسرة المخلوق المضطهد، قلب العالم الذي لا قلب له، وروح الظروف التي بلا روح. انه افيون الشعوب" (مساهمة لنقد فلسفة الحق لهيجل، 1844) – بواسطته يعني ماركس ان الدين يخدع الناس في قبول الظلم، عادة ضد مصالحهم الخاصة. ونفس الشيء، في رسالة في اللاهوت والسياسة (1670)، سبينوزا يصف اختراع الخرافة في العبارات التالية:

"ضحايا الخرافات الرئيسيين هم اولئك الافراد الذين يطمعون بشراهة في المزايا الدنيوية، (خاصة عندما يكونون في خطر ولا يستطيعون مساعدة انفسهم) سوف لن يتوسلون المساعدة من الله بالصلوات والدموع: يوبخون العقل باعتباره أعمى لأنه لايستطيع بيان المسار المؤكد للضلال التي يتبعونها، ويرفضون حكمة الانسان باعتبارها تافهة، لكنهم يعتقدون بأشباح وأوهام التصورات والأحلام والسخافات الطفولية الاخرى، لتكون أجوبة السماء".

من اللافت انه عكس العديد من المؤيدين للإلحاد اليوم، هدف سبينوزا هو ليس توبيخ المؤمن وبالتالي تضخيم غروره. بدلا من ذلك، سبينوزا يصرح عن دافعه "ليس السخرية من افعال الناس، ليس البكاء عليهم، ليس كراهيتهم، وانما لفهمهم". من الواضح، ان معارضة سبينوزا للعواطف الحزينة هي اشارة لفلسفة هدفها ليس السخرية من المؤمنين المخلصين وانما ليجد اقصى تعاطف مع المضطهدين، وللكفاح معهم لإعادة بناء الواقع بدون هذه العواطف .

هذا التصريح عن الشكوكية المضادة للخرافة لدى سبينوزا يواجه آخِر نقطة خلاف قبل ان يُسمّى دليلا على إلحاده. هو ربما يؤمن ان الناس يتجهون نحو الخرافة اساسا لمجاراة تعاستهم المادية، مع التأكيد في نفس الوقت ان هذه العقيدة تشير نحو شيء ما حقيقي. بكلمة اخرى، النقد الماركسي للدين يفيد فقط في توضيح لماذا يعتقد الناس في الله، وليس للاستدلال على ما اذا كان او لم يكن هناك إله في المقام الاول. وللاجابة على هذا السؤال الأخير، لابد من البحث عن مزيد من التفاصيل في كتابات سبينوزا.

الانقسام الطبيعي

ان عملية انقسام الطبيعة بين الطبيعة كقوة خالقة، والطبيعة كعالم مخلوق ظهرت اولاً في عمل اسبينوزا الفكري بين الأعوام 1660-1662، في عمله (الرسالة القصيرة)الذي هو ذاته أول مسودة لكتاب (الاخلاق). في (الاخلاق)، يوضح سبينوزا ان القوة الخالقة هي حقيقة الجوهر الديني والعديد من الصفات اللامتناهية التي تشكل ذلك الجوهر، بينما العالم المخلوق هو حقيقة الاشياء المادية، بدءاً من الصخور التي في البيت والتي هي "أشكال متناهية" نزولا الى القوانين الاساسية للطبيعة والتي هي "أشكال مباشرة لامتناهية"، تأتي الى الوجود كتعبير قوي عن صفات الجوهر الواحد للحقيقة. لكن سبينوزا، في استمرارية الفصل بين الطبيعة كقوة خالقة والطبيعة كعالم مخلوق طوال عمله المهني ذلك يُعد هاما للقراءة الإلحادية لعمله. الصورة الطبيعية للواقع، والتي يُحتمل ان يقبل بها الملحد، سوف لن تتضمن مستوى آخر مختلف من الواقع فوق مستوى العلم الطبيعي وقوانين الطبيعة. غير ان القوة الخالقة هي فقط هذا المستوى الاضافي. لكن لا شيء من هذا التمييز يظهر في عمله (رسالة في اللاهوت والسياسة، 1670). في الحقيقة بالضد من ذلك تماما، طالما هنا هو يؤكد ان القول "كل الاشياء تحدث طبقا لقوانين الطبيعة" و القول "كل الأحداث اُمرت طبقا لأوامر وارشادات الله" هما طريقتان للتعبير عن حقيقة واحدة.

ان التمييز بين هذين المستويين من الخلق الطبيعي يختفي لفترة في عمل اسبينوزا المهني وهو يكتسب أهمية حاسمة لمعرفة ما اذا كانت القراءة السرية لسبينوزا صحيحة. هذا التغيير الثانوي في التفكير يبدو مثيرا وايضا توضيحيا جدا لتطور اسبينوزا الفكري. من بين اولئك الذين درسوه، وجدوا سبينوزا مشهورا بالدقة العالية التي يستعمل فيها اللغة. هذه القوة والحيوية قادت الى رفض كامل التفسيرات الخاصة بسبينوزا بسبب فشل مؤيديه في توضيح اشياء ثانوية مثل استعماله لصفة معينة. لو ان هذا الشذوذ في السيرة العقائدية وُجد في أعمال أي فيلسوف آخر، سيكون مُتجاهلا بشكل واسع، ومن الصعب بناء أرضية ترتكز عليها أي ادّعاءات بعقيدة باطنية . ولكن لأننا نتحدث عن اسبينوزا، فان التوضيح يصبح مرغوبا. في اثناء حياته نشر سبينوزا فقط كتابين: مبادئ الفلسفة الديكارتية و رسالة في اللاهوت والسياسة. (الاخلاق) والعديد من الأعمال الاخرى القصيرة، مثل (رسالة حول تصحيح الفهم)، كانت جميعها اكتُشفت ونُشرت بعد وفاته من قبل أتباعه. من بين العملين اللذين نُشرا اثناء حياته، فقط الاول طُبع باسم سبينوزا. وبالرغم من هذا، جرى تعقّب مؤلف كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة بسرعة له، وبعد ذلك اكتسب سمعة كونه ملحدا خطيرا، خاصة بين اولئك الذين قرأوا العمل. جوتفريد ويلهيلم ليبنز (1646-1716)، أحد المعاصرين لسبينوزا، وصف الكتاب بالكلمة اللاتينية "male" التي تعني "الشر".

كان سبينوزا قلقا من الاضطهاد الديني. هو اختار نشر رسالة في اللاهوت والسياسة باسم مجهول بسبب تجاربه السابقة ليس فقط على ايدي الجماعة السفاردية التي طردته، وانما ايضا بسبب الاذى الكبير الذي لحق بصديقه ادريان كورباخ عام 1668 لإعتناقه آراء مشابهة. في ضوء هذه المعرفة. ان إختفاء طبيعية رسالة اللاهوت والسياسة في آخر كتاب الاخلاق، وإعادة ظهورها هناك في التمييز بين الطبيعة كخالق والطبيعة كمخلوق، سوف تخدع القرّاء المؤمنين. ولكن في إله سبينوزا او الطبيعة، تلعب الطبيعة الدور الحاسم. لماذا اذاً كان من الضروري إدخال اسم "الله"؟ ربما كان فقط للافصاح عن رسالته بكلمات سيستمع اليها معاصروه. هذه الرسالة التي استدل عليها ليبنز كانت " لا سعادة سوى هدوء الحياة هنا والاقتناع بما دون الرضا" (طائفتنان من الطبيعيين، 1680).

يرى سبينوزا ان التحدث بلغة الإيمان كان الطريق الوحيد المتوفر نحو كسب الجمهور، وهي لغة يسمعها الأكثر يقظة من بين اولئك الناس. الإلحاد كان يسعى للجدال ليس فقط حول عدم وجود الله الشخصي، وانما للجدال حول خطأ رجال الدولة في صنع عالم يكون فيه الايمان بالله ضروريا لسعادة الانسان.

***

حاتم حميد محسن

...................

Was Spinoza Actually An Atheist? Philosophy Now, Aug/Sep2022

في المثقف اليوم